ورقة – اليمين المتطرف ومستقبل المسلمين في أوروبا
الأخطار متعددة المستويات بمنطلقات يصنعها القرار الرسمي أكثر من اليمين المتطرف
ـــــــــــ
رغم تسليط الأضواء على اليمين المتطرف في أوروبا وعواقب مواقفه وممارساته العدائية تجاه العرب والمسلمين، فإن المصدر الأشد خطورة على مستقبل وجودهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي داخل البلدان الأوروبية، يتمثّل في التوجّه السياسي الرسمي إلى تبنّي دعوات كانت من “اختصاص” اليمين المتطرّف إذا صحّ التعبير، ونحو “تقنين” ممارسات تعود بالأضرار على المسلمين في أوروبا على وجه التخصيص، ممّا يعطيها صبغة عنصرية، تتناقض مع حقوقهم الأساسية ومع المبادئ المعلنة لأنظمة الحكم الأوروبية.
– بين المصطلحات
– عوامل انتشار التطرف اليميني
– التربة الاقتصادية للتطرف اليميني
– استهداف العرب والمسلمين
– التحرك الإسلامي المضاد
– احتمالات مستقبلية
بين المصطلحات
لم تكتسب مصطلحات اليمين واليسار في أوروبا صبغة علمية منذ نشأتها التلقائية الأولى بعد جلوس أصحاب الاتجاه الرأسمالي المحافظ يمينا وأصحاب الاتجاه الاشتراكي العمالي يسارا في المجالس النيابية البريطانية، حتى أصبح ذلك تقليدا متبعا. واختلفت معالم الخارطة الحزبية من بلد أوروبي إلى آخر، مع اختلاف التعامل مع أحزاب تمثل أقصى اليمين أو أقصى اليسار، فغابت أو غُيبت في بعض البلدان، وظهرت فكانت جزءا من الحياة السياسية والائتلافات الحكومية في بلدان أخرى، كما هو الحال مع الشيوعيين في فرنسا وإيطاليا، أو حزب الشعب اليميني في سويسرا والأحرار في النمسا.
والجدير بالذكر أن معظم الأحزاب الاشتراكية –وإن انبثقت من محاضن الشيوعية أو ما يوصف بالاشتراكية العلمية- حملت عنوان “اليسار” الأوروبي وكانت في واقع الحياة السياسية أحزابا رأسمالية المناهج، مع فارق التركيز على الضمانات الاجتماعية والدعوة الأممية بالمقارنة مع الأحزاب “اليمينية” من المحافظين والمسيحيين والأحرار، التي ربطت المنهج الرأسمالي غالبا بخليط من القيم المسيحية الكنسية والتصوّرات العلمانية.
هذه الصورة العامة في أوروبا بدأت تتبدل في الثمانينيات الميلادية مع ظهور معالم الاهتراء في المعسكر الشرقي من جهة وظهور ما عرف بالرأسمالية المتشدّدة في الغرب من جهة أخرى، والتي حملت عنوان الريغانية نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، والتاتشرية نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية سابقا مارغريت تاتشر. وفي تلك الفترة نفسها انحسرت موجة التجمعات اليسارية المتطرفة التي لجأت إلى العنف، مثل بادر-ماينهوف في ألمانيا والألوية الحمراء في إيطاليا وغيرها، وبدأت موجة ظهور تجمعات يمينية متطرفة، كانت موجودة من قبل، ولكنها بدأت تكسب الأنصار في أوروبا أكثر مما مضى، امتدادا لحركة مماثلة في الولايات المتحدة الأميركية. وكان العنصر الرئيسي المشترك بين هذه التجمعات هو التعصب القومي، وهو ما ساهم في توجيه العنف ضد الأجانب وذوي الأصول الأجنبية في البلدان الأوروبية.
ومنذ مطلع الألف الثالثة للميلاد يمكن تمييز المعالم التالية في الخارطة الحزبية الأوروبية:
١- اليسار الاشتراكي أو الشيوعي وريث الشيوعية كما في ألمانيا الموحدة وبلدان أوروبا الشرقية، والأحزاب الشيوعية التقليدية في بلدان أوروبية أخرى مثل فرنسا وإيطاليا.
٢- اليسار من الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين، وغالب أحزابه سلك نهج ما سمّي الطريق الثالث بزعامة الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا وحزب العمال في بريطانيا، مع ميل سياسي واقتصادي شديد نحو اليمين تحت شعار “أحزاب الوسط” ومع التخلّي عن كثير من الضمانات الاجتماعية التاريخية.
٣- اليمين التقليدي من المحافظين والمسيحيين والأحرار، وقد أصبحت أحزابه في هذه الأثناء أقرب إلى الرأسمالية المتشدّدة، مع تبنّي العولمة دون تحفظ كتحفظات اليسار عليها.
٤- اليمين المتشدّد أو أحزاب أقصى اليمين، وقد أصبح أبرز ما يميزها عن اليمين التقليدي تبنيها للدعوات القومية، وهي المشاركة فعلا في اللعبة الديمقراطية، رغم الخلط المتعمّد –غالبا- بينها وبين اليمين المتطرّف.
٥- اليمين المتطرف الذي لا تمثله أحزاب رسمية إلا نادرا، فغالبها محظور، وهو المقصود عن الحديث عن نازيين جدد، أو حليقي الرؤوس، أو جماعات العنف اليميني، أو الجماعات العنصرية.
والملاحظ في هذه المعالم ضمور وجود أحزاب الخضر بعد أن كانت تمثل قطاع المحافظة على البيئة وحركة السلام ومناهضة التسلّح، وغابت هذه الدعوات في مناهج الأحزاب الأخرى وفي نشاط المنظمات غير الحكومية، هذا مقابل ما قد يضاف إلى هذه المعالم في المستقبل المنظور، كاتجاه وليد يمثل “مناهضي العولمة” مما تنامى بقوة لا سيما في فرنسا، واحتل موقع دعوات البيئة وحركة السلام على مستوى جيل الشبيبة، ولا يستبعد أن تظهر تشكيلات حزبية له في عدد من البلدان الأوروبية.
عوامل انتشار التطرف اليميني
بشكل عام تميل أوروبا إلى اليمين بصورة مطردة وضاعفت سرعتها بعد سقوط الشيوعية، وانعكس ذلك في السياسات الرسمية والمناهج الاقتصادية والاجتماعية ومثل بالتالي مناخا عامّا يساهم في تفسير أسباب انحسار ظاهرة التطرف اليساري وانتشار التطرف اليميني مكانه. وللوصول إلى صورة عن نتائج ذلك بالنسبة إلى المسلمين حاليا ومستقبلا، ينبغي الانطلاق من عداء التطرف اليميني وأعمال العنف الصادرة عنه للأجانب عموما، وهو ما نبت في تربة ملائمة، كان من أبرز معالمها إلى جانب المناخ العام الذي أوجدته الرأسمالية المتشددة وفرضته على تطور معالم الخارطة الحزبية الأوروبية:
١- سقوط المعسكر الشيوعي وبالتالي ضياع “جاذبية” منهجه الاقتصادي ودعوته “الأممية”. ممّا ساهم في تعزيز موقع الدعوات القومية بما فيها المتعصبة على صعيد الشبيبة.
مضاعفة سرعة مسيرة الاتحاد الأوروبي الاندماجية، ممّا أثار مخاوف شعبية على المستوى الوطني والإقليمي للمناطق المختلفة أن تكون “مركزية الأجهزة الأوروبية” على حساب الخصوصيات الوطنية والمحلية.
٢- ردود الفعل المضادّة في أوساط الشبيبة على الحملات اليهودية والصهيونية المتجددة لإحياء مفعول ما يسمّى “العقدة النازية” بعد رصد اضمحلاله، وقد استهدف جيل الشبيبة في المدارس وعبر وسائل الإعلام، فكانت ردود فعله منسجمة مع واقع عدم معايشته للحرب العالمية الثانية أو حتى الحرب الباردة.
إن استيعاب أرضية التوجهات الحزبية الأوروبية عموما هو المدخل إلى استيعاب ظاهرة العداء للأجانب وخاصة العرب والمسلمين، كأبرز العلامات المشتركة في موجات العنف التي اجتاحت معظم البلدان الأوروبية في التسعينيات الميلادية، بعد أن تلاقى من ورائها عدد من العناصر “التاريخية التأثير” دفعة واحدة:
– عنصر التعصب القومي بأبعاده المتوارثة تاريخيا المتجددة مع انهيار الشيوعية.
– عنصر التعصب الديني الذي تجدّد انفجاره في البلقان بصورة ذكّرت بحقبة سقوط الأندلس.
– ردود الفعل الأولى المتخوّفة في العالم المسيحي-العلماني عموما، تجاه الصحوة الإسلامية التي شملت المسلمين في الغرب.
ووسط هذا الخليط من المنطلقات “العقائدية” برزت العوامل “الاقتصادية” الحقيقية والمفتعلة لتلعب دورا إضافيا في استهداف العرب والمسلمين في موجات العداء والعنف المتتابعة.
التربة الاقتصادية للتطرف اليميني
على الصعيد الاقتصادي يمكن رصد عدد من التطورات التي ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة في “صب الزيت على النار” في مرجل لم توجده العوامل الاقتصادية نفسها، وكان المحور الرئيسي لهذه التطورات هو الربط غير المنهجي أو الموضوعي ما بين ارتفاع البطالة من جهة، وارتفاع نسبة الوجود البشري الإسلامي في أوروبا من جهة أخرى. وكان لكل من الظاهرتين أسباب لا علاقة لها بالأخرى إلا هامشيا، هذا مع ملاحظة أن عدد المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي المقصودة بمشكلة البطالة والتطرف اليميني، لم يتجاوز في أقصى التقديرات الغربية له حدود ١٥ مليونا من أصل ٣٨٠ مليون نسمة، أي نسبة ٤٪، معظمهم من المتجنسين وأهل البلاد الأصليين والمقيمين منذ زمن طويل، بينما لا تصل نسبة “المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء” إلى ١٪، وبالتالي يبدو للعيان مدى “تضخيم” المشكلة من جانب المسؤولين الرسميين، عند مقارنة الأرقام المذكورة مع عدد اللاجئين في البلدان النامية والفقيرة، كالصوماليين في البلدان المجاورة أو الأفغان في باكستان وإيران.
وإذا استثنينا موجة الهجرة بسبب حرب البلقان، لم تشهد التسعينيات الميلادية ارتفاعا يستحق الذكر للأرقام المذكورة، فكان “التضخيم” المشار إليه نوعا من لفت الأنظار عن الأسباب الحقيقية للمشكلات الاقتصادية المتفاقمة، وكان من خلفياتها:
١- كان الركود الاقتصادي في التسعينيات الميلادية مختلفا عن المعتاد من قبل في دورات الركود والانتعاش في العالم الرأسمالي، فطال أمده لأسباب عديدة، وبالتالي استمر العجز عن خفض نسبة البطالة الناجمة عنه، لا سيما بعد لجوء شركات أوروبية عديدة إلى الإنتاج في بلدان غير أوروبية، للضغط على تكاليف الإنتاج، وهو ما ضاعفت ظاهرة العولمة من انتشاره.
٢- سقوط الستار الحديدي مما فتح أبواب الهجرة الشرقية غربا، ونظرا إلى مخططات توسيع الاتحاد الأوروبي لم تجد هذه الهجرة إجراءات مضادة مشابهة لإجراءات “تحصين أوروبا” تجاه الجنوب.
٣- انحسار حجم الحاجة الأوروبية إلى “عمال أجانب” على النقيض مما كان عقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما انعكس في موجة من التشريعات القانونية لمنع الهجرة إجمالا، والتشجيع على ترحيل من يمكن ترحيلهم من الأجانب عموما، واقتران ذلك بحملات سياسية وإعلامية، ساهمت في ربط مشكلة البطالة بنسبة الوجود الأجنبي في أوروبا.
٤- اندلاع أزمة الديون في الثمانينيات الميلادية إذ ساهم في الكشف عن إخفاق “السياسات الإنمائية” العالمية، وبالتالي عن ازدياد هوّة الثراء والفقر بين الشمال والجنوب، وهو ما نشر المخاوف من موجات هجرات بشرية كبرى نحو أوروبا، والواقع هو أنّ الهجرة الفعلية بقيت محدودة لا تتجاوز نطاق ما يعرف بالهجرة غير القانونية، ولكنّ أثر المخاوف كان ظاهرا في نشر المناخ المعادي للأجانب عموما.
استهداف العرب والمسلمين
لم تنطلق الحملات الأولى ضد الأجانب من جماعات التطرف اليميني، إنما كانت تلك تتمثل في “الحملات القانونية” الرسمية، مثل إقدام الحكومة الألمانية منذ مطلع الثمانينيات على ربط مكافحة البطالة بتشريع قانوني يعرض مبلغا من المال على من يرحل إلى بلده من العمال الأجانب، أو الأخذ بنظام التأشيرات في بلجيكا وهولندا تجاه المغاربة بعد أن كانت غير مطلوبة لزمن طويل. وبغض النظر عن التصريحات السياسية نفسها، كان الانطباع الناجم لدى عامة السكان عن هذه الإجراءات وأمثالها، هو وجود عدد كبير من العمال الأجانب، وأن هذا مما يسبب ارتفاع البطالة بين أهل البلاد الأصليين، كما أن النفقات الناجمة عن ذلك نفقات ضخمة، فهي التي تبرر للدولة تسديد مبالغ معينة لتشجيع الأجانب على الرحيل. ونظرا إلى أن نسبة الأتراك المسلمين من العمال الأجانب في ألمانيا مثلا تناهز ٤٠ ٪، فكلمة الأجانب هنا تعني تلقائيا “الأتراك المسلمين” لدى العامة من السكان.
يسري شبيه ذلك على أسلوب التعامل مع نشر أرقام طلبات لجوء المهاجرين من بلدان معينة كأفغانستان والعراق وكوسوفو، ومع ملاحظة أن التسعينيات الميلادية شهدت إلى جانب الحرب وموجات الهجرة، ما سبقت الإشارة إليه من ميل أوروبي باتجاه اليمين اقترن بالقضاء على كثير من الضمانات الاجتماعية، أصبح الحديث عن هذه المشكلات مرتبطا في أذهان المواطن العادي وتحت تأثير التصريحات السياسية نفسها، بالأجنبي الذي يسبب نفقات “اجتماعية” باهظة، يقابلها اضطرار السلطات إلى تخفيض نفقات أخرى في قطاع الضمانات الاجتماعية.
ولم تعمل الحكومات الغربية على كشف الأرقام الحقيقية المتناقضة مع هذه التصورات، إلا في النصف الثاني من التسعينيات الميلادية، أي بعد أن أصبحت مشكلة العنف ضد الأجانب عموما وازدياد انتشار التطرف اليميني، هي الخطر الأول الذي تحمل الأحزاب الائتلافية المسؤولية عنه، فبدأت تظهر مواقف “توضيحية” كالأرقام التي نشرت مثلا عن أن حصيلة ما يسدده سائر الأجانب مقابل ما يحصلون عليه في قطاع الضمانات الاجتماعية، يوفر في الميزانيات الرسمية المليارات التي تستخدم لصالح سواهم من المستفيدين من الضمانات الاجتماعية، أي من أهل البلاد الأصليين. كما بدأت تُنشر كمثل آخر أرقام مثيرة للمخاوف بصدد انخفاض نسبة القادرين على العمل بالمقارنة مع ارتفاع عدد المسنين في المجتمعات الأوروبية، وبسرعة متزايدة ستجعل من المستحيل تغطية النفقات التقاعدية دون الاعتماد على العمال الأجانب، وارتفاع نسبة المواليد وبالتالي التعويض عن النقص المحتم في سوق الأيدي العاملة.
انتشرت حملات التوعية على هذا الصعيد وساهمت في دفع المسؤولين إليها سلسلة من موجات ردود الأفعال الشعبية، الرافضة لاعتداءات العنف العنصري ضد الأجانب، ولكن معظم حملات التوعية كان بعد أن بلغ انتشار التطرف اليميني المقترن باستخدام العنف انتشارا واسعا نسبيا، لا سيما على مستوى جيل الشبيبة، الذي يشكو من سلبيات الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة أكثر من سواه.
وهنا برز للعيان أن العرب والمسلمين كانوا هم المستهدفين على أرض الواقع أكثر من سواهم، من عمليات الاعتداء الجسدي في الشوارع والأماكن العامة، وحرق المنازل، وجرائم القتل، فضلا عن ازدياد التمييز العنصري على حسابهم في الحياة اليومية على صعيد العمل والمسكن مثلا، وحتى في نطاق تعامل الدوائر الأمنية مع ظاهرة التطرف وضحاياها. ويمكن تعليل استهداف العرب والمسلمين في الدرجة الأولى بأسباب عديدة، منها:
١- الأجنبي غير المسلم في بلد أوروبي غربي لا يتميز بمظهره العام أو سلوكه المعيشي بصورة تلفت النظر عن أهل البلاد الأصليين إذا كان من بلد أوروبي شرقي مثلا، على النقيض من غالبية العرب والمسلمين القادمين من بلدان أخرى من الجنوب.
٢- نادرا ما تميز الإحصاءات الرسمية الغربية بين فرد وآخر من حيث انتماؤه الديني، ولكن الحديث عن طالبي اللجوء والمهاجرين بسبب الحروب كان يقترن على الدوام بمثل هذا التمييز على ألسنة المسؤولين في مناصب سياسية وإدارية وبأقلام المحررين في وسائل الإعلام، حيث يرد التركيز على ربط مشكلة اللجوء بالانتماء إلى بلدان إسلامية.
٣- التقارير الدورية حول أوضاع الجريمة في البلدان الأوروبية، يمكن أن تتضمن ارتفاعا محدودا في أوساط الأجانب بالمقارنة مع أهل البلاد الأصليين، وهذا ما يفسره مثلا أن نسبة انتشار البطالة والفقر بينهم تزيد على الضعف عادة، ولكن كثيرا من المسؤولين السياسيين وفي ظل الميل الحزبي المتزايد نحو “اليمين” عموما، كانوا يبرزون في تعليقاتهم مدى “الخطر” الكامن في تلك الأرقام عندما يتحدثون عن ضرورة اتخاذ إجراءات مضادة. وهنا يلفت النظر أيضا أن عدم تحديد الجنسيات أو الانتماء الديني في التقارير الدورية بوضوح يأتي على حساب العرب والمسلمين، فالواقع هو أن الجرائم عموما لا سيما الأخطر من سواها كتجارة الرقيق الأبيض والمخدرات، إنما تقوم عليها عصابات منظمة من البلدان الشرقية بالتعاون مع مثيلاتها في بلدان غربية، وليس فيها من المسلمين إلا القليل النادر.
٤- ويضاف إلى ما سبق أن مستوى الجهل أو العداء للإسلام، والذي صنعته المناهج المدرسية ووسائل الإعلام في الدرجة الأولى، وساهم فيه المسلمون في الغرب عموما نتيجة قدر لا بأس به من “الانعزالية” من جانبهم، هذا الجهل أو العداء، كان من وراء المخاوف الأولى التي انتشرت بين عامة السكان عندما أصبحت آثار الصحوة الإسلامية ظاهرة للعيان في الدول الأوروبية نفسها، رغم أن تلك الآثار اتخذت مظاهر بسيطة نسبيا كانتشار الحجاب بين الفتيات، وازدياد إقبال الشبيبة على المساجد.
والأهم من جميع النقاط السابقة هو أن جميع هذه التطورات السلبية كانت تجد ما يعززها بقوة في المناخ الرسمي المعادي للإسلام نفسه، فقد انتقل هذا العداء بصورة شاملة منذ مطلع التسعينيات الميلادية من فئة المستشرقين فيما مضى، ومن مستوى الكتب المدرسية والكنسية ووسائل الإعلام والترفيه، إلى أعلى أجهزة صناعة القرار الغربي في القطاعات الأمنية والسياسية والفكرية، كما هو معروف شعار “صراع الحضارات”. وربما ما هو غير معروف عموما عن شعار “الإسلام عدو بديل”، فقد ورد لأول مرة على لسان وزير الدفاع الأميركي (سابقا، ونائب الرئيس الأميركي حاليا) ديك تشيني في المؤتمر العالمي السنوي للشؤون الأمنية في ميونيخ، ثم كان التحول لاحقا إلى “مكافحة الأصولية” لتجنب كلمة “الإسلام” داخل لقاءات القمم الأطلسية في روما وبروكسل، وهذا ما أوصل في خاتمة المطاف إلى عنوان “الحرب ضد الإرهاب” في قمة واشنطن الأطلسية وقبل تحوله إلى ممارسة الحرب مباشرة من بعد. لقد كان جميع ذلك على أعلى المستويات واقترن بتحركات عملية من مستوى تبديل المهام الرئيسية لحلف شمال الأطلسي، وتشكيل قوات التدخل السريع وبحيث تستهدف جغرافيا “هلال الأزمات” ما بين المغرب وإندونيسيا، وقد ربط ذلك وأمثاله بتحديد المهام الدفاعية وصيغ التدريب العسكري في وزارات الدفاع الوطنية.
التحرك الإسلامي المضاد
أول ما ينبغي تأكيده عند محاولة رصد ردود الفعل من جانب العرب والمسلمين على الحملة العدائية التي واجهتهم وما تزال تواجههم -سواء من جانب التطرف اليميني مباشرة، أو الظواهر المرافقة له والمحتضنة لدوافعه وأسبابه- هو أن سائر الجهود المضادة المبذولة كانت دون مستوى الحاجة والضرورة إلى حد بعيد، وتعدادها هنا هو من باب الإشارة إلى وجودها وضرورة تنميتها لتحقق الهدف منها.
وكان مما يلفت النظر أثناء فترة وصول الاعتداءات العنصرية إلى ذروتها، أن الجهات الإسلامية الناشطة لم تكن قادرة على توظيفها بالصورة الفعالة التي كانت تحققها الجاليات اليهودية في اتجاه نشر المخاوف من “تجدد النازية” وما يسمى “العداء للسامية”، وهذا رغم أن النسبة المئوية للأحداث التي أصابت اليهود أو منشآتهم في أوروبا آنذاك، كانت دون الخمسة من الألف بالمقارنة مع ما أصاب العرب والمسلمين، كذلك فمن الناحية النوعية، لا يوجد مجال للمقارنة بين “عمليات حرق مساكن” كانت بعض الأسر المسلمة ضحية لها، أو عمليات “ملاحقة لعدة ساعات لفرد مسلم في الشوارع مع الاعتداء بالضرب حتى الموت”. وما شابه ذلك، وبين كتابة عبارات معادية على بعض المقابر اليهودية، أو استخدام الطلاء في نشر رسوم معادية أو ما شابه ذلك ممّا ينشر تحت عنوان “تجدّد العداء النازي لليهود”.
وينبغي هنا ذكر إشارة توضيحية أيضا أن تمثيل الوجود العربي والإسلامي البشري تنظيميا في أوروبا، كان ولا يزال في الدرجة الأولى عن طريق مراكز وجمعيات واتحادات “إسلامية” فلم تبرز تنظيمات قائمة على الرابطة القومية إلا نادرا ولأسباب معروفة كما هو الحال مع الأكراد. كما أن غلبة “عنصر عرقي” معين في بعض تلك المراكز والاتحادات، كان يلبي غالبا احتياجات واقعية في التعامل كما هو الحال مع العامل اللغوي، إضافة إلى آثار مرتبطة بانتماءات حزبية لمن قام على تأسيس النشاطات الإسلامية المعنية، وإن ذاب هذا العنصر مع مرور الزمن ومع ازدياد نسبة الشبيبة الناشئة في أوروبا فضلا عن مفعول الظروف الخارجية.
وقد بقي التحرك الإسلامي إلى فترة متأخرة من الثمانينيات الميلادية يركز على جوانب معينة، من قبيل إحياء الارتباط بالإسلام، والحفاظ على الشخصية الإسلامية في مجتمع غربي، ولكن مع الغياب شبه المطلق عن الميادين السياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية وقدر كبير من العزلة عن الميادين الاجتماعية في البلدان الغربية عموما.
إن موجة الاعتداءات العنصرية، وارتفاع نسبة المسلمين من أهل البلاد الأصليين أو المواليد من الجيل الثاني والثالث للوافدين، ساهما إلى جانب عوامل أخرى في تطوّر ملحوظ في أوساط العمل الإسلامي كان من نتائجه المباشرة تذويب كثير من الاختلافات القديمة، وازدياد نسبة التنسيق والتنظيم المشترك عبر الحدود والفواصل الجغرافية والانتماءات العرقية والحزبية، وهو ما قطع أشواطا لا بأس بها في كل من إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا على التوالي، مع ظهور مرجعيات شاملة للمسلمين في أوروبا على أكثر من صعيد. وارتبط هذا التطور بمحورين رئيسيين:
١- تمثيل أكبر وأشدّ فعالية لمصالح المسلمين في حياتهم اليومية المعيشية داخل المجتمع الأوروبي وما يرتبط بذلك من ازدياد التواصل مع الجهات الرسمية والشعبية ذات العلاقة
٢- تقليص نسبة التركيز القديم على القضايا الساخنة في البلدان الإسلامية نفسها كما في قضية فلسطين وأفغانستان والشيشان وغيرها، باستثناء الدعم الإنساني والمالي.
احتمالات مستقبلية
هذه الصورة بملامحها العامة –في حدود ما ينفسح له المجال هنا- لتطور أوضاع العرب والمسلمين في الدول الأوروبية، وعلى وجه التحديد في الاتحاد الأوروبي، وما له علاقة من ذلك بالتطرف اليميني، لم تتأثر تأثرا يستحق الذكر بحوادث التفجير في نيويورك وواشنطن وما انبنى عليها من تحرك أميركي معروف تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب.
وبتعبير آخر ربما كان لمفعول الصدمة في الأيام الأولى بعد الأحداث أثره في انتشار مخاوف معينة على المستويات الشعبية تجاه المسلمين عموما والمقيمين منهم في الغرب على وجه التخصيص، وهو ما يسهل على اليمين المتطرف نشر مشاعر العداء. ولكن مفعول الأحداث انعكس واقعيا خلال فترة وجيزة من الزمن، وتحول إلى إقبال أكبر مما مضى على اقتناء ترجمات معاني القرآن الكريم، وسائر الكتب التي تتحدث عن الإسلام والمسلمين، ومزيد من التردد على المساجد وسواها لا سيما فيما يسمى “يوم المسجد المفتوح”. بالإضافة إلى الإقبال أكثر مما مضى أيضا على النشاطات المحلية للمسلمين في مواطن إقامتهم، فضلا عن ارتفاع نسبة اعتناق الإسلام على مستوى الشبيبة، ويمكن رصد آثار هذا التطور الإيجابي عموما عبر رصد ما يتحدث به “عامة المشاركين” في منتديات الحوار الشبكي مقابل عدد محدود نسبيا ممن يمارس أسلوب نشر المخاوف والتشكيك ويخدم عنوان “الحرب ضد الإرهاب” بمحاولة تعميم الاقتناع بتبرير ممارستها الواقعية كحرب ضد الإسلام والمسلمين عموما.
إن ما يواجهه المسلمون في أوروبا في المستقبل المنظور لا يتمثل في “ممارسات عنصرية لليمين المتطرف” قدر ما يتمثل في أخطار أخرى متعددة المستويات ومعظمها بمنطلقات يصنعها “القرار الرسمي” للحكومات الأوروبية، سواء نتيجة اقتناعات ذاتية، أو مراعاة للعلاقات القائمة مع الحكومة الأميركية. ومن هذه المخاطر على سبيل المثال دون الحصر:
١- توجيه ضربات محتملة إلى مكامن قوة الوجود الإسلامي في الغرب، لا سيما في ميادين التنظيم والتواصل مع البلدان الإسلامية والميدان المالي.
٢- نشر موجة جديدة من المخاوف (أو التخويف) من الوقوع في شبهة “الإرهاب” في أوساط المسلمين، لعزل العمل التنظيمي الضروري لتحقيق مختلف الأهداف المشروعة للمسلمين في الغرب عموما، عن مصدر الطاقة البشرية التي تمثل عموده الفقري.
٣- مضاعفة سلبيات العلاقات المتفاوتة ما بين الإهمال والاحتواء والخصومة وحتى الملاحقة، بين قطاع كبير من الوجود الإسلامي في الغرب وحكومات البلدان الإسلامية، وذلك من خلال توظيف “شبهة الإرهاب” في تعزيز التناقضات القائمة من الأصل بين تلك الحكومات لأسباب عديدة معروفة وسواد القائمين على العمل الإسلامي على مستوى الوافدين إلى الغرب خلال العقود الماضية.
٤- إحداث نكسة أو وقوع نكسة يمكن أن تكون مستهدفة بحد ذاتها على طريق تطور فعالية الوجود الإسلامي في الغرب، وما تحقق عبر العقود الماضية من تقدم ملموس في صفوف العمل الإسلامي، بالإضافة إلى انفتاحه على المجتمع من حوله، وظهور البوادر الأولى لتأثيره على صناعة الرأي العام وصناعة القرار.
رغم ذلك فإن من المستبعد أن يصبح مستقبل الوجود الإسلامي في الغرب “مظلما” على المدى المتوسط أو البعيد، بل على النقيض من ذلك ولأسباب عديدة، في مقدمتها ما يمكن وصفه بالمناعة الذاتية، وهي من العوامل الرئيسية التي سبق وحافظت على وجود المسلمين ورسخت هويتهم الإسلامية داخل الغرب ما بين مرحلة الضياع أو الضعف الشديد إبان الحرب العالمية الثانية والوقت الحاضر، أي في حقبة لم تنقطع خلالها سلسلة المخاطر المتوالية التي هددت الوجود الإسلامي من الأساس، نتيجة للجهل العام في المجتمع الغربي بالإسلام نفسه ونشر الافتراءات حوله، ومن خلال الجهود المبذولة لتذويب المسلمين في المجتمع من النواحي العقدية والثقافية والسلوكية، فضلا عن الجهود المباشرة للقوى الكنسية والعلمانية للتضييق على العمل الإسلامي والنشاطات التي بدأ يمارسها لا سيما لبناء المساجد والمصليات.
وإلى جانب المناعة الذاتية نجد في الوقت الحاضر أن القوى الكنسية نفسها بدأت تتجه نحو الحوار والتعاون المدروس مع الجهات الإسلامية، بعد أن وصلت الحملة “العلمانية الأصولية” في الغرب إلى البقية الباقية من مواقع القوى الكنسية في مناهج التدريس مثلا، وبالمقابل نجد أيضا أن نسبة جهل عامة الغربيين بالإسلام بدأت تتضاءل عاما بعد عام، سواء تحت تأثير الاحتكاك المباشر أو بتأثير مفعول الصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين وفي الغرب، أو نتيجة تطور وسائل الاتصال ونقل المعلومات.
نبيل شبيب