جريمة الإبادة الجماعية
القانون والقضاء تحت السيطرة
مفاهيم – ازدواجية المعايير وتغييب المرجعية الدولية يخلط الأوراق ويغتال الضوابط
مفاهيم
يواجه مفهوم جريمة الإبادة الجماعية ضجيجا مقصودا، سياسيا وإعلاميا، لتغيب الحقيقة القانونية الدولية عن الأنظار والأسماع، وتحل مكانها أفاعيل الهيمنة اعتمادا على القوة المتناقضة مع العدالة والقانون الدولي.
ولنقارن مثلا بين أسلوب تعامل الغرب مع ما يقوله عن إبادة جماعية استهدفت الأرمن، أواخر العهد بالدولة العثمانية، وبين تعامل الغرب مع الأفاعيل العلنية من جانب كيان الاغتصاب الإسرائيلي قولا وفعلا، بكل ما تعنيه الإبادة الجماعية من معنى، مستهدفا أهل فلسطين لا سيما في غزة.
ليست القضية قضية تاريخ وواقع حاضر ولا قضية أكثرية وأقلية، فمقتل أي إنسان فرد، ظلما وعدوانا، مرفوض ومدان بمختلف المقاييس والمعايير والأزمنة والأمكنة، إنما يدور الحديث هنا عن التلاعب بمصطلحات قانونية تعاملا عدوانيا وليس انتقائيا وازدواجيا فحسب.
الفارق أكبر من الحاجة إلى شرحه، بين التطاول حتى على محكمة العدل الدولية من جهة وهي السلطة الدولية المختصة، وبين التطاول على تركيا دون وجود أي جهة مرجعية تتهمها أو تدينها، بل إن الطلب التركي مرفوض حتى بصدد استخدام البحث العلمي التاريخي لضبط المصطلحات والمعايير وما تقرره بشأن الاتهام بارتكاب الإبادة بحق الأرمن، وهو الاتهام الصادر عن جهات غربية ليس لها مشروعية الحسم في قضايا دولية أصلا.
ولكن: كيف نصل إلى معايير قويمة للتعامل المنهجي مع جريمة الإبادة الجماعية ومفهومها؟
الإشكالية نفسها شاهد على الاستهانة بالشروط الواردة في تعريف الإبادة الجماعية في نصوص القانون الدولي، وتحديدا في المادة الثانية من اتفاقية عام ١٩٤٨م الدولية، والتي سرى مفعولها منذ عام ١٩٥١م، وهو التعريف الوارد تحت عنوان: منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
والشواهد على الاتهام دون دليل والإنكار رغم علنية الجريمة أوسع نطاقا مما سبق ذكره من مقارنة، فالوقائع معروفة في تاريخ ما فعل الغزاة الأوروبيون في الأمريكتين وتضمن مقتل عشرات الملايين من السكان الأصليين، ثم ما فعل المستعمرون الأوروبيون في البلدان التي استعمروها، أي سيطروا عليها بالقوة واستغلوها، فكان من ذلك المتاجرة حتى بأهلها رقيقا، وقتل من يثور ويتمرد إبادة بلا حساب، كحال فرنسا في الجزائر وبلجيكا في الكونغو وألمانيا في ناميبيا وإيطاليا في ليبيا والصومال، وبريطانيا وهولندا والبرتغال في أدنى الأرض وأقصاها، والصهاينة في فلسطين، وكحال الروس والأمريكيين في أفغانستان، والأمريكيين وأعوانهم في العراق، ثم مذابح الشاشان ورواندا وكوسوفا والشركس والتتار، لا سيما من أهل شبه جزيرة القرم المحتلة من جانب روسيا منذ زمن طويل وليس في مطلع الحرب الروسية ضد أوكرانيا حديثا، ثم البلقان لا سيما في البوسنه والهرسك في قلب أوروبا، وناهيك عما ارتكبه الصهاينة في فلسطين ويرتكبونه من فظائع، وكذلك مذابح قانا وصبرا وشاتيلا وغيرها في لبنان.
السؤال المحوري:
من يصنف هذا الحدث أو ذاك في موقع إبادة جماعية وفق الاتفاقية الدولية المشار إليها، مع ما يترتب على ذلك من إجراءات؟
تذكر المادة الثانية في الاتفاقية المذكورة آنفا خمسة عناصر تستدعي طرح السؤال عن الإبادة الجماعية منها مثلا. ولكن العنصر الأهم في صياغة الاتفاقية عموما هو أن يكون ما يحدث متعمدا بقصد الإبادة؛ وهنا أصبح من الضروري التساؤل:
أين المرجعية؟ وكيف يستهان بمحكمة العدل الدولية وقراراتها مقابل ما تمارسه فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي بلد آخر سيان من يكون عبر توجيه الاتهامات بصيغة أحكام؟
ثم كيف يُقبل ذلك مع واشنطون بالذات وهي التي تنتزع لنفسها ولجنودها والمدنيين ممن يتبع لها، حصانة غير مشروعة من المحاسبة على أي جريمة يقترفونها في أي مكان من العالم، ومن ذلك أيضا أنها اشترطت عند التوقيع على اتفاقية منع الإبادة الجماعية عدم التعرض لقضية إبادة جماعية تُرفع ضدها أمام محكمة العدل الدولية ما لم توافق هي على التقاضي.
أما المحكمة الجنائية الدولية فقد انسحبت أصلا رافضة العضوية فيها، بعد مشاركتها في مناقشة بنود اتفاقية التأسيس وعملت بالضغوط السياسية على ربط عمل المحكمة المباشر تجاه أي دولة ليست عضوا فيها بقرار من مجلس الأمن الدولي أي بقرار الفيتو / النقض عند الحاجة.
مسألة الإبادة الجماعية إذن أوسع نطاقا مما يثير مرة بعد أخرى ضجيجا سياسيا وإعلاميا تحت هذا العنوان تبعا لمعادلات العداء الغربي أو سواه، بأسلوب يضع السياسة فوق القانون الدولي وتحت سيطرة الهيمنة المفروضة بالقوة بمختلف أشكالها، وهي صورة من صور الإصرار على استبقاء السياسة دون ضوابط منظومة قيم وأخلاق وسلوك، وهذه إشكالية لا يمكن أن تجد حلا لها ما دامت السياسة فوق القانون، والقوة فوق القضاء، والهيمنة والنفوذ دوليا هما مرجعية فرض القرارات وإخضاع الآخرين لها.
في هذه الإشكالية وفي كثير مما يشابهها في الواقع الدولي الراهن، لا بد من رفض مشروعية ما يسمى تحالف الأقوياء وتحالف الراغبين وغير ذلك من ابتكارات ظهرت في عصر تحكيم شرعة الغاب عالميا، والدعوة بدلا من ذلك إلى إنشاء تحالف الجهات الأضعف عالميا، للعمل معا على إحداث تغيير جوهري يزيل الخلل القائم في النظام العالمي من قبل الحرب العالمية الثانية وحتى المستقبل المنظور.
وأستودعكم الله وأستودعه الأسرة البشرية على أرضه ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.