ورقة – السياسة والسياسة الشرعية
السياسة فن إدارة الشؤون الجماعية.. وهي "إسلامية" بقدر التزام مقاصد الشريعة لتطبيق العدالة والحقوق لجنس الإنسان
لا يوجد في العلوم السياسية تعريف واحد للسياسة، ولكن يمكن استخلاص عنصر مشترك في حدود تخليص المفهوم من الإضافات الصادرة عن رؤية اتجاه ما فنقول: فن الإدارة للشؤون الجماعية
ثم يمكن إضافة ما تعنيه كلمة "الشؤون الجماعية" فنجد بين أيدينا أن سياسة السلطة مثلا هي إدارة شؤون المجتمع والدولة، وأن السياسة الثقافية هي إدارة الشأن الثقافي، وهكذا..
أما عند إضافة ما يتعلق بالرؤى المتعددة التي تنسب السياسات إليها وتتحكم غالبا في ممارستها بما يتجاوز الجانب الإداري التخصصي إلى تبني "رؤية" ذاتية، سلبية أو إيجابية، فسنجد بين أيدينا سياسات عقائدية (إيديولوجية) وسياسات مصلحية نفعية (براجماتية) وسياسات شمولية (ديكتاتورية واستبدادية) وسياسات تعتمد إجراءات تمثيل الشعب (ديمقراطية).
وفي نطاق هذه "الأشكال الإجرائية التطبيقية" يندرج تصنيف السياسات بحسب تبني توجهات / تصورات بعينها، فنجد السياسات الرأسمالية والشيوعية والكنسية كما نجد أيضا "السياسات الإسلامية".
المفهوم الغربي المنتشر
لقد أصبحت كلمة "السياسة" مثالا صارخا على التأثير السلبي الخطير لفوضى المصطلحات التي نعيشها.. فالكلمة التي نستخدمها اصطلاحيا هي عند غالبنا "مترجمة" نقلا لمفاهيم "مستوردة"، وتعبر عن احتكار طبقة مدنية ما للسلطة – بغض النظر عن تقويم هذه الممارسة سلبا أو إيجابا – وهذا ما يسري منذ عصر الإغريق، ووفق فلاسفتهم، وفي مقدمتهم أفلاطون صاحب كتاب "المدينة الفاضلة" الذي جعل المجتمع فيها ثلاث طبقات، طبقة السادة الحاكمة، وطبقة العسكريين الحامية، وطبقة العامة من الناس، وعليها العمل والسمع والطاعة.
بقيت هذه النظرة الطبقية هي السائدة تاريخيا، وإن تبدلت "تصنيفا" مع تقلب موازين القوة والسيطرة، فنشأت السياسات الكنسية والإقطاعية فيما يسمونه العصور الوسطى، ثم السياسات الرأسمالية والشيوعية والعلمانية، بعد ما سمي عصور التنوير والحداثة، وهيمنت حاليا السياسات "البراجماتية" المرتبطة بنشأتها قبل قرن ونيف في الولايات المتحدة الأمريكية على أساس فلسفي فكري يقول بإعطاء الأولوية للمصلحة النفعية الذاتية، لهذا يقال سياسة الغرب سياسة مصالح.
المفهوم الذاتي المغيّب
لا يتفق ما سبق من حيث الأساس مع مقتضى كلمة "سياسة" غير المترجمة، أي عندما نعود بها إلى أصلها اللغوي العربي، وأصلها المعرفي الذاتي في دائرتنا الحضارية الإسلامية، فالكلمة مرتبطة لغويا بتحقيق الإصلاح، فكما يقول معجم تاج العروس مثلا: السياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه.
لقد نشأت كلمة السياسة بأصلها الأجنبي مشتقة من كلمة "بولس" وتعني "القلعة في قلب المدينة"، ويرتبط تعبير المدينة بتعبير "المدنية"، فجمعت الكلمة معاني: البحث عن العدالة، والقوة والنفوذ والسلطة، واستقرت على معني "نشاط الدولة".
أما كلمة السياسة في اللغة العربية فهي مشتقة من "ساس.. يسوس.." أي إدارة الأمور بما يحقق صلاح المستهدف بها، لهذا يعرّف د محمد بن شاكر الشريف السياسة بقوله:
لفظ "السياسة" في لغة العرب محمّل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة.
ويمكن الرجوع إلى المزيد بهذا الصدد في:
"موسوعة السياسة" – عبد الوهاب الكيالي
"القاموس السياسي" – أحمد عطية
"المصطلحات السياسية الشائعة" – فهد بن عبد الله الربيعة
السياسة الإسلامية
إذا وضعنا إصلاح حال البشر أي ضمان حقوقهم وحرياتهم في المرتبة الثانية، أو أهملناه، كما يجري دوليا ومحليا في الوقت الحاضر، فنحن نطبق السياسة المستوردة، حتى ولو أعطاها بعضنا عنوان: السياسة الإسلامية أو عنوان السياسة الشرعية.
وعندما نفهم السياسة وفق نشأتها في دائرتنا الحضارية، العربية والإسلامية، لا بد أن نربطها بمفهوم الإصلاح مضمونا وهدفا، ومن هنا انتشر تعبير "السياسة الشرعية"، كمصطلح فقهي اجتهادي متأخر نسبيا، لا وجود له في النصوص القرآنية والنبوية الملزمة، بل ولد في القرن الخامس للهجرة، وتعددت المناهج الاجتهادية حوله ويمكن أن تتعدّد الآن ومستقبلا، ولكن لا بد من ضابط لذلك، وهو الضابط الملزم في كل مسار فقهي اجتهادي: الالتزام بالكليات الكبرى، أو بالتعبير الأصولي: بمقاصد الشريعة.
من أهم هذه المقاصد فيما يتعلق بالسياسة:
العدالة، الكرامة، الحقوق، لا إكراه في الدين، لا ضرر ولا ضرار، الحرج شرعا مرفوع، الضرورات تبيح المحظورات..
وينبثق عن ذلك:
كل دستور أو قانون أو تصرف سياسي يتناقض مع مقتضيات السياسة الشرعية / الإسلامية إذا تناقض مع هذه المقاصد ومتطلباتها الشاملة لجنس الإنسان وفق النصوص الشرعية الملزمة بصددها
إن "السياسة الشرعية" اصطلاحا هي كما يقول د. محمد بن شاكر الشريف في دراسة مفصلة: "تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية“.
ويضيف:
المؤسسات تكون مسؤولة عن التطبيق والتنفيذ، في ظل موافقة مقاصد الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى ‘استنباط أحكام اجتهادية جديدة تبعاً لتغيير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة أكثر تحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد".
المقصود إذن هو "الجوهر" وليس الشكل"، فنخطئ عندما نربط "سياستنا الإسلامية" اليوم بتقليد شكلي للآليات التطبيقية في الماضي، ولنذكر مثلا أن السياسة النبوية لم تستخدم الدواوين كما استخدمها عمر رضي الله عنه، ولا العملة الإسلامية كما صنع الأمويون، ولا السجلات العقارية وغيرها كما نصنع حديثا، ولا حددت آلية اختيار أصحاب السلطة.. وفي جميع ذلك يمكن أن يفصل ويبدل ويطور الاجتهاد الملتزم بمقاصد الشريعة وكلياتها الكبرى.
مع غياب استخدام كلمة "سياسة" في النصوص التشريعية القطعية الدلالة والورود، باستثناء الحديث: كانت تسوسهم أنبياؤهم، يصبح الاجتهاد "المتجدد" هو الأصل، أي يمكن ممارسته الآن كما جرت ممارسته بين القرنين الخامس والثامن للهجرة، فكان من أشهر ما كتب في الموضوع السياسة الشرعية لابن تيمية، والأحكام السلطانية للماوردي، ومقدمة ابن خلدون.
بين الشرعية السياسية.. والسياسة الشرعية
ينبغي هنا أن نلاحظ:
رغم تشابه الألفاظ لا علاقة في الأصل بين تعبير "السياسة الشرعية" أي الإسلامية، وتعبير "الشرعية السياسية" وفق المتداول عالميا، وبالتالي ما أصبح يخضع لموازين القوى. فعلى سبيل المثال لا ينبغي أن ننساق وراء قول مسؤول دولي: إنه ينتزع الشرعية من بشار الأسد!
هو لا يعطي ولا ينزع، ولكن شعب سورية لم يعط الشرعية أصلا لذاك المتسلّط بالإجرام، وعلى افتراض إعطائها، فالشعب وحده صاحب السلطة الدنيوية لانتزاع ما يعطي، ولا علاقة لذلك بقوى دولية وإقليمية تتحالف حينا وتتعادى حينا آخر مع أخطبوط الاستبداد في سورية وأخواتها، انطلاقا من سياسات "براغماتية"، نفعية ذاتية، وليس انطلاقا من ثوابت العدالة والكرامة والحرية لشعوبنا.
لقد أصبحت كلمة "الشرعية السياسية" مجرد وصف للممارسات السياسية تبعا لمفعول موازين القوى الآنية، بعد أن كانت تتوافق في الماضي مع اجتهادات فلسفية وعلمية، تعددت منطلقاتها، فكان يوجد من يعتمد في تثبيت "الشرعية" على ما قاله في "العقد الاجتماعي" الفيلسوفان هوبز (ت ١٦٧٩م) ولوك (ت ١٧٠٤م): سبب التزام المواطنين بطاعة الدولة وفق طريقة ممارسة السلطة سياسيا.. ويوجد من يعتمد على قول الفيلسوف "ماكس فيبر" حول واقع ممارسة السلطات التقليدية وعنصر التأثير الجماهيري (الكاريزمية) وسريان القوانين.
أي أن من يفتقد هذه العناصر يمكن أن تسقط "شرعيته السياسية".
أما الآن.. فبات "انتزاع الشرعية" -كما يقولون- ينطلق من "حجم القوة" التي تمتلكها هذه الجهة أو تلك.
عندما ننطلق من "السياسة الشرعية / الإسلامية" يمكن أن يؤخذ من هذه الأقوال ويترك، والمعيار هو مقتضيات المقاصد الشرعية للسياسة بمفهومها اللغوي والمعرفي الذاتي.
– – –
بعض المراجع:
١- السياسة الشرعية لابن تيمية
٢- غياث الأمم في التياث الظُّلَم، لأبي المعالي الجويني.
٣- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي
٤- الأحكام السلطانية، للفراء الحنبلي
٥- د محمد عبد القادر أبو فارس، القاضي الفراء وكتابه الأحكام السلطانية
٦- في النظرية السياسية من منظور إسلامي، منهجية التجديد السياسي وخبرة الواقع العربي المعاصر، د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل
٧- في مصادر التراث السياسي الإسلامي – دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، د. نصر محمد عارف
٨- الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، د. فتحي الدريني
٩- خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، د. فتحي الدريني
١٠- رقابة الأمَّة على الحكّام – دراسة مقارنة بين الشريعة ونظم الحكم الوضعية، د. علي محمد حسنين
نبيل شبيب