مقالة – مع ذكرى حماة ٢٥/ ٢/ ٢٠٠٣م

احتجنا في ثورتنا الحالية أيضا إلى وقت طويل، دفع شعبنا خلاله ثمنا باهظا، لندرك ما تعنيه كلمة "يا ألله.. ما لنا غيرك يا ألله"

45

الصدام المأساوي ١٩٧٩/١٩٨٢م

 

(فقرة من دراسة بعنوان "الخلفية الدينية والطائفية للوضع السياسي في سورية" منشور في مداد القلم وسبق نشره في شبكة الجزيرة يوم ٢٥ / ٢ / ٢٠٠٣م)

 

مع هيمنة العلويين هيمنة كاملة على السلطة بمشاركة صورية لسواهم من السنة دون أن يكون لهم قوّة فاعلة في السبعينات الميلادية، انطلقت حملة استئصال القوى الأخرى وإقصاء رموزها، بدءا بزعماء حزب البعث، كصلاح البيطار، وميشيل عفلق، ومنيف الرزاز، ويوسف زعيّن، وحتى بعض العلويين أنفسهم مثل صلاح جديد.. ثم أضافت هذه الهيمنة بُعدا آخر عن طريق ما تشكّل من ميليشيات عسكرية وأجهزة مخابرات جديدة. وقد بلغت ميليشيا "سرايا الدفاع" بزعامة رفعت الأسد أقصى مدى من الانتهاكات في اعتداءات مباشرة على المواطنين والاستيلاء على ممتلكاتهم وممارسة التعذيب في المعتقلات، وغير ذلك ممّا جعل الأجواء الداخلية في سورية منذ منتصف السبعينات الميلادية على حافة وقوع صدام ما، على المستوى الشعبي وليس على مستوى المواجهة مع التيار الإسلامي بالذات.

وواضح من استمرار الأحداث الدامية ثلاثة أعوام ما بين ١٩٧٩ و١٩٨٢م، ومن حجم القوّة العسكرية التي استخدمها النظام الحاكم من دبابات وطائرات ومدفعية وغيرها، ومن الاعتقالات وعدد الضحايا بعشرات الألوف.. واضح أنّ تصوير تلك الأحداث وكأنّها من صنع "عصابات إرهابية" كما حاولت السلطات أن تطرحها، تصوير لا يفتقر إلى الموضوعية فقط، بل ويتناقض مع الوقائع مباشرة تناقضا كبيرا.

إنّ السخط الشعبي الشديد الذي سبّبته ممارسات السلطة في عهد حزب البعث، وبلغ ذروته في عهد حافظ الاسد، بما في ذلك الفتنة الطائفية الكامنة في هذه الممارسات، هو الذي جعل الشرارة الأولى التي انطلقت في مواجهة النظام، تتحوّل إلى تحرّك شعبي واسع النطاق، شمل فئات عديدة، ولم يقتصر على "أفراد" طرف واحد، كما قيل عن الطليعة المقاتلة، كما لم يقتصر على قوّة الإخوان المسلمين بمجموع ما امتلكت من إمكانات وقواعد شعبية عريضة بغض النظر عن توزيعها بين فريقين رئيسيين، فريق التزم بزعامة عصام العطار التاريخية للإخوان، وآخر برز من زعمائه لاحقا عدنان سعد الدين وسعيد حوى في الدرجة الأولى.

صحيح أنّ الجولة انتهت بإخماد ما اعتبرته أدبيات الإخوان المسلمين "ثورة إسلامية" واعتبرته السلطات "أعمالا إرهابية" وأنّ حكم حافظ الأسد استقر بعد ذلك حتى موته دون أن يتعرّض لخطر داخلي يُذكر، إلاّ أنّ الأسلوب الذي اتّبعه في مواجهة الأحداث، جعل تلك الحقبة من تاريخ سورية حقبة دامية بمعنى الكلمة، ولها عناوين عديدة، على أنّ أبرزها ما تتحدّث عنه مصادر المعارضة السورية عموما -وليس مصادر الإخوان المسلمين فقط- تحت عناوين "مجزرة سجن تدمر" و"مأساة العصر في حماة"، وقد قتل في الأولى ما لا يقلّ عن ٧٠٠ معتقل داخل السجن، وقتل في الثانية -على حسب تعدّد المصادر- ما بين بضعة عشر ألفا وبضعة وثلاثين ألفا من عامة السكان، وليس من المقاتلين فقط، تحت قصف الطائرات والدبابات والمدفعية وبالأسلحة الرشاشة.

ولئن ظهر في مطلع الأحداث بعض الكتابات والمواقف التي طرحت المواجهة طرحا طائفيا ردّا على الاستبداد الطائفي، فلا ينبغي في تقويمها الفصل بينها وبين الأرضية الطائفية التي أوجدها الحكم الاستبدادي، ولا عن مفعول "اللحظة الآنية للأحداث"، لا سيما وأنّ موقف الحكم السوري من الإخوان عموما كان موقف الاستئصال إلى درجة إصدار قانون يقرّر حكم الإعدام لمجرد الانتساب إلى الجماعة، ولا يزال ساري المفعول حتى الآن.

هذا إلى جانب أن سائر أطراف التيّار الإسلامي انتهت إلى استبعاد عنصر "الصراع الطائفي" والتأكيد على مواجهة "الاستبداد" بغضّ النظر عن هويته، وهذا المنطلق البعيد عن صراع طائفي كان قد برز في وقت مبكّر ومع بداية الأحداث في مواقف عصام العطار على وجه التخصيص، كما ورد مثلا في قوله (١٢/١٩٧٩م) عبر مجلة الرائد التي تصدر في آخن حيث يعيش في المنفى:

"إنّنا لا نحكم على عقائد الأجيال الجديدة من العلويين وغيرهم بمجرّد الرجوع إلى عقائد آبائهم وأجدادهم في الكتب القديمة.. نحن لا نخاصم العلويين من حيث هم علويّون، ولكنّنا نخاصم ديكتاتوريتهم الطائفية القائمة.. فإذا انتهت هذه الديكتاتورية فهم مواطنون كسائر المواطنين لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليهم من الواجبات".

أو قوله (٣/١٩٨٠م):

"إننا نخاصم هذه الديكتاتورية ويخاصمها معنا أبناء شعبنا باسم الإسلام، وباسم الديانات السماوية الأخرى، وباسم كلّ قيمة من القيم الإنسانية العليا، وكل شرعة من الشرائع الدولية المحترمة.. نحن إذن نخاصم الديكتاتورية، طائفية كانت أو غير طائفية، بكل مقياس من المقاييس الدينية والوضعية المعتبرة."

وانطلاقا من هذا الموقف كانت صياغة المطالب الأساسية، مثل "إلغاء حالة الطوارئ، ووقف القتل العشوائي، وإطلاق الحريات، وإنهاء الحكم الديكتاتوري، والاحتكام إلى الشعب في اختيار نظام حياته وحكمه.."

وكانت هذه في حينها مواقف لا يستهان بشأنها عند الإشارة إلى ما كان يسود من غضب شديد على مستوى الشبيبة المسلمة من سورية وخارجها إزاء التمييز الطائفي المنتشر في سورية آنذاك، وما يجري على أساسه من أحداث، شملت الاعتقالات وعمليات التعذيب والقتل دون محاكمة ودون توجيه تهمة ما، كما يبرز ثقل الموقف عند الإشارة إلى تعرّض عصام العطار نفسه للاغتيال وهو في مدينة آخن بألمانيا، وتمسّكه بموقفه المبدئي المذكور بعد اغتيال زوجه بنان الطنطاوي العطار أيضا، أثناء وجودها وحيدة في منزلها وهو في أحد المستشفيات للعلاج، إذ أصدر على الفور بيانا يناشد فيه الشباب المسلم في سورية وخارجها عدم اقتراف أي عمل انتقامي ردّاً على الاغتيال، ورفض في مقابلة صحفية تحميل المسؤولية للعلويين جميعا، أو تحميل المسؤولية لهم من حيث هم "علويّون".

وعند الرجوع إلى تاريخ الإخوان المسلمين في سورية على مدى عدّة عقود، لا يمكن العثور فيه -كما تشهد مثلا مؤلفات مصطفى السباعي ومحمد المبارك وغيرهما- أيّ أثر لعداء أي طائفة من الطوائف، بل عُرف عن الجماعة طوال فترة قيادة السباعي والعطار الانفتاح والتعاون مع أصحاب المعتقدات الأخرى دون استثناء.

إن الأرضية "الطائفية" التي تركت آثارها في أحداث ١٩٧٩/١٩٨٢م وبقيت فترة زمنية لا بأس بها من بعد، إنّما كانت من صنع نظام الحكم في سورية ومن خلال ممارسات التمييز الطائفي التي سادت داخل البلاد، والتي شملت أطرافا من الطائفة العلوية نفسها، وكان من أبرز علاماتها الباقية أنّ الألوف الذين دخلوا السجون في تلك الفترة، ومن قبل في عمليات "التطهير" لأجهزة الدولة، لم توجه إليهم -إلا نادرا جدّا- تُهمٌ رسمية فضلا عن عدم محاكمتهم، ثمّ الامتناع عن إخلاء سبيلهم لعشرات السنين.

نبيل شبيب