رأي – الأمم المتحدة وبيت المقدس

معايير التصويت للقرار ومعايير العمل للقضية

قضية فلسطين قضية الإنسان في كل مكان، وقضية إيمان وعقيدة ومقدسات، وقضية نضال في الوطن وفي الشتات

0 60

قبل النظر في أبعاد معايير التصويت، ومعايير العمل المطلوب لفلسطين، ومع تجاوز بعض الحيثيات والتفاصيل ذات العلاقة بنص القرار حول بيت المقدس، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم ٢١/ ١٢/ ٢٠١٧م، يمكن النظر في عملية التصويت نفسها، فيلفت الانتباه مثلا امتناع البوسنه والهرسك عن التصويت، والسؤال: هل كانت السياسات “الرسمية”، العربية والإسلامية، منذ حرب البلقان واتفاق “دايتون” تدفع إلى اطمئنان البوسنه والهرسك الآن، لتتحدى الضغوط الأمريكية؟

رغم ذلك، كان الأولى بها -وهي هنا مثال- أن تلجأ لأهون الشرين بالغياب عن الجلسة، كما فعلت تركمانستان مثلا، بل هذا ما فعلته ميانمار أيضا، وهي التي تتلقى أسلحة إسرائيلية بصورة مباشرة أثناء ما ترتكبه بحق الإنسان المسلم فيها تنكيلا وتقتيلا وتشريدا.

أما تصويت ٩ دول ضد القرار فتنحصر قيمته في تأهيلها لقائمة دولية رسمية بعنوان دول مارقة، وبعضها أصغر شأنا من ذلك، هذا مع ملاحظة أن الوجود الإسرائيلي بفلسطين لا يرقى على كل حال إلى مستوى دولة فلم يتجاوز موضوعيا حدود ثكنة عسكرية صهيوأمريكية في قلب المنطقة الحضارية الإسلامية، مع ما يستلزمه وجود الثكنة من خدمات شبه مدنية ملحقة بأسلحتها ومنشآتها وفرقها العسكرية.

فيما يتعلق بقضية فلسطين تحديدا، وفيما يتعلق بمستقبل ما بقي من منظومة الهيمنة والتبعية الدولية الموروثة عن أتون الحرب العالمية الثانية، لا يحسن الجزم بأن هذا القرار خطوة في اتجاه صحيح، ليس قبل أن نتوقف عند بعض الجوانب الأساسية.

(١) التصويت يحدد اتجاه الريح عموما وليس هو معيارا لرؤية معالم سياسات ومواقف وممارسات عملية تجاه فلسطين وقضيتها ومستقبلها، بل توجد دول أجنبية تمارس سياسات خطيرة للغاية بمنظور قضية فلسطين، ولكن أصبح تصويتها لصالح القرار محتما لتأكيد سيادتها بعد أن وضعتها سلسلة التصرفات والتصريحات الأمريكية “الترامبية” على المحك بصورة فجّة، وهو ما لا تستطيع تمريره تجاه شعوبها والرأي العام لديها.

(٢) توجد دول عربية تتناقض سياساتها “التطبيعية” وما يتفرع عنها تناقضا صارخا مع قضية فلسطين من حيث الأساس، بما يشمل بيت المقدس أيضا، ولكن توقيت الإعلان الترامبي الاستفزازي توقيت فاضح، وتضاعف مفعوله هذا نتيجة سرعة تعامل جهات عربية وإسلامية أخرى معه، كما كان عبر مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي مثلا، فبات فرز تلك الدول التطبيعية ثقيلا وعلنيا، لو سقطت في هاوية عدم التصويت بالموافقة على القرار، ولكن لا يعني ذلك إطلاقا أنها لن تتابع مساعيها التطبيعية الغادرة بشعوبنا وقضايانا، مع ممارسة مظاهر التطبيع بالإكراه، ولا نغفل عن أن الضرر الأكبر الذي أصاب قضية فلسطين طوال عقود مضت كان دوما ضرر الطعنات من الخلف.

إن قضية فلسطين أكبر وأشمل من الجانب المطروح في القرار المذكور مهما كان مهمّا، ولا يمكن اعتباره خطوة جادة بالفعل في اتجاه صحيح إلا عند اقترانه بتغيير السياسات الحالية من الجذور، في قضية فلسطين وعلى الصعيد الداخلي تجاه الشعوب، وفي قضايا الارتباط الوخيم بمعادلة الهيمنة والتبعية.

الترحيب بالقرار الأممي يتطلب أيضا عدم إغفال أنه قرار كلامي وثائقي، ترتبط قيمته الفعلية بما يرافقه أو لا يرافقه من سياسات وخطوات وإجراءات عملية في التعامل مع قضية فلسطين، وهنا ما ينبغي تركيز الاهتمام عليه، وإلّا ففي المواثيق الدولية ما يكفي من نصوص موثقة دوليا بصياغة أوضح وأحكم حول حق تقرير المصير وعدم جواز اغتصاب الأراضي بالقوة، فلا يبدل ذلك اعتراف دول كبرى ولا صغرى ولا منظمات دولية، وهذا ما يجب التأكيد أنه المصدر الأول والأهم في القانون الدولي، وليس ما يوصف بالعرف الدولي التطبيقي ما دام مفروضا بالقوة من جانب أي جهة من الجهات.

إن العمل الحقيقي المطلوب لفلسطين وقضيتها هي السياسات والممارسات المباشرة، بدءا بكتب التعليم مرورا بسياسات الإعلام انتهاء بإعداد أسباب القوة، وهذا ما يحمل الجميع المسؤولية عنه، من أفراد ومنظمات وهيئات ومؤسسات، ووزارات ودوائر رسمية:

من فلسطين وما حولها..

ومن المنطقة العربية وما حولها..

ومن الدائرة الحضارية الإسلامية وجميع ما ينتمي إليها..

وكذلك على مستوى أحرار العالم الذين يأبون استمرار معادلة الهيمنة بالقوة والتبعية عجزا أو هوانا، ويدركون أنها بلغت مداها الأخطر على مستقبل البشرية، منذ الحرب العالمية الثانية، وآن أوان العمل الجاد والمتواصل من أجل إسقاطها، ليعود للمعمورة وجهها البشري الإنساني.

إن قضايا الحق والعدالة والإنسانية ومنها ما يرتبط بأهداف التحرر والكرامة والسيادة، تتعرض لأضرار كبيرة عندما تحصر تحت أي راية إقصائية تفصلها عما حولها، سواء كانت راية وطنية أو إقليمية أو حتى عقدية، فكل قضية عادلة هي قضية جماعية، وهذا ما يسري على قضية فلسطين العادلة، فلها مسار فلسطيني عربي إسلامي إنساني في وقت واحد، ويتكامل العمل لها مع قضايا الحق والتحرر والعدالة والكرامة لصالح الإنسان من شعوب أخرى.

إن القرار الأخير يرمز إلى ما يعنيه ذلك، فهذا الترابط الشمولي الجماعي بالذات هو ما عطّلته القوى المهيمنة بالباطل على ثروات العالم ومصادر القوة فيه، وعلى مفاصل صناعة القرار، وكانت وسيلتها الأكثر مفعولا وسيلة فصل القضايا العادلة عن بعضها بعضا، ليمكن استخدام أغلال التبعية لتقييد شعوب الأرض، شعبا بعد شعب، في قضية بعد قضية.

إن الانتصار لقضية فلسطين يتحقق بالتشابك المباشر مع الانتصار لقضية البوسنه والهرسك والانتصار لقضايا كشمير وميانمار، والانتصار لقضية هوة الفقر المدقع والثراء الفاحش في الولايات المتحدة الأمريكية وسواها، أو بإيجاز واختصار: قضية فلسطين هي قضية الإنسان في كل مكان، وهذا مع الاندماج الكامل مع كونها قضية إيمان وعقيدة ومقدسات، وقضية شعب يناضل ضد استعمار استيطاني داخل وطنه، وفي شتات تشريده عنه في كل مكان من العالم.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب