ورقة – جرد حسابنا في الثورات الشعبية

الوطن منطلقنا والإنسان غايتنا ولكل طرف الحق في العمل لمنهجه هي قواسم مشتركة لمسار ثوراتنا

75

ــــــــــ

المحتوى:
تمهيد
(١) وطأة أعوام راحلة.. وآفاق مستقبل واعد
(٢) ما تمليه مصالح مادية مهيمنة.. وما تعنيه إرهاصات حقبة حضارية
(٣) بين تعددية تشرذم انتحاري.. ورؤية مشتركة تصنع أطر العمل

تمهيد

لن نفهم مجرى أحداث الحاضر دون استيعاب جذورها في الماضي، ولن نحسن التعامل مع معطيات الحاضر دون رؤية استشرافية لما نريد في المستقبل.

ليس هذا من “الترف الفكري والتنظيري” فقد أصبحت حاجتنا إلى منارة مشتركة على الطريق إلى المستقبل ضرورة مصيرية، وبدلا من ذلك أصبح لدينا ألف منارة ومنارة، نتيجة تشرذم كل فريق على حدة، حول ما يقول به مصدر خاص به وحده: “منظر، شرعي، قائد، جماعة، حزب، إلى آخره”. وقد نزعم أننا نستمد ما نقول ونفعل “من مشكاة واحدة”، وليس هذا صحيحا فالمشكاة الواحدة تقتضي أن نتلاقى حول منارة مشتركة توافقية، لنتمكن جميعا أفرادا وتجمعات من رؤية كيف تتكامل إمكاناتنا وأدوارنا معا، وإن لم ينشأ تنظيم ضخم مشترك، ولن ينشأ، ثم كيف نحدد واجباتنا ونؤديها وفق موقع ربيع الثورات العربية من عجلة التاريخ:

– من بداياته الثورية الشعبية التي عرفناها..
– إلى مآلاته التي يفترض فينا أن نصنعها..

لن نصنعها دون (استشرافها) و(سلوك السبل الصحيحة لصنعها)، وإن قيمة منارة الرؤية المستقبلية المشتركة هنا تعلو وتنخفض بقدر ما (نخطط ونعمل لتحقيقها ونعدّل ونطوّر أثناء العمل) فلا نقتصر على الدعاء والرجاء -وهما مطلوبان- وعلى نسج التصورات الجميلة والأماني العذبة والأحلام المخدرة، فنبلغ بها ذرى العلياء توهما ونحن مسمّرون في الحضيض واقعا.

إذا أردنا مواجهة أنفسنا بحق فلنسأل سؤالا عاما عن واقعنا نحن في هذه اللحظة من مسار ربيع الثورات، ولا بد من الجواب بصدق مؤلم: نحن نواصل بأنفسنا تمزيق المشترك بيننا أكثر مما يصنع ذلك تحالف الأعداء ضد تحرير شعوبنا، وهم يمعنون عدوانا دمويا وقهرا همجيا للإنسان في بلادنا.

ولهذا يجب أن نقول أيضا:
معيار صدقنا مع ربنا وأنفسنا وشعوبنا وأحفادنا رهن بما نفعل الآن على أرض الواقع للبناء على المشترك بيننا بدلا من نحره بأيدينا وألسنتنا.

(١) وطأة أعوام راحلة.. وآفاق مستقبل واعدة

مع مرور سنوات على ما يسمى “الربيع العربي” -كناية عن الثورات الشعبية العربية- يخطر على صاحب هذا القلم أن يرسل ببصره بعيدا ليرى أحد أحفاده وهو يقرأ بعد خمسين سنة في أحد كتب التاريخ عن هذه السنوات، ويتساءل: هل سيقرأ آنذاك عنها وما يليها من عقود أكثر من بضعة سطور وربما صفحة أو صفحتين، تعادل ما نقرؤه غالبا هذه الأيام في كتب التاريخ عن خمسين سنة فاصلة ما بين مولد صلاح الدين الأيوبي عام ١١٣٨م وفتح القدس عام ١١٨٧م على سبيل المثال؟

هذا شاهد على عنصر واحد يطرح الفارق الكبير بين استيعاب المشهد الكامل للحدث عندما ننظر إليه بعيون التاريخ ومساره، بمقدماته ومجراه ومآلاته، وبين قصور استيعابنا له ولمغزاه أثناء التأثر بتفاصيل إحدى مراحل وقوعه. والسؤال:

كيف نرتقي الآن فوق مفعول الألم وهو وليد معايشة مسار الحدث، لنرتفع بمستوى قدرتنا على استيعابه وتصنيفه وتوجيه مساره وصناعة مآلاته؟

نحن نقرأ في كتب التاريخ حاليا مجرد عبارات معدودة أو صفحات تلخص مجموع ما كان في حقبة التحرر من الصليبيين، وقد كان فيها:

١- الاقتتال وتقلباته لسنين وسنين بين إمارات متفرقة تابعة للعباسيين والأتابكة والفاطميين بينما يحتل الصليبيون الأرض ويوظفون فريقا من الإمارات الممزقة لضرب من يناوئهم.. ما أشبه ذلك بأوضاع بعض أنظمة بلادنا اليوم.

٢- ضروب المعاناة من الاحتلال على مدى سنين وسنين نتيجة أفاعيل الصليبيين بأهل البلاد من المدنيين المستضعفين.. ما أشبه ذلك بما نسلّط عليه الأضواء والقلوب من ضروب معاناة أهلنا اليوم.

٣- معارك وحروب من أجل التحرير خاضها صلاح الدين وأقرانه، على امتداد سنين وسنين، كانت حافلة بالطعنات الإرهابية الغادرة في ظهورهم.. ما أشبه ذلك بواقع المعارك في بلداننا الثائرة هذا اليوم.

٤- تساؤلات عموم الناس آنذاك، قبل أن يولد نور الدين وصلاح الدين وأمثالهما: أين القيادات.. مثلما يتساءلون اليوم بحرقة: أين القيادات.

٥- ألم يكن من عايش مطلع تلك الحقبة التاريخية لا يرى تحرير جيش صلاح الدين لبيت المقدس إلا من قبيل الأماني أو الأهداف، مثلما ننظر الآن إلى تحرير الإنسان والأوطان فنعتبره مجرد بريق من الأماني والأهداف؟

. . .

إن وطأة الأحداث الجارية ثقيلة جدا على من يعيش في رحم المعاناة، ولكن لا ينبغي أن تحجب عنا ما سيولد مستقبلا رغم المعاناة، فالرؤية المتكاملة بين الماضي والمستقبل تتحكم إلى حد كبير فيما نصنع في حاضرنا الذي نعيش فيه، للنهوض بمسؤولية الارتفاع بأنفسنا الآن إلى مستوى القدرة والكفاءة من أجل تشييد المستقبل كما ينبغي.

. . .

نحن نعيش في حقبة صناعة المستقبل وكتابة التاريخ خطوة بعد خطوة، وسيقرأ أحفادنا ما نصنع سطرا بعد سطر. نعيش هذه الحقبة، ونعايش ما يقع فيها، قائدا شهيدا بعد شهيد، وطفلا شهيدا بعد طفل، وكرامة مغتصبة لأخت عفيفة بعد أخت، وجريمة كبرى بحق الإنسانية بعد جريمة، وهذا على مدى سنوات وسنوات، ولهذا يتعاظم -بحق- في أحاسيسنا وأفكارنا مفعول الآلام والعقبات والمؤامرات والاقتتال والطعنات في الصدور والظهور.

ولكن يبقى الأخطر من ذلك كله أن نسقط صرعى مفعول هذه المعايشة إذا ما طغى في أنفسنا وتعاملنا مع القضية على مفعول رؤية المستقبل، رؤية ما بعد المخاض، أو أن نسقط نتيجة اختبائنا وراء سلاحنا المفضل: اليقين المطلق بنصر الله، مع إغفال وجوب إيجاد الأسباب الموضوعية للوصول فعلا إلى ما نرجوه عندما نلجأ إلى الله بالدعاء والرجاء.

نحن من نحدد دورنا سلبا أو إيجابا في نطاق ما نعايشه ونعايش وطأته في مخاض ولادة حقبة تاريخية جديدة، يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة. ونحن المسؤولون عن صناعة أنفسنا والارتفاع بها وبعملنا إلى مستوى القدرة على أن نكتب فعلا مستقبلنا، سطرا بعد سطر، في كتاب يسرد لأحفادنا “تاريخا” مضى، كالكتاب الذي نقرأ فيه الآن عن حقبة صلاح الدين.

(٢) ما تمليه مصالح مادية مهيمنة.. وما تعنيه إرهاصات حقبة حضارية

هل هي ثورات شعبية تغييرية أم هي مجرد فصل “ربيع” عابر؟

يقال إن المصالح المادية الكبرى هي التي جعلت قوى دولية وإقليمية تتجاوز صراعاتها البينية على المصالح وتتلاقى على ثورات الشعوب في بلادنا وعلى صناعة الأعاصير المضادة لها، انقلابا هنا، ومؤامرة هناك، وتدخلا إجراميا مباشرا هنالك. هل يمكن فعلا أن تتحقق مصالح مادية لأي طرف عبر قتل البشر وتدمير الحجر؟ ليست هي مصالح مشروعة إذن، إنما مطامع هيمنة واستغلال غير مشروعة.

لقد قضى استهداف الثورات بأساليب الإرهاب والانقلاب والتآمر على المعطيات الاقتصادية وغير الاقتصادية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، ومن قبل فلسطين والعراق، وبدأ توجيه السهام إلى بلدان الخليج (وتركيا أيضا)، فأية مصالح مادية تتحقق لمن يستخدم هذه الأساليب من القوى الدولية والإقليمية، وما يزال يستخدمها؟ ما هو الحجم الحقيقي لتلك المصالح أو المطامع؟

إن البلدان الثائرة المستهدفة أكثر من سواها لا تصل بمجموع ميزانياتها السنوية إلى حجم ميزانية شركة عملاقة واحدة في عالمنا المعاصر، فلا يؤثر تبديل الأنظمة في تلك الدول قطعا على علاقات المصالح المادية الكبرى إلا بحدّ أدنى لا يذكر، فكيف نفسر به تشغيل آلات القمع والقتل بلا حساب، مباشرة وعبر الأتباع، مع تكاليفه المادية الباهظة”؟
الغاية أكبر من ذلك وأعمق.

بالمقابل: تعثرنا على طريق الثورات الشعبية عندما غلب مفعول الأوهام والأماني على الإحساس بضرورة الرؤية الشاملة والعمل.

إن تساقط البيادق الأولى سريعا نشر أوهاما لدى بعضنا أن قد حان القطاف فاستعجلنا المسار، كما كان في مصر، وأوهاما لدى بعضنا الآخر أن تساقط بقايا البيادق الأخرى قد بات وشيكا فتسرعنا (أو تسابقنا) نحو “مواقعنا” الموهومة أو المشتهاة بعد النصر، وطرحنا متفرقين تفاصيل رؤانا المتعددة، فأصبحت تمزق الصفوف لحظة الحاجة إلى توحيدها، كما شهدنا في سورية.

تعثرنا على طريق الثورات الشعبية، والعدو العالمي الحقيقي يطور عمله ضدها. وقد سجل عام ٢٠١٥م المرحلة الحاسمة من تحول موازنات الصراع والتوافق في معادلة الهيمنة والتبعية عالميا، لصالح التوافق وتحييد الصراعات على النفوذ واستغلال ثروات البشرية. هذا تحوّل ضخم عالميا يكشف عن تقديرات تقول إن الثورات تصنع تغييرا ضخما، وإلا فعلام الخوف من انتصارها؟!

المثال عالميا بإيجاز: لم يعد الخلاف على تمزيق أوكرانيا يمنع الاتفاق على تمزيق سورية، بل أصبح الاتفاق على تمزيق سورية يهدّئ الخلاف حول تمزيق أوكرانيا.

والمثال إقليميا بين يدي الثورات: انفردت الهيمنة الصهيونية لعدة عقود إقليميا، ولم تمنع من اندلاع الثورات ضد مرتكزات معادلة الهيمنة والتبعية الدولية من ورائها، بعد انتشار التوهم باستقرارها “إلى الأبد”. يعني أنها لم تكن كافية لأداء وظيفتها، ولهذا:

تراجع دوليا هدف التصدي لانتشار الهيمنة الإيرانية الإقليمية كيلا تنافس قرينتها الصهيونية، وأصبحت الأولوية لدمج الدور الإيراني إقليميا في معادلة الهيمنة الدولية، للحيلولة دون بلوغ مسار الثورات هدف تحرير الإرادة الشعبية، في التوافق الدولي على الهدف نفسه. ولهذا سجل مسار التاريخ بين أيدينا:

في عام ٢٠١٢م، بعد أقل من عام من اندلاع الثورات الشعبية، تسارع تحرك القوى المهيمنة الدولية للتفاهم مع إيران وبلغ الثقل الأمريكي فيه مداه -على النقيض من مرحلة سابقة- حتى وصل إلى هدفه عام ٢٠١٥م: اتفاق نووي له ما بعده خليجيا وإقليميا وعالميا.

من المؤكد أن قوى الهيمنة العالمية تتصور هذه الأيام أنها اقتربت كثيرا من هدف قطع مسار الثورات في محطته السورية المتمردة أكثر من سواها. ولكن ليست المشكلة في الساحة السورية مجرد سقوط بيدق همجي آخر، بل كان جوهر المشكلة ولا يزال هو العجز عن صناعة بيدق مثله لتنصيبه مكانه. إن استمرار هذا العجز مع استمرار الثورة يعني قابلية أن توصل التضحيات والبطولات غير المسبوقة إلى تحرر الإرادة الشعبية من إخضاعها لبيادق تابعة لهيمنة أجنبية، وهذا ثمرة أولى يحققها تحرير الإنسان عبر الثورات الشعبية.

إن تحرر البشر -وليسأل بعض شركائنا في الوطن عصر التنوير في أوروبا- هو المفاعل الأول في مصنع الحضارات. ومن هنا ظهرت طبيعة التعامل الدولي والإقليمي المعادي لتحرر الشعوب العربية الثائرة -في فلسطين والعراق وفي بلدان ربيع الثورات الشعبية- وظهور طبيعة ذلك التعامل يتضمن ظهور الثغرات الكاشفة لعورات اهتراء حضارة مادية احتكارية مهيمنة، جنبا إلى جنب مع اهتراء شعارات تحرير الإنسان. ولهذا أيضا يمكن التأكيد:

إن إرهاصات البناء الحضاري المستقبلي الذي فتحت الثورات الشعبية بوابة التغيير الجذري للوصول إليه هو السبب المحوري الأهم من وراء حملة الأعاصير المضادة للشعوب الثائرة.
هذا أكبر شأنا وأوسع مدلولا مما نسميه المصالح أو المطامع المادية الآنية.

لم تكن الثورات الشعبية العربية لمجرد تبديل أنظمة استبدادية، فذاك شأن انقلابات محلية أو تدخلات تآمرية خارجية، وهذا ما أدركه أساطنة الهيمنة العالمية والإقليمية على الفور، وسرعان ما انتشر وصف “الربيع” تشبيها بفصل يأتي وينقضي، كما كان في بلدان شيوعية سابقا، مع الرغبة بالعمل المضاد للثورات كي تنتهي قبل أن يحين موعد الحصاد وتتحرر إرادة الشعوب.

لا يصنع عصرا حضاريا متجددا إلا الإنسان الحر المبدع، وكانت الثورات الشعبية العربية إيذانا بولادة إنسان جديد، لا يخضع للهيمنة ذليلا، سواء كان يعيش فقيرا محروما أو ثريا مقيدا، ولا يقبل أن يكون حرا طليقا “وجاره مستعبد إلى جانبه وهو يعلم”، ولا يباع ويشترى في أسواق الفساد.

الثورات الشعبية إيذان بولادة إنسان جديد، يصنع مجتمعا جديدا، وعلاقات تعارف كريم للبشرية عبر الحدود، وهذا ما يعني أن تتكسر أغلال صنعتها سيطرة المترفين، وتتساقط أقنعة تواري ترويج بضاعة من صنع جشع المطامع، وينكشف خواء نصوص لا تطبق في مواثيق تزعم نهاية التمييز بين “ألسنتكم وألوانكم”.

لهذا كان الجواب عبر تشويه الصورة الحضارية الإنسانية للثورات بأساليب عديدة، أبرزها تمكين أفاعيل داعش وأشباهها من الوقوع، وإبرازها لوضع مواجهتها المزعومة في الصدارة من السياسات الدولية وما ينبثق عنها من حملات إعلامية.

صناعة إنسان التغيير نحو مجتمع حضاري جديد -وليس سقوط بعض بيادق الهيمنة والتبعية- هي ما أثار ويثير القلق لدى من ترتبط هيمنتهم بفعالية معادلة الهيمنة والتبعية وليس بوجود هذا البيدق أو ذاك من بيادقها، فهم مجرد أدوات قابلة للتغيير ولطالما تغيروا وحل سواهم مكانهم فور اهتراء قدرتهم على أداء وظائفهم.

هل لدينا جواب ثوري على ذلك لنطرحه فكرا وتطبيقا؟
الثورات الشعبية إيذان بولادة حضارية جديدة في منطقة كان الانحطاط عبر قهر الإنسان فيها واقعا مصنوعا مقصودا لاستمرار خضوعها لمعادلة الهيمنة والتبعية عالميا.

إن تحرير الإنسان صانع المستقبل وحضارته هو أول عنوان عريض يحدد بنود رؤية مستقبلية مشتركة شاملة للثورات الشعبية العربية بما فيها ثورات فلسطين والعراق ومن سيليها من مشرق بلادنا إلى مغربها.

 (٣) بين تعددية تشرذم انتحاري.. ورؤية مشتركة تصنع أطر العمل

نحن نعيش في قلب حدث يصنعه جيل حي ثائر كنا نحسبه ضحية الموات الذي تعانيه الغالبية من نخبنا منذ زمن بعيد.. ولهذا:

١- انطلقت الانتفاضات بفلسطين وواجه شعب العراق الاحتلال، فتحرك الإنسان العربي والمسلم وغيرهما في أنحاء العالم، واعتبرنا ذلك تضامنا وتأييدا.
كلا.. كان علينا أن نستوعب أن الإنسان في فلسطين والعراق بدأ مسيرة تحرير البشرية وأن التضامن معه هو في حقيقته تضامن مع أنفسنا وبعضنا بعضا من وراء الحدود والرايات المتعددة. أما فلسطين فقد سبقت الثورات بانتفاضاتها، وأما العراق فقد كشفت الثورات لاحقا عن عمق جراحه القديمة والجديدة، وينكشف فيه للعيان الآن بعض معالم ما يواجهه كل شعب وبلد إذا توقف فيه مسار الثورة قبل تحقيق النصر.

٢- تأخر معظمنا كثيرا في إدراك جوهر ثورات التغيير الكبير التي أشعلت فتيله النيران وهي تلتهم جسد بوعزيزي في تونس.. واعتبرناها تمردا على الفقر القاهر.
كلا.. نيران بوعزيزي أحرقت ما كنا نعتبره مواتا في جيل المستقبل.. وذاك ما يحرر الإنسان.

٣- لم يستوعب معظمنا أن الهمجية الدولية سقطت مع الهمجية المحلية في حضيض درك دنيء تجسد في محاولة اغتيال جرأة الشعب على الثورة من خلال استعراض تشويه جسد حمزة الخطيب في درعا.
كلا.. استشهاد حمزة الخطيب كان عنوانا لسقوط البقية الباقية من انحراف حضارة اهترأت إنسانيا.

٤- صدّق معظمنا أن العالم قبل راضيا أو كارها بمسيرة ثورة تونس عندما أقيلت وزيرة الخارجية الفرنسية بسبب تصريحات مكشوفة حول دعم المجرم المستبد ضد الشعب الثائر.
كلا.. كانت إقالتها لأنها لم تتقن استخدام المناورات والخداع وسيلة أنجع لمحاولة إخماد الثورة.

٥- صدّق معظمنا أن الرئيس الأمريكي قبل راضيا أو كارها بمسيرة ثورة مصر الحضارية الكبرى عندما أعلن للثائرين وهم في ميدان التحرير أنه لا يرى ما يمنع وجود “الإخوان المسلمين” في حكومة مقبلة.
كلا.. كان وأعوانه يرون أن وسائل التضليل هي الأجدى مع صناعة إعصار انقلاب مضاد للإرادة الشعبية.

٦- صدّق معظمنا أن منح جائزة نوبل للسلام لرمز قيادي شبابي في طريق صناعة الثورة في اليمن مؤشر على أخلاقية الموقف الدولي من ثورة التغيير الشبابية بإناثها وذكورها.
كلا.. ذاك جزء من حقن التخدير لتمرير ترتيبات محسوبة للانقضاض على الثورة الفتية قبل أن تقف بشبابها على قدميها.

٧- صدّق معظمنا أن قصف الطائرات الأطلسية للمواقع القذافية في ليبيا كانت تستهدف القضاء على استبداده وتمكين شعب ليبيا من حكم نفسه بنفسه باسم الديمقراطية.
كلا.. كان الهدف من البداية تمزيق جسد ليبيا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ثوارا وبقايا من عسكر الاستبداد، ساسة وقبائل، أما ما لا يتم تمزيقه فستتولى أمره نبتة الإرهاب المزروعة.

٨- أما في سورية فقد صدّق معظمنا الكثير من صنوف ما سبق ذكره وسواه، وظهر زيفه مع نزف الدماء، إذ شهدت قضية سورية في وقت واحد جميع أشكال الوعود الكاذبة والمراوغات المدروسة والاعتداءات المباشرة، لأن ثورة شعبها جسدت جميع الثورات معا، ولأن همجية الاستبداد القديم فيها جسد بوضاعته وحقارة من وراءه جميع آفات الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية.

جميع ما سبق مجرد عناوين كبرى تتحدانا لندرك معا أن ما عايشناه حتى الآن هو بداية مسار تاريخي لثورات شعبية، وبقدر ما نستوعبه ونستوعب مغزاه التاريخي الحضاري ندرك ما ينبغي صنعه في المحطات التالية.

. . .

ما العمل من أجل رؤية مشتركة توحد أفكارنا كي تتوحد صفوفنا ومسارات ثوراتنا الشعبية؟

في البداية نؤكد ما لا يحتاج إلى التأكيد والتكرار.. أي المطالب البدهية المطروحة حاليا، ومنها مثلا:

نهاية الانقلاب في مصر، القضاء على بقايا الأخطبوط الاستبدادي في اليمن وسورية وليبيا، استكمال درب تحرير الشعب والثورة في تونس، إسقاط معادلة الوصايات الأجنبية، ومنع مزيد من التفتيت العرقي أو الطائفي أو المذهبي أو الجغرافي لشعوبنا وبلادنا

هذه المطالب المشروعة بدهيات، ولكنها ‎مطالب مرحلية في مطلع مسار مستقبلي طويل، إنما يدور الحديث هنا حول وضع هذا وسواه من أهداف مرحلية، وجزئية، في إطار رؤية شاملة أوسع بآفاقها وامتدادها زمنيا، فهذا ما يجعل الأهداف المذكورة وأشباهها ثوابت أولية لا يمكن التخلي عنها أو عن أحدها عندما تطرح وكأنها مجرد بنود ومواد للمساومة على موائد المفاوضات، فالتخلي عنها -وهي بداية طريقنا المحتم إلى الهدف الأكبر والأبعد والأشمل- يعني التخلي عن مسار الثورات نفسها، وعما كان فيه من تضحيات ومعاناة وإنجازات.

ونعود إلى البحث عن أعمدة أساسية لرؤية مشتركة، فنجد بين أيدينا أن كل ثورة من الثورات انطلقت:

(١) ثورة شعبية من واقع قائم: الوطن المشترك، وتتمزق بقدر ما يعتبر طرف من الأطراف أن الثورة ثورته هو أو بقدر ما يسعى لأن تكون حصيلتها حصيلة رؤيته هو.

(٢) ثورة شعبية يصنعها الإنسان، جنس الإنسان الذي تعرض للقهر عقودا أو قرونا، ويتطلع إلى حريته كإنسان، وكرامته كإنسان، وإنصافه بالعدالة والحقوق كإنسان، وتتمزق الثورة وتفقد مغزاها ومفعولها وقد تبرر تزوير الرايات العالمية للحرب عليها، بقدر ما ينحرف بها الطريق من خلال فكر متطرف وسلوك منحرف يعادي إنسانية الإنسان وينكر أن أفراد بني آدم سواسية كأسنان المشط، إلا من ارتكب بنفسه بحق أخيه الإنسان ما ينتزع منه إنسانية الإنسان.

أما الأعاصير المضادة للثورات، فقد اعتمدت في نهج العداء المتبع على تغييب العنصر البدهي الثالث الضروري لاستمرار الثورات ونجاحها:

(٣) إن تعدد المناهج نتيجة اختلاف المعتقدات والتصورات عن بعضها في أي بلد أو منطقة، هو الوضع البشري الطبيعي القائم في جميع أنحاء العالم، بدوله المستقرة والمضطربة، فمن يوظف التعدد ليكون سبب صراع هو عدو يعمل ضد انتصار ا‎لثورات الشعبية، أو متطرف منحرف عن النهج الرباني في الخلق، نهج الاختلاف والتعارف، أو جاهل يستغله العدو والمتطرف. ‎

لن يستقر مسار ثورة ولن يستقر مستقبل شعب وبلد إلا عندما نجعل التعددية ساحة تلاقح وتكامل وتنافس، وهذا ما تعمل الحملات العدائية المضادة للحيلولة دونه، وغياب ذلك هو ما يجعلنا نتساءل باستمرار: حتى متى نبقى متفرقين؟

. . .

إن الأعمدة الثلاثة المطلوبة في رؤية مشتركة جامعة للثورات الشعبية ولكل مسار ثورة على حدة هي:

غموض الرؤية - أزمة القيادة
غموض الرؤية – أزمة القيادة

١- الوطن منطلقنا.. هو عماد الرؤية المشتركة في مسار كل ثورة، فانتصارها رهن بأن:

(١) تجمع عبر أهدافها وراياتها وشعاراتها وخطابها كافة مكونات الشعب في الوطن الواحد..
(٢) تعمل لأن يكون النصر لكافة مكونات الشعب في الوطن المشترك..

آنذاك فقط تجد الثورة حاضنتها الشعبية في تلاقي الغالبية من ‎جميع المكونات -إلا أعيان المستبدين المجرمين وأدواتهم- بدلا من تمزيق الشعب الواحد في الوطن المشترك ما بين حاضنة فريق يستبد ويقتل وحاضنة فريق يقاوم ويثور ويضحّي.

الوطن منطلقنا.. هو العنصر المشترك الأول الذي أطلق الثورة، فهي ثورة شعب، وهي من أجل نصر وطني شعبي للجميع، وكل من يقلب هذه المعادلة يطعن الثورة الشعبية نفسها ويعرقل تحقيق أهدافها، وإن نسب نفسه إليها، وآنذاك يكون علم الوطن أو علم الثورة علما مشتركا وإن تعددت الرايات من دونه ولم تتصارع.

٢- الإنسان غايتنا.. هذا العماد الثاني في الرؤية المشتركة لمسار كل ثورة على حدة، وللثورات الشعبية معا:

(١) النصر معقود على أن صاحب الحق إنسان ثار على أفاعيل عدو فقد إنسانية الإنسان.

قد ينطلق الثائر من تصور يختلف عن تصور أخيه الثائر بجانبه في خندق قتال أو ساحة فكر أو ميدان سياسي، فيطرح كل ثائر قضية الإنسان حسب منطلقه الذاتي، ولكنها -مثل قضية الوطن- قاسم مشترك بيننا، ومن المنطلق الإسلامي لكاتب هذه السطور ينبغي التأكيد:

(٢) إن الإيمان بالله عز وجل، يوجب علينا طرح عنوان الإنسان غايتنا في الرؤية الثورية الشاملة وفي كل ميدان من ميادين العمل الحياتية. مرضاة الله هي الغاية الكبرى التي تتحقق من خلال أن الله تعالى، الواحد الأحد، هو غايتنا في كل شعيرة من شعائر العبادات دون استثناء، أما ممارستنا للعلاقة بين إنسان وإنسان فلا تتحول لدى المسلم إلى عبادة يرجو من خلالها مرضاة الله وأجره في الدنيا والآخرة، دون أن تكون علاقة تجسد ما ورد في شرع الله عن كرامة ابن آدم، والعدل بين الناس، وإحقاق الحق المعنوي والمادي لكل إنسان مهما كانت عقيدته، بما في ذلك العدو الأسير وإن كان عدوا محاربا قبل أسره، فشرع الله لا يميز في الحقوق الدنيوية بين إنسان وإنسان.

٣- من حق كل طرف طرح المنهج الذي يراه.

“الإسلام” منهجنا.. هذا ما يعلنه في رؤيته المقتنع بأن في منهج الإسلام -وهو المنهج الوسطي كما أنزل- خير الدنيا والآخرة لجنس الإنسان.

“العلمانية” منهجنا.. هذا ما يعلنه في رؤيته المقتنع بأن في منهج العلمانية -إذا تجنبت التطرف والاستعلاء- ما يحقق الخير لجميع الأطراف في الوطن المشترك.

ويمكن تعداد المزيد من المناهج، وجميعها موجودة على أرض الواقع في بلادنا وعالمنا، ويوجد من يتبنى كلا منها مخلصا ويرفض أن يكون معه ذاك الذي يتبناها تكبرا وإقصاء واستئصالا للآخر.

ليست المشكلة في تعدد المناهج -وستبقى متعددة ما بقينا وبعد فنائنا- بل في افتقاد عقد وطني لقواعد التعامل فيما بين أصحاب المناهج المتعددة، على أساس الوطن منطلقنا والإنسان غايتنا مع إقصاء من يقصي نفسه عن هذا الأساس المشترك. ولن يوجد عقد وطني مشترك دون آلية تطبيقية، فلا بد أن يكون البند الأول فيه والذي تتفرع عنه سائر تفاصيله هو مرجعية الإرادة الشعبية على أساس غالبية لا تميز بين إنسان وإنسان أو فئة وفئة في الوطن المشترك. هذه مرجعية عملية لا تسلب أحدا مرجعيته العقدية أو الفكرية، أما من يرفضها، فيتبنى واقعيا الاستبداد بشكل من أشكاله الفردية أو العسكرية أو الحزبية أو العائلية أو سوى ذلك من الأشكال.

كل ما قد يبدو انتصارا في مسار الثورات لا يمكن أن يكون انتصارا للثورة الشعبية نفسها، إذا جعلناه انتصارا لفريق على حساب فريق، أو منهج على حساب منهج، أو إذا جعله من يكتسب تأييد الغالبية الشعبية لمنهجه مدخلا لحظر حق سواه في مواصلة العمل للترويج لمنهجه بالطرق المشروعة ومحاولة كسب تأييد الغالبية الشعبية في جولة تالية.

إن الأعمدة الثلاثة المذكورة آنفا لرؤية مشتركة، ينبثق عنها ما سواها، بدءا بمنظومة القيم، مرورا بضوابط النهوض والتقدم، انتهاء بتفاصيل السلطات والأجهزة وعلاقاتها ببعضها بعضا. وإذا صح ما يقال عن مراجعة بعض أصحاب المناهج المتعددة في بلادنا لمناهجهم، فإن النقلة المطلوبة مع مجرى التاريخ نحو ولادة حضارية جديدة، المشروطة بالحرص الحقيقي على انتصار الثورات الشعبية، وعلى تنفيذ الإرادة الشعبية الثائرة، وعلى تحرير الإنسان والأوطان.. جميع ذلك يبدأ في أي مراجعة قويمة بتصحيح ما انتشر في المناهج المتعددة ويتعارض مع الأسس الثلاثة المذكورة “الوطن منطلقنا والإنسان غايتنا ولكل طرف الحق في العمل لمنهجه” فهي القواسم المشتركة الكبرى، التي إذا التقت مسارات الثورات الشعبية عليها، كانت قوة دافعة أكبر لتتابع عجلة التاريخ من خلالنا صناعة حاضرنا ومستقبلنا.

نبيل شبيب