كردستان وقضية الأكراد بمنظور إسلامي

تاريخ القضية جزء من تاريخ قضايا المسلمين وكذلك مستقبلها

مصطفى البرزاني: أفضل أن أكون جنديا في دولة إسلامية، على أن أكون رئيسا في دولة علمانية

92
خارطة توزع الأكراذ سكانيا


pdf word

ورقة بحثية

نشرت يوم ٢٠ / ١٢ / ١٩٩٢م في جريدة “المسلمون” التي كانت تصدر في السعودية، ويوم ١ / ٣ / ٢٠٠٧م في موقع إسلام أون لاين عندما كان يحرر ويدار في القاهرة

*     *     *

المحتوى:
عضو من جسد واحد
الأرضية المشتركة مع قضية الأكراد
اللعبة الدولية في قضية الأكراد
بين تمزيق الصفوف وإصلاح الطريق
الموقف الإسلامي المطلوب

*     *     *

هذي جراحٌ من جراحاتٍ لها

نزفٌ كما قطع الوتينَ المبضعُ
إلى متى يلهو الطغاةُ بأمرنا
وننامُ عن أفعالهم أو نهجعُ
هذي جراحٌ لا يكون شفاؤها
إلاّ بما أوصى بهِ المشفّعُ

عضو من جسد واحد

في كثير مما يقال شعرا أو نثرا عن أوضاع المسلمين هذه الأيام، أصبح من العسير أن نميز، هل قيل في المسلمين من الهند، أم فلسطين، أم بورما، أم الشاشان، أم البلقان، أم سوى ذلك من أراضي المسلمين المستباحة في أنحاء الأرض، فقد تعددت المآسي والنكبات، واستعصى التمييز فيها بين دماء ودماء مما يُراق، سيان إلى أي نسب تنتمي الشعوب المسلمة في الوطن الكبير الممزق، وهذا ما يسري على مأساة المسلمين الأكراد. وما العجز عن التمييز بين المآسي في ميدان الشعر والأدب، إلا نتيجة تلقائية لاستحالة التمييز أو الفصل بين فئات وأخرى في صفحاتِ تاريخ المسلمين المشترك، وواقعهم المعاصر، ومصائرهم المستقبلية.

الأكراد جزء من ذلك كله، كانوا كذلك منذ عم الإسلام أرضهم في عهد الفاروق رضي الله عنه، ولا يزالون كذلك إلى اليوم. هم قطعة من الجسد الإسلامي الواحد، في عهد صحته، عندما اجتمعت له أطراف الأرض ما بين المحيطات الثلاث، فكانوا كسواهم مصدر عطاء وبناء وعلم وحضارة وجهاد وتضحية. وما يزالون قطعة من هذا الجسد وقد فتكت به الأمراض حتى العظم، فأصبحنا في أيامنا هذه لا نميز بين أنياب وأنياب تنهش في الجسد الواحد، ولا نقوى على مجرد الحراك ليتداعى بعضنا على بعض بالسهر والحمى، بل بلغ الأمر بالمسلمين أن كل فريق بات ينادي ويستغيث لنفسه، ويتساءل علام لا يجيبه الآخرون، وهم -مثله- يستغيثون وينادون أيضا، ولعل أسوأ ما في هذا الوضع، أننا أصبحنا متفرقين متمزقين وربما متعادين متشاحنين، حتى في “المسلخ”!

لا بد عند النظر في قضية أي فريق من أبناء الجسد الإسلامي الواحد، من العودة بالعضو إلى جسده أولا، ولا بدّ أن يكون هذا المنظور هو الذي ننظر به إلى سائر قضايانا وسائر شعوبنا الإسلامية، دون تمييز، من قلب ما تسيطر الصين عليه، وحتى الصحراء الغربية / المغربية. وإننا لنجد الأكراد بهذا المنظور جزءا لا يمكن فصله، وقطعة لم تكن تتميز قط عن سواها في عصور سيادة الإسلام وحضارة المسلمين، أيام برز العلماء الأفذاذ من مختلف الأنساب، فلم يسأل أحد عن نسب أحد إلا اعتزازا به لا تميزا عنه، وأيام برز القادة المجاهدون من مختلف الأنساب أيضا، فلم يسأل أحد عن نسب أحد إلا تعاونا معه لا تعاليا عليه، وأعترف بأنني لم أحاول التحقق إلا جزئيا فيما تقول به مصادر الإخوة الأكراد عن أنساب عدد من العلماء والدعاة والقادة في العصور التاريخية الماضية وفي العصر الحديث، ولا أشعر بحاجة إلى ذلك أصلا، ولكن حتى في حالة الاختلاف بين المحققين على اسم أو أكثر، لا تتبدل النتيجة، فلا يستطيع أن يفصل من تاريخ الإسلام والمسلمين، ما صنع شيخ الإسلام ابن تيمية، أو المؤرخ الكبير ابن الأثير، أو العالم الفقيه ابن حجر، أو السلطان القائد صلاح الدين الأيوبي، وبعضهم من الأكراد نسبا على الأرجح، وبعضهم بصورة قاطعة كصلاح الدين، وسواه من قائمة طويلة، مثل عيسى الهكاري، وكمال الدين الهرزوري، أم هل نريد أن نستثني في ميدان نبوغ النساء المسلمات في ميادين العلم والمعرفة، ما كان من نصيبٍ حملته شهدة الدينورية وعائشة التيمورية وأسماء وجويرية ابنتا أحمد الهكاري وسواهن؟
هل نعلم من تاريخ البشرية اندماجا عضويا كاملا في بوتقة الإسلام، أكثر من هذا الاندماج الذي يجعل بعضنا يتساءل: هل كان هؤلاء من الأكراد وأرض كردستان فعلا، أم من أرض العرب، أم سواها؟

هل نتصور من منطلق منهجي، أو عاطفي، أو حتى تعصبي، إمكانية أن نقول هذا الجزء من تاريخنا الإسلامي هو جزء عربي، وذاك كردي، وذاك تركي أو فارسي أو سوى ذلك؟

يجب أن يكون واضحا كل الوضوح أن إعطاء وصف من هذه الأوصاف القائمة على النسب وحده أو على اللغة أو على الزعامة والسيطرة في حقبة من الحقب، على التاريخ، أو على الأرض، لا يعني الكذب على التاريخ والحق فقط، بل يعني في الوقت نفسه ضربة موجهة إلى مصالحنا الذاتية، الآن وفي المستقبل، سيان إلى أي فريق انتسبنا.

الأرضية المشتركة مع قضية الأكراد

لهذا أيضا لا بد من القول، إن ما أوجد في واقعنا المعاصر قضية عنوانها قضية الاكراد أو قضية كردستان، لم يكن نتيجة أن “الأكراد” اصطنعوا هذه القضية، وإنما يعود ظهورها كسواها، إلى مجموع ما ابتليت به أمتنا وبلادنا في تاريخها الحديث من نكبات وإلى حقيقة أن أوضاعنا جميعا قد قامت على ما خلفه الاستعمار الأجنبي، وما أوجده من وسائل لترسيخ حدود جديدة، واتجاهات مستوردة، وخلافات مزمنة ومتجددة، وكان يكفيه بعد ذلك الانتظار، فإذا أشعلت الخلافات المحلية فتيل أزمة جديدة بعد أزمة، عاد إلى السيطرة في ثوبين، ثوب صديق يعين أحد العضوين المتجاورين من الجسد الواحد، وثوب مهاجم يعادي العضو الآخر، ويبقى هو الكاسب ويخسر الطرفان.

وإن لم تشتعل تلك الخلافات من تلقاء نفسها، فقد أصبح لدى القوى المهيمنة عالميا حصيلة كبيرة من نتائج جولات تاريخية سابقة للاستشراق والتبشير فالاستعمار العسكري والاقتصادي من قبل، وأبرز تلك النتائج ركائز وأدوات محلية تكفي لتثير أزمة ما، فيأتي العدو الخارجي أيضا في ثوبي صديق ومهاجم وهو في الحالين سواء، إذ ينهش تارة من هنا وتارة من هناك من الجسد الواحد، وقد يستعين بأنياب محلية لتحقيق ما يريد، والنتيجة واحدة أيضا: مزيد من التشرذم ومزيد من الضعف الشامل للجميع.

لقد تعرض شعب الأكراد المسلم بالذات إلى هضم حقوقه الأساسية على كل صعيد، وتعرض للمجازر والمذابح الدامية، وأصبح في الفترة التاريخية الحديثة بصورة خاصة ما بين السندان والمطرقة، داخل لعبة دولية-إقليمية خطيرة، حتى لتكاد الأحداث الجارية توهم المخلصين الصادقين بعدم إمكانية الوصول إلى رأي صائب قاطع في هذه القضية، فإذا سئل مخلصون من الأكراد عما يصنعه بعض زعمائهم، وقد يوصل البلاد إلى السيطرة الأجنبية المباشرة، جاء الجواب بصدق: وما عساهم يصنعون بعد أن صُنع بالأكراد ما صنع؟ وإن سئل مخلصون من غير الأكراد عما يتطلع إليه الأكراد من أهداف مشروعة، وحقوق مهضومة، وحريات منتهكة، جاء الجواب بصدق أيضا: وهل يمكن تحقيق مطالبهم وفصل قضيتهم بذلك عما يمكن أن يترتب عليها في المنطقة بمجموعها؟
إن طرح القضية في صيغة معضلة لتسويغ كل ما يمكن أن يجري تحت عنوانها، هو بحد ذاته جريمة ترتكب في حق الأكراد وقضيتهم، وشعوب المنطقة معا، وليس في الأمر معضلة، وإنما هو المنظور الذي يراد وضعه لها، والحيلولة دون سواه، لا سيما ما يمكن أن يجعل الأهداف المشروعة للأكراد، كالأهداف المشروعة للعرب، والأتراك، والفرس، وسواهم، أهدافا إسلامية إنسانية وطنية مشتركة لا تميز بين فريق وفريق منهم.

وما قضية الأكراد في كلياتها الكبرى إلا واحدة من قضايا الشعوب الإسلامية الأخرى، فالحرمان من تقرير المصير بات مشتركا، حتى مع كثير من الشعوب التي تعيش فيما يوصف بالدولة المستقلة، والاستبداد يجثم على الصدور حتى وإن صورت وسائل الإعلام أصحابها يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في هذا البلد أو ذاك، بل حتى الحرمان من اللغة الأم كما صُنع بالأكراد وهم يعيشون في أرضهم داخل حدود دول إسلامية والذين يجمعهم مع سواهم الإسلام الذي لم ينتشر قط في أرض وحَرَم أهلها من لغتهم أو تميزهم أو عاداتهم المشروعة، حتى هذا الحرمان من اللغة الكردية الأم، يتزامن تاريخيا مع حملات تشويه اللغة الأم والحرب عليها في نطاق الشعوب المسلمة الاخرى، تارة عبر اللهجات العامية وعبر غزو لغوي أجنبي واسع النطاق، كما هو الحال مع اللغة العربية في أرضها حاليا، وتارة أخرى عبر فرض الحروف اللاتينية الفاصلة بين أصحاب اللغة الأصلية وتاريخهم وتراثهم الثقافي والأدبي والفكري والحضاري، كما هو معروف عما صنعته علمانية مصطفى كمال في تركيا منذ عشرات السنين.

إن كل نظرة تجزيئية تفصل بين قضية الأكراد وسواها، أو بين قضية فلسطين وسواها، أو بين قضية الشاشان وسواها، من قضايا الإسلام والمسلمين في واقعنا المعاصر، إنما هي نظرة تصب في مصلحة توجيه مزيد من الضربات لكل قضية على حدة، ولنا جميعا في الوقت نفسه.

اللعبة الدولية في قضية الأكراد

هذا بالذات ما يفرض على أصحاب كل قضية من هذه القضايا، الحرص على الانطلاق من المنطلق الإسلامي الجامع الشامل، لا المنطلق المحلي والإقليمي الضيق، فضلا عن العرقي أو القومي وقد أثبت من قبل أنه منطلق انتحاري تاريخيا وسياسيا، كما يشهد القرن الميلادي العشرون بكامله من تاريخ العرب والأتراك على سبيل المثال.
ولا ينبغي بالمقابل الانسياق وراء المحاولات المتواصلة لدفع المسلمين من غير الأكراد إلى اتخاذ موقف عدائي واستعدائي تجاه قضيتهم، بتكرار الحديث عن أن قضية الأكراد ليست سوى ورقة في اللعبة الدولية، فكل قضايا المسلمين أصبحت أوراقا في لعبة دولية، تستهدف سائر قضايانا، وضرب بعضها ببعضها الآخر.

وكيف يقبل مسلم من أي جنس كان، أن يعتبر قضية استعادة أسباب الحرية والكرامة والسيادة، بل حتى الحقوق المعيشية اليومية البسيطة.. كيف يمكن اعتبار ذلك كله مجرد ورقة في لعبة سياسية؟

صحيح أن القوى الدولية تعمل على استخدام قضية كبرى كقضية الأكراد كورقة توظفها لتحقيق مآرب ما، ولكن رفض مواقف الدول الكبرى ورفض استغلالها لقضايانا جميعا، لا يبيح التهوين من شأن حقوق بعضنا بعضا، فالتحرر من الاستبداد المحلي حق أساسي ثابت، لأن الإسلام يأبى العبودية لأي إنسان كان، وهو حق لا يسقط، سواء حاول الاستبداد الدولي توظيف قضية من ينادون به لتحقيق مطامع السيطرة والهيمنة أم لم يحاول، إنما المطلوب هو بذل الجهود الحقيقية للتصدي لتلك المحاولات، وليس لإسقاط الحقوق الأصيلة الثابتة، وتمييع القضايا المصيرية الكبرى.

لا تختلف اللعبة الدولية في قضية الأكراد عن اللعبة الدولية في القضايا الأخرى، بل إنها لعبة قديمة متكررة، محورها الحيلولة ما أمكن دون اجتماع أطراف المنطقة الواحدة على أهداف مشتركة، توحد القوى تجاه القوى الأجنبية، جنبا إلى جنب مع تحريك أهداف بديلة، أهداف جزئية لفريق دون فريق، هي في الأصل مشروعة، ولكن يستحيل تحقيقها في ظروف معينة ومرحلة معينة، إلا عبر الصدام مع الأطراف الأخرى، وهذا ما يحولها في اللعبة الدولية الجارية إلى أداة، لتحقيق مآرب أبعد مدى من تلك الأهداف بكثير، بل إن تحقيق تلك المآرب الأجنبية، يمكن أن يصبح بين ليلة وضحاها هو العقبة الأعظم في وجه تحقيق تلك الأهداف المشروعة في المستقبل.
هي معادلة سياسية تمثل أقدم وسائل الإيقاع بين طرفين وأبسطها، ورغم ذلك لا يكاد ينقطع استخدامها وتطبيقها في معظم مناطق أرضنا الإسلامية، ولا يزال يوجد في صفوفنا من يجعلون أنفسهم أدوات لتنفيذها، مع ما يسببه ذلك من خسائر مدمرة.

الأكراد مطالبون اليوم في إطار هذه اللعبة الدولية، بالتحرك في بلد كالعراق والتراجع في آخر كإيران والتحالف في ثالث كتركيا، وأن يكون تيسير وجود ما يشبه الكيان المستقل بهم، على حساب الحيلولة دون تيسير أبسط أسبابه هناك، بحيث لا يمكن في الحصيلة أن يصلوا وأن تصل المنطقة معهم، إلا إلى صدامات سيان من يكون أطرافها، فالمهم أن تقع صدامات، وهو ما يساهم في أن تصل القوى الدولية المعادية إلى أهدافها في المنطقة على حساب الجميع.

وما أشد سذاجة مَن يكتفون بالقول، إن في المواقف الدولية تناقضا وتعارضا، فما الذي يجعلهم تحت عنوان حقوق الأكراد يطالبون في العراق، بما لا يطالبون به في سواه، أو يقبلون في تركيا بما لا يقبلون به في سواها، وهكذا؟
ليس الأمر أمر تناقض غير مقصود لأن قضية الأكراد تمثل معضلة، إنما هو التناقض والتعارض الذي يراد أن يوصل إلى مزيد من النزاعات والتناقضات داخل المنطقة، على مختلف المستويات، ودون تثبيت أي مقياس من المقاييس المعتبرة في الشريعة الربانية أو حتى الشرائع الوضعية، للتعامل بين أصحاب الشأن أنفسهم، داخل المنطقة الواحدة التي تجمعهم، من كرد وعرب وترك وفرس أو سوى ذلك من الأجناس.

بين تمزيق الصفوف وإصلاح الطريق

إن في مقدمة ما نسجله على صعيد الأكراد، وما نعتقد بأن كثيرا ممن يوصفون بالحركيين الإسلاميين وقعوا فيه، أن كثيرا منا جعل من هذه القضية نوعا من أنواع المحرمات زمنا طويلا، وعلى وجه التحديد، كانت من القضايا التي لا ينبغي الحديث عنها من جانب من قدر الله أن يولدوا بنسب ينتمون به إلى جنس آخر من الشعوب الإسلامية، فكأنها قضيّة فريق من المسلمين دون سواهم.

ولئن قيل شبيه ذلك في قضية فلسطين لقيل إنها مركزية محورية، أو في قضية كشمير، لما غاب وصفها بالإسلامية المصيرية، وربما كانت الحساسية المميزة في اتخاذ موقف في قضية الاكراد، أن الظلم الواقع عليهم قائم وهم في بلدان إسلامية مستقلة، فهو يصيبهم بأيدي المسلمين عقيدة – ومن معهم حضارة وثقافة – عموما، بغض النظر عن التيارات التي حكمت وسيطرت، أو عن الدور الأجنبي في إيجاد هذه القضية من حيث الأساس عبر وضع خطوط على خرائط جغرافية، تحولت إلى حدود سياسية بين بلاد المسلمين، وتحول الأكراد في هذا الإطار (القومي المصنوع صنعا منذ إسقاط آخر أشكال الخلافة الإسلامية) إلى شعب ممزق الأوصال ما بين دول المنطقة.
هذه الحساسية تركت آثارها السلبية – بحق – في نفوس كثير ممن ينطلقون من المنطلق الإسلامي داخل صفوف الأكراد أنفسهم، لا سيما وأنها حساسية غيبت مواقف كان من المفروض أن تكون قوية حاسمة من بعض الصور المأساوية الصارخة، كما في مأساة حلبجة والحملات العسكرية التركية المتعاقبة على الأكراد في مدنهم وقراهم داخل الحدود التركية وداخل الحدود العراقية على السواء.

الواقع هو أنه كان للقضية -وما يزال- حساسيتها لدى من يوصفون بالحركيين الإسلاميين لأسباب عديدة، ولكن من الخطأ ما ينشر في صفوف الأكراد من وهم أن هذا يقتصر على قضيتهم فقط، فمثل هذه الحساسية التي تغيب المواقف الإسلامية الواضحة، نرصدها على سبيل المثال في قضية الصحراء الغربية بعد أن انسحب الأسبان فصارت قضية متأزمة ما بين مسلمين ومسلمين.

كذلك فإن المطالبة الإسلامية الحركية عموما، عندما تطرح من وقت إلى آخر، بأن يكون التعامل مع قضية الأكراد على أساس أنها جزء من قضايا المسلمين المشتركة وليست قضية انفصال، أو اضطهاد واستقلال، كما هو الحال مع كشمير مثلا، هذه المطالبة مطروحة بصورة مماثلة عندما يتكرر الحديث عن قضية فلسطين مثلا فلا ينقطع التأكيد عن استحالة الوصول بها إلى الأهداف المشروعة، إلا بالرجوع بها إلى مكانتها الأصيلة، قضية إسلامية، أرضا وتاريخا وشعبا، وحاضرا ومستقبلا، وكذلك من حيث الوسائل المطلوبة لتحقيق الأهداف المشروعة.
وفي جميع الأحوال ينبغي التأكيد أن فتح باب المحاسبة المتبادلة على المواقف لا يوصل إلى نتيجة مفيدة، إنما قد توصل إليها النظرة الجادة الآن فيما يقع من أحداث معاصرة، والسعي لاتخاذ موقف إسلامي قويم مشترك ونشره تجاهها.

لا تمييز بين قضية الأكراد وسواها، ولا يمكن التعامل على المدى البعيد أو القريب مع هذه القضية، إلا كسواها من قضايا المسلمين، في إطار النظرة الأشمل، جغرافيا وتاريخيا، بل من غير الممكن واقعيا الانطلاق من منطلق آخر، قومي أو إقليمي أو وطني محلي، فالأكراد عبر أرض كردستان الممتدة في العراق وتركيا وسورية وإيران وأذربيجان شعب واحد، لا يستقر وضع فريق منه بصورة مختلفة عن الآخر، كما أن الأكراد بمجموعهم قطعة من المسلمين في هذه البلدان الخمسة وسواها، صهرهم الإسلام جميعا في بوتقة مشتركة، تفرض البحث عن طريق مشتركة، ويواجهون قضايا متشابهة إلى حد بعيد، تتطلب النظرة الشمولية لها، والسعي لأبعد تنسيق ممكن على صعيدها، بغض النظر عن التفاصيل، ما دامت هذه التفاصيل لا تتناقض تناقضا مباشرا مع المنطلقات ومع الغايات البعيدة المشتركة.

الموقف الإسلامي المطلوب

إننا في بلادنا الإسلامية بمجموعها، وليس في قضية دون قضية أو بلد دون بلد، نودع عصر الانحطاط ونتهيأ لاستقبال عصر الصحوة والنهضة من جديد، فهل رصدنا عبر عشرات السنين الماضية من تاريخنا المعاصر خطوة حققت أو تحقق شيئا راسخا باقيا على طريق النهوض إلا ما كان يستمد قوته وفعاليته وتأثيره من الإسلام، ومن الانتماء إلى الإسلام (عقيدة أو انتماء حضاريا على الأقل) دون تغليب أي نسب أو انتماء أو مصلحة جانبية أخرى؟!
وما يسري على العرب أو الأتراك أو الأفغان أو الأمازيغ يسري على الأكراد على هذا الصعيد، فمن أنجز وحقق نتائج إيجابية، كان ينطلق من إسلامه (عقيدة أو حضارة) وليس من نسبه وجنسه، ومن أنجز فحقق نتائج سلبية كان لا ينطلق من الإسلام (عقيدة أو حضارة) بل من منطلق آخر.

ويسري هذا على الأكراد عندما نتأمل فيما أنجزه أمثال محمد فريد وجدي، وأحمد ومحمد تيمور، وما نكاد نفرق بينهم وأمثالهم وبين سواهم في ظهور المصابيح الأولى لحركة الإصلاح الإسلامية الحديثة.

وكما كان للمودودي وأقرانه في المشرق وابن باديس وأقرانه في المغرب من الوطن الإسلامي الكبير الممزق، فضل في حمل راية الجهاد المعاصر في مواجهة علمانية غازية تسعى للاستيطان في ديار الإسلام على أيدي ربائبها، فقد كان للأكراد في ذلك الجهاد نصيب أيضا، كما تعلمنا ثورة محمود الحفيد عام ١٩٣٠م في العراق، والشيخ سعيد بيران عام ١٩٢٥م في تركيا، وقاضي محمد عام ١٩٤٦م في إيران، ثم ثورة الملا مصطفى البرزاني بين عامي ١٩٦١ و١٩٧٥م في العراق.

تبقى المسيرة مشتركة، بين الأكراد وسواهم، فلا يمكن أن يلام فريق دون فريق على ما كان في مرحلة التغرير والتضليل والانحراف، فكما غررت الدعوات العلمانية الوافدة برداء قومي أو توجه ماركسي بقطاعات من شعوبنا المسلمة بغالبيتها، فنشرت أوهام مواجهة الاستعمار الحديث تحت رايات منحرفة، وقع ذلك أيضا في صفوف قطعة من الأمة هي الأكراد، فظهرت لديهم الرايات العلمانية، القومية واليسارية، فرفعتها أحزاب من قبيل الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود البرزاني، وحزب العمل بزعامة عبد الله أوجلان، والحزب الاشتراكي بزعامة محمود عثمان، وحزب الاتحاد الكردستاني بزعامة جلال الطالباني.

وتبقى المسيرة مشتركة، بين الأكراد وسواهم، في المرحلة التالية أيضا وقد عمت الصحوة الإسلامية كل مكان، فعمت أوساط الأكراد أيضا، فكان من مؤشراتها في صفوفهم ظهور أحزاب وروابط إسلامية الاتجاه، كالحزب الإسلامي الكردي، ورابطة الطلبة المسلمين الأكراد، والحركة الإسلامية في كردستان، والاتحاد الإسلامي الكردي، والرابطة الإسلامية الكردية، بل إن هذا التعدد التنظيمي في التوجه الإسلامي المشترك، لا يختلف في واقعه عن حقيقة التعدد التنظيمي في التوجه الإسلامي المشترك على صعيد الشعوب الإسلامية الاخرى. ونحن نحتاج إلى ما يحقق التعاون والتلاحم سواء بقي التعدد التنظيمي أم اضمحل، بين الأكراد وسواهم.

لعل في مقدمة ما يعبر عن الموقف الإسلامي الكردي القويم في إطار أوضاع الأمة والمنطقة والتطلعات المشروعة للشعب الكردي المسلم، كلمة أطلقها رئيس الرابطة الإسلامية الكردية آنذاك (في مطلع التسعينات الميلادية) الشيخ علي محيي الدين قره داغي، مؤكدا “أن الحل المرحلي الآن هو إعطاء الشعب الكردي حقوقه المشروعة في إطار الدول التي هو منها، وهذه تتمثل في الاعتراف بوجوده ولغته وحقه المساواة، أما الحل الاستراتيجي فهو عندما تقوم دولة الإسلام، ففي تحكيم الإسلام الحل النهائي لهذه القضية”.

وذاك موقف لا يختلف عما ينبغي أن يكون عليه على صعيد الشعوب الأخرى في ديار الإسلام، وهو موقف يستمد قوته التاريخية والمستقبلية، من الأرضية الإسلامية الراسخة التي ينطلق منها، وهي التي جعلت الزعيم الكردي المسلم مصطفى البرزاني يقول ذات مرة: (أفضل أن أكون جنديا في دولة إسلامية، على أن أكون رئيسا في دولة علمانية).

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب