ملحمة عنوانها الشعب يريد إسقاط النظام
دروس مفصل تاريخي في صناعة المستقبل
رؤية تحليلية – نعايش مفصلا من مفاصل سجل التاريخ يلقي الأعباء الجسام والمهام الكبار على الأجيال التالية
رؤية تحليلية
نعايش مفصلا من مفاصل سجل التاريخ في المنطقة العربية والإسلامية، ستقرأ عنه الأجيال المقبلة شبيه ما نقرؤه في سجل التاريخ عن أحداث كبرى في حقب ماضية، وربما يقتصر ذلك على صفحات أو حتى عبارات معدودة، لوصف مسار أسابيع، وأعوام، وعقود تالية، يوجد جديدا ولا يبقى فيه شيء مما كان من قبل اندلاع الثورات.
نعايش طاقات متفجرة، وأحداثا متوالية، ورموزا استبدادية تتهاوى، وقيادات شعبية تولد، في مشهد تاريخي ليس ككلّ المشاهد، وصورة لا يمكن أن يرقى إلى وصف ألوانها قلم كاتب أو شاعر.
من يتابع “الآن” مشاهد الثورة في مصر يمكن أن يستشرف بعض معالم المستقبل، إذ اعتُبر تحرك الشعب تحرك شباب غاضب، فتداعى إلى مسيرة احتجاجية تحت عنوان “الغضب” ثورة كبرى خلال بضعة أيام.
من تابع ذلك الشباب “الغاضب”، من أمثال الطالبة الجامعية أسماء محفوظ، وما كان يقول ويصنع قبل اندلاع الثورة، وما مضى يقول ويصنع أثناء الثورة، يدرك سريعا أننا نشهد مفاتيح التغيير في أيدي جيل جديد.
لقد تداعى الشبيبة قبل الثورة فخرج أربعة فقط من بينهم أسماء محفوظ إلى ساحة التحرير، قبل أسبوع من “يوم الغضب” وناورت “الشرطة” المتظاهرين الأربعة وتفرقوا، ثم خرجوا حسب موعدهم الأصلي في يوم الغضب الأول، الثلاثاء ٢٥ / ١ / ٢٠١١م، فانضمّ إليهم ألوف مؤلفة من أبناء الشعب، وتحولت مناورات الشرطة إلى “حرب” تخوضها “الدولة” ضد جيل الشبيبة.
وتوالت المشاهد، كمشهد الجموع الشعبية الثائرة من مختلف الأعمار والفئات، ماضية على الجسور فوق مياه النيل في قلب القاهرة نحو ميدان التحرير، لتندلع معركة لا يتخيّل عاقل أن تحدث على ذلك النحو بين “الشعب” و”السلطة”، كيف كانت تتقدم صدور الثائرين، وعلى الجانب الآخر مصفحات “القامعين”، وتدخل السيارات المصفحة في قلب الجموع، فتدهس من تدهس، ثم ترتدّ مخزيّة أمام صمود الصامدين، وتنطلق تيارات الماء على الجموع فترتدّ الخراطيم والسيارات التي تحملها أمام صلابة الأجساد الحية، وتُقذف القنابل الغازية فتتلقّاها “الأهداف البشرية” وتلقي بها في مياه النيل الغاضب.
ليس هذا صمود الغضب بل صمود الإرادة، وليست هذه غضبة شباب طائش بل ثورة شعب حر عزيز كريم، يتلاقى على هدف واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.
هشاشة الطواغيت
ليس المستغرب أن يسقط رأس الطاغوت التونسي الصغير خلال أسابيع، وأن يترنّح رأس الطاغوت المصري الأكبر منه مقاما وحجما خلال أيام، إنما المستغرب هو أن ينتشر التصور عن الطواغيت الصغار والكبار أنهم أقوياء، ثابتون، مستقرون، بدلا من إدراك حقيقة تاريخية بسيطة: الشعب هو الأقوى من الطاغوت دوما، وفي اللحظة الأولى لإدراك ذلك تتهاوى جميع الصروح الاستبدادية.
لم تنقطع في مصر المناورات ولن تنقطع بعد سقوط قوة البطش عاجزة أمام الصمود، وكان أولاها محاولة فصل “شباب ٦ إبريل” عن الشعب وعن القوى الأخرى فيه فكان جواب أسماء محفوظ المخلصة لشعبها وأرضها وأمتها، الواعية بموقعها وما وصل إليه مجرى الحدث التاريخي الكبير. أنها لا يمكن أن تقرر باسم سواها، وستعود إلى ميدان التحرير فتعرض على الثوار فيه ما يقال لها عبر إحدى قنوات الإعلام غير الرسمية.
ومقابل ذلك تلك الصورة المزرية على لسان وزير ما كان في مكانة وزير من قبل، إذ سئل أبو الغيط من قبل عن إمكانية أن تنتقل شرارة ثورة الشعب إلى مصر فكان جوابه: “كلام فارغ”! وكان يمثل تحديا استبداديا صادرا عن أحد بيادقة النظام الاستبدادي المتعجرف موجها إلى شعب مصر، إلى كرامته، استهانةً واستخفافا، وتكبرا وتجبرا؛ ولم يمض سوى أيام معدودات إلا وردّ شعب مصر على ذلك التحدي الأرعن من جانب أحد بيادقة النظام: الشعب يريد إسقاط النظام.
الثورة في مصر بذلك كالثورة في تونس، ثورة ضد الاستبداد، ذاك هو القاسم المشترك الأكبر بينهما، وهو القاسم المشترك بينهما وبين سواهما، تختلف التفاصيل، ولا تختلف الحصيلة: سقوط الاستبداد.
لم يضع أحد موعدا زمنيا لتوقيت الثورة في تونس، ولم يضع أحد موعدا زمنيا لتوقيت الثورة في مصر، ولن يضع أحد موعدا زمنيا لوقوع الثورة في هذا القطر أو ذاك من الأقطار، ولا لتجددها مهما وقع من نكسات على طريق التغيير، بل هي لحظة تأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون، فتلك إرادة الشعب، إن قرّرت سقوط الاستبداد سقط، شاء أم أبى، عاجلا أو آجلا.
التبرؤ من الاستبداد
كم من أجهزة للقمع تمارس الإرهاب باسم الأمن، والبطش باسم الاستقرار، والفساد باسم التطوير، والتعذيب باسم الوطنية، ولم تجد لنفسها بعد الثورة مهربا ولا ملاذا، إلا لمن يفصل نفسه عنها فالفرصة سانحة أن يدركوا أنّهم “أفراد من الشعب” لا ينبغي أن يجعلوا من أنفسهم وحوشا للاستبداد بدلا من ذلك. الفرصة سانحة ليرفضوا طاعة مخلوق ضعيف مستبد في معصية الخالق، بطشا وتنكيلا وتعذيبا واضطهادا وظلما وقتلا وكبتا للحريات وانتهاكا للحقوق البشرية، فليس هذا من شيمة “بشر”، ولن تبقى هذه الفرصة طويلا فلا أحد يعلم متى يجرفه هدير الشعب في بلده: الشعب يريد إسقاط النظام.
إنّ للشعوب قوتها الأكبر ابتداءً من كل طاغوت مستبد، والأمضى مفعولا من كل سلاح إجرامي، والأبقى نبضا بالحياة على مد العصور، إنما تتنامى قوة الشعب مع ازدياد فُحش أفاعيل الاستبداد نفسه. وما أصدق تلك الكلمة الصادرة عن أحد أساتذة العلوم السياسية الفضلاء تعقيبا على ما صنع “الشباب” في بلده مصر: لقد تعلّمت الكثير من هؤلاء الشباب.
إنّ الشعوب هي التي تصنع النخب وليس العكس، وإن الشعوب هي التي تصنع المعارضة وليس العكس، وإن الشعوب هي التي تصنع الثورات، لتصبح هياكل الأنظمة والمعارضة والنخب بعضا من نتائج ثوراتها وليس العكس، ومن ينحرف عن هذا الطريق ومسار الثورة، تجرفه الثورة مع المستبدين.
إن مستقبل المعارضة ومستقبل النخب يتحدّد بقدر ما تستجيب لمتطلّبات الحقبة التالية لتحقيق إرادة على وقع هدير إرادة الشعب: الشعب يريد إسقاط النظام.
القيادات الشعبية
لقد أظهرت الثورات أن الوعي على مستوى كافة فئات الشعب وليس على مستوى الشباب فقط، قد تجاوز إلى حد بعيد مستوى الوعي على صعيد القيادات الحزبية والنخبوية والتنظيمية، ولهذا لم يكن في ثورة حضارية تاريخية كثورة مصر، فارق يميز بين صغير وكبير أو امرأة ورجل، جميعهم يتحركون بإرادة مشتركة، وعزيمة ثابتة، واستبسال يقيني، وهدف واضح، ووسائل قويمة، وتنسيق تصنعه الثورة، وتنظيم متطور وفق متطلبات اللحظة، وتعاون متواصل منقطع النظير، الثورة هي التي تصهر الجميع إلا من أبى.
الثورة هي التي تصنع القيادات، وليس العكس، وإن قيمة كل قيادة مرتبطة بقيمة نصيبها من الثورة وليست أي قيمة من قيم الثورة مرتبطة بقيمة قيادة تاريخية أو زعامة حزبية أو وجه من وجوه التنظيمات المعروفة، وإن كان لا يستهان بالقيمة الذاتية لأي من الزعامات والقيادات المخلصة.
ولئن كان جوهر الثورات واحدا على امتداد الزمان والمكان، فإن شرارة اندلاعها ومسارها ونتائجها، يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف.
الآن أيها المسؤولون عن الأحزاب والنقابات والتيارات والتنظيمات والنخب.. الآن موعد التلاقي على أهداف مشتركة تفرضها المصالح العليا المشتركة وتخضع لها التطلعات الذاتية والاجتهادات المتباينة لدى الأحزاب والتنظيمات والجماعات والتيارات وما يشابهها على امتداد الأرض العربية والإسلامية.
الآن.. وليس بعد أن تسبق عامةُ الشعوب جميعَ النخب، موعد التخلي عن تشبث القادة التقليديين بمواقعهم على حساب جيل من الشبيبة أقدر منهم على تحقيق الأهداف الكريمة المشروعة، وموعد التخلي عن الأنانيات الضيقة المفرقة، وعن إعطاء الأولوية لمواطن الاختلاف والنزاع إزاء مواطن الالتقاء والتفاهم عبر حدود الانتماءات والتنظيمات والتصورات المتعددة.
الآن.. يستطيع الصادقون المخلصون ممن يعتبرون أنفسهم “معارضة” في نطاق أنظمة استبدادية، أن يرتفعوا بمستوى أنفسهم ومستوى تنظيماتهم ومستوى مواقفهم وقراراتهم ومستوى جهودهم وتضحياتهم إلى مستوى الشعوب وتطلعاتها وثورتها، ومستوى الأوطان ومصالحها، ومستوى العصر ومتطلباته، كيلا يجدوا أنفسهم في مؤخرة الصفوف بعيدا عن هدير التغيير: الشعب يريد إسقاط النظام.
رعب الاستبداد من العدالة
لم يعرف تاريخ العالم من قبل ثورة “شعبية” بمعنى الكلمة، صدرت عن الشعوب، وقادتها الشعوب، ورسمت معالمها وحددت تضاريس وجهها الشعوب، وهنا تعرض الثائرون للقمع والبطش، فلم ينتقموا، وتعرّضوا للفتك الإجرامي ولم تتحوّل الثورة إلى “فوضى إجرامية”، وانفردت بالثائرين الشوارع والساحات فلم تتحول الجموع إلى جموع هائجة تجرف ما حولها!
رغم ذلك يبقى أن من أشد مصادر خوف المستبدين من السقوط وأسباب المضي الأرعن على طريق البطش والقمع حتى نهايتهم هم، جاثين على ركبهم أمام الشعوب، أنهم يخشون على أنفسهم من “انتقام” يوازي بصورة من الصور بعض ما صنعوه ويصنعونه من خلال استبدادهم.
من يفكر بأسلوب همجي، يحسب ضحاياه لا يفكرون إلا بمثل أسلوبه..
ومن يمارس الإجرام يظنّ ضحاياه مجرمين مثله..
ومن فقد الوجدان لا يدرك أن سواه لم يفقد الوجدان.
وتدرك القوى الدولية المهيمنة، أن الثورة على الاستبداد المحلي هي الثورة على جوهر الاستبداد المتمثل في احتكار السيادة على صنع القرار في أي ميدان من الميادين، سواء شمل ميادين “السياسات الخارجية” أم لم يشمل، بأيدي فئةٍ من الفئات، سواء شاركت في الاستبداد مَن يسير في ركابها خوفا وطمعا أم لم تفعل، أو فردٍ من الأفراد، سواء اعتبر نفسه زعيما ملهما أو قائدا فذا أو كائنا من غير البشر.
إنّ انتصار ثورات الشعوب سيصبّ في حصيلته في طريق سقوط نهج كامب ديفيد بكل إفرازاته، ونهج مدريد بكل تجلّياته، ونهج أوسلو بكل موبقاته، ولن يصبّ في صالح مَن يميزون أنفسهم بترددهم أو ممانعتهم واقعا أو كلاما، وبنجاح جزئي حقيقي أو موهوم، تجاه تلك الإفرازات والتجليات والموبقات، ما دامت هوة الاستبداد عميقة بينهم وبين الشعوب، قد امتلأت بآلام المعتقلين والمعذبين والمحرومين داخل الحدود، وفي هذه الهوة سيسقطون؛ فالشعب يريد إسقاط النظام، إسقاط الاستبداد بحد ذاته وبمختلف تجلياته وموبقاته، فهو جريمة بحقّ الشعوب والأوطان، وإن كل جريمة بحق الشعوب والأوطان هي جريمة بحق القضايا المصيرية كقضية فلسطين وقضية تحرير سيادة الشعوب على صناعة القرار.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب