مقالة – البابا الكاثوليكي بين بؤس التشريد وخطر الإرهاب

يخدم التحول الأوروبي الجاري "التوطين النهائي" للطاقات الشبابية والكفاءات المهاجرة.. فهل تعود؟

37

"لم يكن بيرجوجليوس بطلا ولا كان متآمرا خلال السبعينات الماضية".. هذه كلمات الصحفي البريطاني روبرت كوكس، أول من كشف انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحكم العسكري الاستبدادي في الأرجنتين بين عامي ١٩٧٦ و١٩٨٣، وأدلى برأيه في تلك الكلمات عام ٢٠١٣م حول "فرانسيس أو فرانسيسكوس" البابا الجديد آنذاك للكنيسة الكاثوليكية الرومية، و‎المعروف باسمه الأصلي بيرجوجليوس من قبل، وقد كان في حاجة إلى مثل هذه الشهادة، بسبب الاتهامات العديدة التي تعرض لها على نطاق واسع بشأن تعامله مع الحكم العسكري، مما شمل تداعيات انخراط بعض رجال الكنيسة في المقاومة، وتعرض مئات الأطفال إلى الاختطاف من جانب العسكريين من أحضان أمهاتهم فور ولادتهم.

 

البابا في تيار التشريد واللجوء

كانت للبابا الكاثوليكي خبرته المباشرة مع المآسي الإنسانية من قبيل مأساة التشريد السورية في الوقت الحاضر، واشتهر منذ استقر على رأس الفاتيكان في روما بكلماته المتكررة دفاعا عن المحرومين وانتقاداً لعالم يحكمه "الجشع" وليس المصالح المادية "المشروعة"، ولكن كان معروفا أيضا -وقد ناهز الثمانين في هذه الأثناء بصياغة مواقف تثير الجدل، كما هو الحال الآن مع تحذيره في مقابلة إذاعية من "خطر تسلل إرهابيين" في نطاق استقطاب أوروبا لموجة جديدة من الهجرة البشرية، الكبيرة بالمقاييس الأوروبية، وقد نقلت كلماته وكالة رويتر وتلقفته وسائل إعلامية عديدة يوم ١٤/ ٩ / ٢٠١٥م، فأثار التساؤلات والانزعاج مقابل التأثر العميق بالمشاهد المأساوية لتعامل السلطات المجرية على وجه التخصيص مع المشردين ما بين حدود البلدان الأوروبية، وهذا وضع يتطلب في الأصل كثيرا من الحذر في تصريحات مسؤول من مستوى رئيس دولة الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية الأكبر عالميا.

الواقع أن كلام البابا فرانسيس لم يستهدف المشردين في "القفار" الأوروبية، بل ارتبط في الدرجة الأولى بتيار التشريد والهجرة عبر مياه البحر الأبيض المتوسط، حيث تعتبر إيطاليا المحطة الأوروبية الأولى لها، ولهذا أشار في حديثه المذكور لإذاعة رينينسانس الكاثوليكية إلى وجود "منظمة إرهابية شرسة على بعد ٤٠٠ كيلو متر فقط من جزيرة صقلية" منوها بذلك إلى وجود داعش في ليبيا، وتكلم عن اللاجئين من القارة الإفريقية، وهم "يفرون من الحرب والجوع" مضيفا: "لكن هذا هو الجزء الظاهر من المشكلة، لأن ما خفي هو السبب، والسبب يتمثل في نظام اقتصادي واجتماعي سيئ وظالم".

لم يصدر هذا التحذير من فراغ، أو بتعبير أصح لم يكن الأول في مسلسل مواقف الكنيسة الكاثوليكية في روما من الحدث الذي أصبح على رأس اهتمامات الدول الأوروبية حاليا، فقبل أسبوع واحد فقط كرر فرانسيس مطالب سبق أن طرحها، أن تستقبل أوروبا اللاجئين إليها، وأن تنهج معاملة إنسانية معهم، وسبق ذلك قوله في تورين يوم ٢١/ ٦ / ٢٠١٥م "إن التعامل مع هؤلاء الناس وكأنهم بضاعة ومتاع يدفع إلى البكاء"، وقوله أمام المجلس النيابي الأوروبي يوم ٢٥/ ١١/ ٢٠١٤م "لا يمكن القبول بتحويل البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة كبرى".

 

الفاتيكان واليمين المتطرف

هذه المواقف الكنسية وجدت ردود فعل من نوع آخر صدرت عن بعض الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان، فانتقدوا أنه لا يكفي "الكلام" من جانب المسؤول الأول عن الكنيسة الكاثوليكية، التي لديها ‎من الثروات ما يمكّنها -إن أرادت- من الإسهام المباشر في تخفيف المعاناة الإنسانية، ومن ذلك امتلاكها أكثر من عشرين في المائة من العقارات في إيطاليا بمجموعها، وهو ما تزيد قيمته على بليون (ألف مليار) يورو، فمقابل ذلك ما جدوى أن تحتضن مراكز كنسية كاثوليكية في ألمانيا مثلا بضع مئات فقط ممن يتهددهم "الترحيل" بسبب رفض طلبات لجوئهم، فتمنع تنفيذ قرار الترحيل أو تؤخره، دون التعامل "الإنساني والمالي" المباشر مع تيار الهجرة بمجموعه؟

يبدو أن هذه الانتقادات دفعت البابا الكاثوليكي إلى موقف جديد يوم ٦/ ٩/ ٢٠١٥م، أي بعد انفجار مسلسل الأحداث المأساوية على خط التشريد الواصل ما بين سواحل اليونان وقلب ألمانيا والسويد، فأعلن عن إيواء عدد رمزي من اللاجئين في مركزين تابعين للكنيسة في روما، و"ناشد" -ولم يصدر تعليمات بابوية- جميع الأسقفيات وفروعها الرئيسية في الدول الأوروبية إيواء ما لا يقل عن عائلة من المشردين في كل منها، وهذا -إذا نفذه فعلا المسؤولون عن ١٣٠ ألف مركز كاثوليكي- يعني إيواء ما يتجاوز نصف مليون مشرد، وقد سارع سلفه بينديكت السادس عشر -وكان قد غادر الكرسي البابوي طوعا‎- إلى التأكيد على لسان وصيفه الأسقف جينفاين، عبر وكالة أنباء "أنسا"، أنه يشاطر البابا فرانسيس قلقه على مصير اللاجئين، وهو -أي بينديكت- المعروف سابقا بما وصف بالإساءة البابوية للإسلام والمسلمين.

الدعوة الأوسع نطاقا لإيواء المشردين من جانب البابا فرانسيس أثارت بدورها حفيظة أشد المعادين لاستقبالهم في أوروبا عموما، لا سيما في المجر وإيطاليا، وجاء الرد خلال يومين على لسان كبير الأساقفة في جنوب المجر "لاتسيو كيس ريجو" بقوله: "هؤلاء ليسوا لاجئين، بل غزاة" وأضاف لصحيفة واشنطون بوسط يوم ٨/ ٩/ ٢٠١٥م: "يأتون هنا ويصيحون الله أكبر، ويهددون بذلك قيمنا المسيحية، ولا يحتاج السوريون إلى المساعدة، بل لديهم مال وفير، وهم يمارسون سلوكا متعجرفا متعاليا في المجر". ولا يخفي الأسقف تطابق كلامه مع ما يصرح به رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مرارا وتكرارا، بل يقول ذلك بصريح العبارة مضيفا "أما البابا فرانسيس فليس له أي معرفة بحقيقة الأوضاع".

هذه المعارضة الكنسية من جانب أسقف كاثوليكي عيّنه البابا بينديكت قبل تسع سنوات، تزامن مع معارضة سياسية للبابا فرانسيس داخل إيطاليا من جانب أحد زعماء "رابطة الشمال" لوكا تسايا، ولم تكن علاقاته سيئة مع الكنيسة الكاثوليكية، وقد وصف كلام البابا فرانسيس بأنه كلام من "يستسهل أن يتحمل آخرون الأعباء لتأمين احتياجات الألوف إلى مأوى وغذاء ودواء ثم ضمان النظام والأمن في الوقت نفسه، ولا غرابة أن يثير ذلك أهل البلاد" مشيرا إلى مظاهرات احتجاجية في مدينة فيرونا الإيطالية، التي اعتبرها احتجاجات "تدافع عن الحقيقة والحضارة".

 

تلاؤم كنسي مع تحول أوروبي؟

على هذه الخلفية من الانتقادات لمواقف سابقة، يأتي رد البابا فرانسيس على سؤال إذاعة "ريسينانس"، بأنه لا يجهل بوجود خطر "تسلل إرهابي" ويجب التعامل معه، إنما لم يقترن ذلك بالرجوع عن دعوته إلى التعامل الإنساني مع قوافل التشريد اللاجئة إلى الأرض الأوروبية.

وهذا ما ينسجم مع مواقف سابقة للبابا الكاثوليكي الحالي، ميّزته عن سلفه، من بينها إدانته الحذرة نسبيا للاعتداء على مقر صحيفة تشارلي إيبدو الفرنسية مطلع ٢٠١٥م، عندما أضاف يقول من منطلق الدفاع عن الأديان عموما: "يوجد كثير من الناس الذين يتعرضون للأديان، هذا يمكن أن يحدث، ولكن ينبغي أن تكون له حدوده، فلكل دين كرامته التي لا ينبغي لأحد أن يستهزئ بها" وقال حول حدود حرية التعبير إنها "موازية لحدود ألا يهين الإنسان أمه".

هذه وأمثالها مواقف تثير غضب اليمين المتطرف في أوروبا، ولا يخفف منه التحذير من "تسلل الإرهابيين"، وإن كان هذا لا يمنع من تأويله واستغلاله كتصريحات ومواقف عديدة أخرى، لاسيما في المرحلة الراهنة التي تشهد تحولا في "المزاج العام" للرأي العام الأوروبي، تحت تأثير القضية السورية في الدرجة الأولى، فقد ارتفعت نسبة التعاطف الشعبي مع المشردين السوريين بدرجة غير مسبوقة مع أي حالة تشريد أخرى، ويمكن أن يترك ذلك أثره على تخفيف الاستقطاب الشعبي الذي شهدته سنوات ماضية ارتفعت خلالها نسبة نجاح التطرف اليميني عبر صناديق الانتخاب، بينما يلاحظ حاليا تراجع قدرة اليمين المتطرف على حشد الأنصار للتحركات والمظاهرات الاحتجاجية، كما كان قبل شهور معدودة مثلا مع حركة "بيغيدا" التي تزعم أنها تناهض "أسلمة أوروبا".

لعل من بين أسباب صعود اليمين المتطرف حتى الآن خطأ كثير من المسؤولين في محاولة مواجهته عبر مواقف وتصريحات سياسية تحذيرية من "الأسلمة.. والتطرف.. والإرهاب"، شبيهة بالتحذير البابوي الآن، وكان يطلقها ساسة حزبيون من اليمين الأوروبي، بغرض "سحب البساط" -كما يقال- من تحت أقدام الأحزاب المتطرفة، إنما لا ينتظر في مرحلة التحول الاجتماعي والسياسي الحالية أن تنحسر هذه التصريحات دفعة واحدة، ولا أن ينحسر مفعولها السلبي بطبيعة الحال، بغض النظر عن ارتباط الانفتاح السياسي التدريجي على حركة اللجوء بدوافع اقتصادية تستهدف تعبئة الشواغر الناجمة عن خلل الهرم السكاني، وضمان استمرار حركة "آلة تنمية الاقتصاد الغربي".

الجدير بالذكر أن تحسين المعطيات الأوروبية، القانونية والسياسية والاجتماعية، للتعامل مع المشردين، لا سيما من البلدان العربية والإسلامية وفي مقدمتها سورية والعراق وأفغانستان، قابل للتحقيق بقدر ربطه بالمعايير المصلحية التي تصنع السياسات الغربية عموما، وعدم الاكتفاء بالتركيز على الدوافع الإنسانية وحدها.

إنما الجدير بالذكر أيضا أن هذا التحول الأوروبي الجاري يخدم في نهاية المطاف "التوطين النهائي" للطاقات الشبابية والكفاءات المهاجرة، فيتعارض جملة وتفصيلا مع احتياجات البلدان العربية والإسلامية التي تخوض معركتها الحالية للتحرر من الاستبداد المحلي وألوان الهيمنة الأجنبية، وستحتاج إلى تلك الطاقات مع تجاوز حقبة الثورات والتغيير إلى حقبة البناء والنهوض.. وهذا شأن آخر لا يتسع له الحديث في هذا المقال.

نبيل شبيب