معتقل استبدادي كبير
اعتقال إنسانية الإنسان أخطر من اعتقال الإنسان
تحليل – نشر في شبكة الجزيرة يوم ٩ / ٢ / ٢٠١٠م
تحليل
أصبح معتقل جوانتانامو عارا أسود إلى جانب سواه في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن كم من معتقل ومعتقل يوجد داخل العالم العربي والعالم الإسلامي، وكثير منها إن لم نقل جميعها يمثل عارا أسود في تاريخنا الحديث؟
ليس الكلام هنا عن معتقلات تشهد ألوانا لا تحصى من هدر الكرامة وراء القضبان، ووحشية التعذيب على أيدي السجان، ووأد الحريات والحقوق دون حساب، وما لا يحصى من خرقٍ للقوانين المنحرفة، وتجاهل القليل القويم منها، وانتهاك الدساتير على ضعفها وتشويهها.
السجون والمعتقل الكبير
لو انفسح المجال للحديث عن تلك السجون والسجانين وعن الأحرار والمظلومين فيها، لطال كثيرا، إنما المشكلة الأكبر في أن من يتحدثون عن ذلك من حقوقيين ومدافعين عن حقوق الإنسان، وهم يخاطرون عبر الحديث بأنفسهم، وقد يؤول بهم المصير إلى دخول السجون التي يريدون تفريغها من الأحرار الأبرياء وإغلاقها، هؤلاء لا يجدون أذنا صاغية، ولا يصل حديثهم إلى مستوى التأثير الفعال رسميا ولا شعبيا، وكثير من المنظمات التي أنشؤوها في نطاق قنوات ضيقة أوجدت بغرض التنفيس المسيّس، أي بحيث لا يؤثر عملها على سلطة السلطان، كثير من تلك المنظمات لا يكاد يسمع بنداءاتها إلا أصحابها وبعض ذوي الاهتمام الخاص بالمتابعة، هذا إنما اشتهر رغم أن الفضاء العربي والإسلامي حافل بما ينقل عبر الأثير من أخبار ومقالات ومواقف ومشاهد، مما لا يقارن بما كان عليه الوضع قبل فترة وجيزة من الزمن، ورغم أن شبكة العنكبوت وصلت ما بين القاصي والداني في أنحاء الأرض.
المشكلة الأكبر هي المعتقلات الأكبر بقضبانها وسجانيها ومساجينها وانتهاكات الكرامة والحقوق والحريات فيها، وهي قائمة خارج نطاق جدران تلك السجون والمعتقلات التقليدية.
في الولايات المتحدة الأمريكية إنما اشتهر اسم جوانتانامو وأصبح عارا على التاريخ الأمريكي، لأن الاستبداد الدولي الحاكم عبر واشنطون لجأ إلى إقامته خارج الحدود، فرارا من الرأي العام الداخلي، وتأثره بسبب الانتهاكات التي تُرتكب فيها على النقيض مما تقرره المواد الدستورية والقانونية داخل الحدود، هذا بغض النظر عن مفعول السلبيات والنواقص والانحرافات وسطوة مراكز القوى وهيمنة مراكز الإعلام والفكر على الحريات والمثل والمبادئ، إنما يوجد من المتابعة حد أدنى أجبر الحاكم على الهرب بانتهاكاته لإنسانية الإنسان غير الأمريكي، إلى خارج الحدود الأمريكية.
أما المعتقلات والسجون في بلادنا والممارسات الوحشية والانتهاكات المستمرة لإنسانية الإنسان وراء قضبانها، فلا يحتاج الحاكم إلى الهروب بها خارج الحدود، فهو مطمئن لحقيقة أنه يحكم معتقلا كبيرا، لا يوجد فيه الحد الأدنى من المتابعة والمحاسبة، الذي يجعله مضطرا إلى بعض الحيطة والحذر في بعض ما يصنع.
معتقلات الفكر والفقر والترف
كل من لا يوالي المتسلط المستبد، على استبداده وفساده ولا يشاركه في ارتكاب المظالم ما ظهر منها وما بطن، محكوم عليه أن يقبع في معتقل الكلمة والرأي، فإن تكلم وجد نصيبه من ممارسات الاستبداد ملاحقة وحصارا، أو سجنا وتعذيبا، أو نفيا وتشريدا.
كل من لا يعيش كبيدق من بيادق السلطة في ممارسة الفساد والمحسوبية والإعلام الموجه والفكر المنحرف والثقافة التائهة، بعيدا عن قضايا الناس وحياة الناس ومشكلاتهم وآمالهم وآلامهم، كل من لا يعيش بيدقا محكوم عليه أن يعيش -أو يموت- وراء قضبان معتقل الفقر والبؤس ليفتح عينيه صباحا على كوابيس البحث عن لقمة الطعام لأهله ويغلق عينيه مساء على كوابيس الخشية مما قد يأتي به غده.
كل من يتجرأ على تجاوز حدود الكتابة المنضبطة في إطار مشاكل يومية ومسائل جانبية، لا يرتفع على سلم الانتساب إلى النخبة، فشرط الانتساب للنخب هو أن يكون في خدمة السلطان فيصور التخلف تقدما، والهزيمة انتصارا، والحكم احتكارا وإرثا، والتسلط حكمة وفنا، والمسؤولية وهما، والمحاسبة منقصة، والعجز ذريعة مقبولة، والإخفاق أمرا اعتياديا، وارتكاب الجرائم الكبرى بحق الأمة والأوطان والقضايا المصيرية أمرا يستحق التغاضي ويستحق مرتكبها التبجيل، فهو سلطان بريء، ربما ابتلي بحاشية فاسدة، أو بظروف دولية قاهرة، أو معارضة تستقوي بالأجنبي، أو سوى ذلك مما تتفتق عنه أذهان النخب المقربة وتوأد من أجله نصائح النخب المغضوب عليها!
الاستبداد يجعل الحاكم يرى في مظاهرة سلمية شغبا، وفي رأي حر خطرا، وفي مدونة شبكية صغيرة جريمة، وفي مطالبة بالحقوق تعديا، وفي انتقاد المسؤول إهانة، وفي المحاسبة على المسؤوليات السياسية بدعة، وفي الاستغاثات مشهدا خياليا، وفي عقول أبناء شعبه صوت شارع هائج، وفي حوار حرّ عبر فضائية إخبارية تمردا وتحريضا، وفي كشف الفساد خيانة، هذا الحاكم أنشأ دون الرقي سدا، ودون التقدم والنهوض حاجزا، ودون تحرير الأرض والإرادة السياسية خندقا، ودون الخروج من هامشِ الهامش في عالمنا وعصرنا جدرانا منيعة، ودون توظيف الثروات والطاقات الذاتية في خدمة الأمة والأوطان ما لا يحصى من المعتقلات المرئية، الأخطر على الأمة والأوطان من تلك السجون والمعتقلات المخصصة لوأد أحرار الأمة والأوطان وراء القضبان.
لقد صنع الاستبداد في معظم بلادنا العربية والإسلامية من السجون والمعتقلات في البر والبحر والأجواء داخل حدود الوطن ما جعل الوطن الكبير معتقلا كبيرا.
وإن هذا المعتقل الاستبدادي الكبير هو الآفة الأكبر من سواها، فهو ما يبيح الاعتقالات العشوائية، والمحاكمات الصورية، والانحرافات باسم القانون، والمظالم باسم القضاء، والتخلف عبر الفساد، وهو في الوقت نفسه المصدر الأكبر والشامل والمستمر لانتهاكات لا تنقطع للحقوق والحريات والكرامة الإنسانية، على أوسع نطاق شامل لمعظم أفراد الأمة وفئاتها.
الاستبداد وواجب مكافحته
هل كان يمكن أن تحمل لنا الأنباء المتوالية تسابق أنظمة عربية وإسلامية على ملاحقة حجاب في فضائية ونقاب في جامعة وخطبة في مسجد وكلمة في مدونة، أو أن تحمل لنا الأنباء في كل يوم أو في كل أسبوع خبر اعتقال فلان أو فلان من الناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان، حتى وإن بلغ من العمر عتيا، ليحاكموا ويسجنوا وتقطع ألسنتهم مجازا، هل كان يمكن ذلك لولا اعتقال الكلمة وجور الاستبداد؟
إن الاستبداد هو الآفة الكبرى وعلة العلل ومكمن الجرح الكبير الذي تعاني منه الأمة في حاضرها ومستقبلها وكافة قضاياها المصيرية، وهو ما يرسخ الاستخذاء في السلطة على هامش العالم والاستكانة في المحكوم داخل قضبان الوطن.
فمن أراد العمل من أجل الإنسان وكرامة الإنسان في البلدان العربية والإسلامية، فالطريق إلى ذلك هو وضع نهاية للاستبداد، وتحكيمُ إرادة الشعب ومشاركته المباشرة في صناعة القرار على كل صعيد سياسي واقتصادي ومالي واجتماعي وفكري وثقافي وتربيوي ورياضي وفني.
من أراد العمل لنصرة المعتقلين داخل السجون وخارج السجون، واستعادة الحقوق والحريات، ومكافحة الفقر والمرض، وإنقاذ الأرض والمقدسات، واستثمار الطاقات والثروات، وسلوك درب النهوض والتقدم، وتعزيز موقع العلم والبحث، وتقويم الفكر والإعلام، وتحرير المرأة والرجل، وتنشيط الزراعة والصناعة، وأخذ المكانة الكريمة على خارطة العالم وفي واقع البشرية، وحمل رسالة الخير والهداية والعدالة للإنسانية، فإن الطريق إلى ذلك كله هو نهاية الاستبداد وتحكيم إرادة الشعب ومشاركته المباشرة في صناعة القرار على كل صعيد.
الاستبداد هو العنوان الجامع لكافة الأوبئة والأمراض، ومكافحة الاستبداد هي البوابة الأكبر للشفاء من كافة الأوبئة والأمراض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن يريد مكافحة الظلم والظالمين والاستبداد والمستبدين، حتى ولو كان غلاما ناشئا: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام، وجفـت الصحف) فمن أراد النجاة في الدنيا والآخرة فلا يقعدنّ عن مكافحة الاستبداد بكل ما يملك من الوسائل، إلا ما قد يتعدى به على سواه فيوقعه في ارتكاب ظلم بحق نفسه وحق إنسان آخر.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب