يان روس – ما الذي سيبقى من الغرب؟

يان روس: تبخرت أوهام نشر إمبريالية جديدة

مطالعة – نشرت في شبكة الجزيرة يوم ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٨م

104

 

مطالعة

 

الكاتب: يان روس – Jan Ross
العنوان: ما الذي سيبقى من الغرب؟ (ما الذي سيبقى منّا؟)
دار النشر: روفولت /
 Rowohlt– برلين
الطبعة الأولى: ٢٠٠٨م
عدد الصفحات: ٢٢٨ صفحة

 

 

نظرة أمريكية إقليمية – حتمية السقوط  – نهاية عصر الاستعمار – بلسم كاثوليكي للحضارة الغربية

آثرت ترجمة عنوان الكتاب إلى: ما الذي سيبقى من الغرب، رغم أن ترجمته الحرفية هي: ما الذي سيبقى منا؟ فالمؤلف يان روس يتحدث بمنظور كاتب غربي عن تطور الوضع الراهن للغرب على الخارطة العالمية باعتبار انتمائه إليه، ويخاطب بكتابه الناقد أهل الغرب، انطلاقا من وصف الواقع الراهن الذي يعبر عنه العنوان الثاني على غلاف الكتاب: نهاية سيطرة الغرب عالميا.

والكاتب معروف من خلال موقعه المتميز في أسبوعية دي تسايت، كبرى الصحف الأسبوعية الألمانية، ومسؤوليته عن تنسيق الشؤون السياسية الخارجية في تحريرها، ومن خلال كتبه، وكان منها: الأعداء الجدد للدولة عام ١٩٩٨م، وأي نوع من العالم نريد، الذي نشره بمشاركة ريتشارد فون فايسئكر، الرئيس الأسبق لألمانيا.

وهذا الكتاب حول نهاية السيطرة الغربية، الصادر عام ٢٠٠٨م، تعرّف به دار نشر روفولت المعروفة في برلين بقولها: (بعد ١٥ عاما على فرضية فوكوياما عن نهاية التاريخ، يشخص يان روس النقيض تماما، فبدلا من أن تكون الدول الديمقراطية الحرة على أبواب نصرها النهائي يتهددها خطر الخسارة في صراع الحضارات، ويعرض ذلك في كتاب على مستوى ثقافي رفيع، تتخلله معالم تاريخية عالمية).

ولم تبالغ دار النشر باستخدام تعبير: مستوى ثقافي رفيع، إذ تظهر الخلفية الفكرية الثقافية بقوة عبر طرح رؤى الكاتب ومناقشتها، من وراء محتوى الكتاب الأشبه بعرض تاريخي متعمق، وجرد حساب تحليلي حاسم للفترة التي قضاها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في الرئاسة، أثناء عامه الثامن والأخير فيها. وقد تناول الكاتب الموضوع في أربعة فصول، تعبر عناوينها عن المضمون بصورة دقيقة، وهي على التتالي:

– تحولات تاريخية زمنية

– البرابرة ونحن: كيف أصبح الغرب وما هي حقيقته

– الإمبراطورية ترد الضربة: أوهام النصر بعد ١٩٨٩م

– بعد خسارة السيطرة: كيف يحافظ العالم الحر على بقائه

وكما هو الحال مع كثير من الكتب التي تعالج الأوضاع السياسية والأمنية والحضارية عالميا في الوقت الحاضر، ينطلق هذا الكتاب أيضا من محطة تفجيرات نيويورك وواشنطون عام ٢٠٠١م، فيشير المؤلف كيف أراد بوش الابن جعلها نقطة انطلاق حقبة جديدة، تجعل من مطالع القرن الحادي والعشرين الميلادي بداية الحرب على الإرهاب أو الحرب ضد الإسلام أو الهيمنة الأمريكية عالميا، ولكن لا يصدق شيء من هذه العناوين على هذه المرحلة كما يقول الكاتب، فالعنوان الأصح هو: سقوط الغرب.

 

نظرة أمريكية إقليمية

يشير الكاتب إلى مواصفات بعض صانعي القرار في واشنطون، مثل تقدير بوش الابن لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق تشرشل، أول من اعتبر هتلر عدوا للحضارة، وتأسّي جونداليزا رايس بالرئيس الأمريكي الأسبق ترومان، صانع سياسة الأحلاف لحصار الاتحاد السوفييتي، فكما صُنع ضد الشيوعية آنذاك، ينبغي أن يصنع الآن ضد الإسلام، بدءا بمصلياته الصغيرة على الأرض الأوروبية وحتى مدارس تعليم القرآن في باكستان وإندونيسيا. وهذه الخلفية العدائية كانت ظاهرة للعيان بقوة أكبر في كل كلمة كان يلقيها الشريك البريطاني طوني بلير، حيثما ظهر ما بين لوس أنجلوس ودبي، وهو من أراد طرح ما يجري، ليس تحت عنوان: صراع الحضارات، بل تحت عنوان: الصراع من أجل الحضارة، فكأنه ينفي وجود حضارة سوى الحضارة الغربية، والمعركة تدور في نظره بين كل من يأخذ بما يراه الغرب، وكل من يرفض الأخذ به.

لكن هذه الصورة أمريكية محضة، وليست عالمية كما أراد بلير طرحها، فحديث الأمريكيين عن الخشية من الإرهاب، يقابله حديث الأوروبيين عن الخشية من الهجرة، والغالبيةُ من البشرية ترى المشكلات الأكبر في الفقر والجوع والمرض والتخلف، أما تلك المبالغة الضخمة في تحويل المعركة إلى معركة عالمية ضد المسلمين المتطرفين، فلا تعدو أن تكون نظرة إقليمية (أمريكية) ضيقة عند التأمل فيها عبر المنظور التاريخي العالمي.

وفي الوقت الذي شغلت واشنطون فيه نفسها بحربها العالمية الجديدة، كان العالم يشهد ميلاد قوى جديدة سياسيا واقتصاديا، وبدلا من أن تتحقق نبوءة صحيفة لوموند اليسارية الفرنسية التي كتبت عقب التفجيرات: جميعنا أمريكيون، وقع الانقسام في الغرب بين أنصار حرب احتلال العراق ومعارضيها، ولم تعد المشكلة مشكلة العراق وحقيقة وضعه، بل مشكلة الغرب وحقيقة تطور أوضاعه، ولم تكن حدة الخلاف بسبب تناقض المصالح قدر ما كانت بسبب تناقض الرؤى الشمولية المستقبلية للعالم، حتى تحول إلى صراع حضاري أمريكي-أوروبي، حسب تعبير المؤلف، وهذا مما انعكس في أن المظاهرات المليونية المعادية للحرب كانت في العواصم الأوروبية، ولهذا (كانت حرب العراق من جهة ساعة بداية الاهتراء الذاتي ومن جهة أخرى لحظة الذروة في الغرور الغربي)، ومعظم ما كان بعد ذلك كان يشير إلى أن الغرب لم يعد وحده المتصرف عالميا، كما يشهد مثال التعامل مع البرنامج النووي الإيراني.

من خلال هذا التحليل الناقد يعزز الكاتب دعائم نظريته الأساسية في قراءة الوضع العالمي في الفصل الأول من كتابه، فمعالم خارطة نظام عالمي جديد لم تحددها ضربات وأحداث مثيرة كتفجيرات نيويورك وواشنطون، أو حرب احتلال العراق، بل كانت ترسمها تطورات تغييرية هادئة ومستمرة، تؤكد ظهور مراكز قوى جديدة في أنحاء العالم، لم يعد الغرب قادرا على فرض إرادته السياسية عليها، وهذا ما نشر داخل الغرب تعبير: تعدد الأقطاب مقابل: الهيمنة الانفرادية الأمريكية.

وقد حمل الطرح الغربي للأزمة عنوان عداء المسلمين المتطرفين، والعداء ليس مشكلة، فالمواجهة يمكن أن تؤدي إلى النصر، ولكن المشكلة تكمن في أن نهوض قوى جديدة أصاب الغرب في الصميم، إذ عدّل جذريا من موقعه العالمي، فكأنه بات يسأل نفسه: ألم يعد لدينا ما هو أفضل لنقدمه عالميا؟. يرمز إلى ذاك أن ستين في المائة من الصناديق الشاحنة للبضائع الآسيوية إلى أمريكا وأربعين في المائة إلى أوروبا، تعود إلى آسيا فارغة. وكانت الوفود الاقتصادية المرافقة للزيارات الرسمية تأتي بصفة تقديم مساعدات إنمائية وباتت تزور البلدان نفسها سعيا وراء الطلبات التجارية والاستثمارات. ويضاف إلى ذلك ما بدأ ينشأ من علاقات بين القوى الاقتصادية الناهضة والقوى النفطية، دون أن تمر عبر المركز في الغرب، كما كان في الماضي.

الغرب يواجه تحدي الأعداء والمنافسين وتحدي الآخرين الذين يتحركون بسرعة أكبر، ولم يعد يمكن التعامل مع هذا التحدي بالوسائل التقليدية للسياسة الخارجية. الوضع الجديد تجاه الإسلام يختلف اختلافا جذريا عما كان تجاه الشيوعية في الحرب الباردة، وما نشره الغرب من قوات ما بين البلقان وأفغانستان لا يجد سوى الشك والعداء وحتى العمليات التفجيرية المضادة، وهذا وحده يكفي لانتشار الشك في الغرب نفسه حول حقيقة المهمة التي يقول بها عن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.

عودة الإسلام أصبحت صحوة تاريخية قائمة على الاعتقاد بالنهوض من جديد كما هو الحال مع مناطق حضارية عقائدية أخرى، وهنا يختم الكاتب الفصل الأول بفقرة يقول فيها: (لقرون عديدة هيمن الغرب عالميا، وكان عدوانيا توسعيا أنانيا، وكان تفكك دوله الاستعمارية أول انهيار في مسيرته هذه… أما الآن فبدأ تيار التطور التاريخي يتحرك في اتجاه معاكس).

 

حتمية السقوط

الفصل الثاني مخصص لحديث مفصل عن الجذور التاريخية للوعي المعرفي الغربي، فيعود الكاتب بالتصورات الغربية عن الآخر في الشرق، إلى أعماق تاريخ المواجهات العسكرية بين الإغريق والفرس، وكيف أصبحت في الوعي المعرفي الغربي مواجهة حاكم إمبراطوري مستبد لعدد كبير من البشر، منطلقا للفكر والتطور القائم على الفرد وحرياته في الغرب، وكذلك لطرح الحضارة الغربية في مراحل التعليم المختلفة على أنها (من أفلاطون حتى حلف شمال الأطلسي) وكأنها وحدة واحدة تجاه ما صدر عن الشرق من (حروب بربرية).

كما يستشهد الكاتب بالأديب والشاعر الروسي جوزيف برودسكي عام ١٩٨٥م، اللاجئ إلى الولايات المتحدة الأمريكية وما ذكره عن إسطنبول بعد زيارة لها، وكيف أنه لم يترك صفة سلبية إلا ووصم بها أهلها من حقبة بيزنطة الأرثوذوكسية إلى حقبة الخلافة العثمانية، حتى استعار من ديكارت عبارة أنا أفكر فأنا موجود، ليستخرج منها وصفا للفرد الشرقي: (أنا أذبح، فأنا موجود)، وحاز بعد ذلك على جائزة نوبل للأدب!

وينتقل المؤلف إلى الحقبة الأخيرة ليعتبر أن ثورة إيران في نهاية السبعينات وفتوى الخميني بشأن كتاب الآيات الشيطانية، متزامنة مع هزيمة السوفييت في أفغانستان، هما المنطلق لكل ما تلاهما، باعتبار الأولى أخذت مكانها تاريخيا بعد الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية، والمنطلق الإسلامي من وراء ذلك هو الذي يتجدد الآن كما تشهد أحداث الكاريكاتيرات الدانيماركية وما شابهها.

وينقل الكاتب ما صوره المؤرخ إدوارد جيبون في القرن الميلادي الثامن عشر وقوله إن معركة بواتييه حالت دون أن يتجاوز المسلمون الراين في ألمانيا ويصلوا إلى التايمس في بريطانيا وأن يكون خريجو أكسفورد الآن من حملة القرآن الكريم في أوروبا، ليقول الكاتب على ذلك بأن هذه الصورة التاريخية المتوهمة هي بالذات ما أصبح الآن في محور مخاوف الغربيين عندما يتحدثون عن وصول الإسلام إلى البلدان الأوروبية عبر المهاجرين العرب والأتراك وغيرهم من الآسيويين وأبنائهم.

وقد تزامنت ولادة النهضة الأوروبية مع سقوط القسطنطينية الذي أوصل العثمانيين لاحقا إلى أبواب فيينا، ولكن التحول حضاريا وثقافيا كان قد أخذ مجراه لصالح الأوروبيين وأوصلهم من بعد إلى الحقبة الاستعمارية، التي قضت على نفسها بنفسها وكانت نهاية هذه المسيرة في الحربين العالميتين، وفي تلك الحقبة الاستعمارية ازداد انتشار ظاهرة “أنا” الغربي و”الآخر”، وتحولت إلى معادلة الحضارة والتخلف، والحرية والاستبداد، والإنجاز والعجز، ومن خلال ذلك حق السيطرة وبدهية خضوع الآخر.

إلى جانب ما وصل الكاتب إليه في الفصل الأول بشأن ظهور قوى جديدة على المسرح العالمي حتى فقد الغرب موقع السيطرة الشاملة، يأتي الاستنتاج الرئيسي من النظرة التحليلية التاريخية المطولة في الفصل الثاني: (إن انهيار الغرب عملية تفاعلية داخلية أشبه بمسيرة حياة بيولوجية مالت إلى نهايتها مع حتمية السقوط بعد فترة ازدهار حضاري).

 

نهاية عصر الاستعمار

تحت عنوان: الإمبراطورية ترد الضربة.. أوهام النصر بعد ١٩٨٩م، يتناول الكاتب في الفصل الثالث، أو الجزء الأساسي من كتابه، مدى الأخطاء التي ارتكبتها الحملة الأمريكية الجديدة للهيمنة، ويتعمد تأريخها بما بعد ١٩٨٩م، أي تاريخ سقوط المعسكر الشرقي، وليس ٢٠٠١م كما شاع الحديث بتأثير سياسة بوش الابن عقب تفجيرات نيويورك وواشنطون.

فالبداية الحقيقية هي بداية صعود المحافظين الجدد على سلم السياسة الأمريكية، وهم في نظر الأوروبيين أشبه بطائفة سرية تبسّط كل ما في العالم من أوبئة معقدة لتطرح في مواجهتها دواء نشر الديمقراطية، ولكنها صورة غير صحيحة تماما، وليس صحيحا الاعتقاد بأن ما وقع في العراق وحده هو ما أسقط تلك الأوهام وأسقط معها المحافظين الجدد.

الكاتب يرى جوهر المشكلة فيما يوصف بالسياسة الواقعية، ويعطي أمثلة على ممارستها بالمنظور الغربي، بدءا بإسقاط مصدق في إيران، مرورا بالحرب الأولى ضد العراق، انتهاء بدعم النظام المصري تخوفا من الإخوان المسلمين، وهنا طرح المحافظون الجدد سياستهم الجديدة على أنقاض ما سبقها، بحجة أن واشنطون كانت تضحي بالديمقراطية ونشرها في منطقة “الشرق الأوسط” النفطية تخصيصا، أما الخطأ الأكبر فهو توهم المحافظين الجدد أن بلادهم تملك إمكانات لا محدودة، وتستطيع تحقيق التغيير الحضاري حيثما تريد.

وواضح من أسلوب السرد في هذا الفصل -وسواه- أن الكاتب يتبنى أصل الفكرة ويرفض الوسيلة، فنشر الرؤية الحضارية الغربية مطلوب عنده ولكنه لا يتحقق عندما يصبح في: صيغة إنسانية مسلحة، كما يقول عنوان إحدى فقرات الفصل الثالث، وفق ما يجسده حديث بلير عن حرب كوسوفا باعتبارها (حربا إنسانية ضد الاستبداد)، ومن هنا أيضا لم تكن حجة دول “أوروبا القديمة” في معارضة حرب احتلال العراق قوية بالحديث عن القانون الدولي، فالحرب الأطلسية في البلقان التي شاركت فيها تلك الدول، لم تقم على أسس القانون الدولي.

التعليل الجوهري لحرب العراق يكمن بالمنظور الغربي في أن (الدول الحرة فقط يمكن أن تصبح شريكة للعالم الحر) كما يقول الكاتب اليهودي ناتان شارانسكي مقارنا بين أوضاع المعسكر الشيوعي سابقا، ودول المنطقة العربية والإسلامية حاليا، وهو الذي استقبله بوش الابن في مقره بعد حرب كوسوفا الأطلسية.

ويرى الكاتب أن هذا الطرح الأخلاقي من وراء الحرب أوصل مع مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين إلى إعادة الاعتبار إلى كلمة “الإمبريالية” في الغرب، فجعل المهمة العالمية الأمريكية / الغربية مهمة فرض الرؤية الثقافية الذاتية عالميا، ووصل هذا الأسلوب في التفكير إلى ذروته أيام حرب احتلال العراق، وانتشر سيل الكتب والدراسات بهذا المعنى في السوق الأمريكية، وهنا يجد الكاتب أرضية مشتركة هي عالمية الحضارة الغربية، من وراء الاختلاف الأمريكي – الأوروبي، بين استخدام القوة ومعارضته.

في هذه الأجواء كانت “نهاية التاريخ” عام ١٩٨٩م وفق فوكوياما نهاية الصراع الإيديولوجي، بينما سيطر فكر “صراع الحضارات” عام ٢٠٠١م كما طرحه “هينينجتون” منذ عام ١٩٩٣م، فكان تحرك بوش الابن تطبيقا لنظرية فوكوياما باعتبار (التطرف الإسلامي عقبة جديدة ظهرت على طريق نشر النظام العالمي المتجانس) وفق الرؤية الغربية له. اليوم (يقف الغرب أمام أنقاض هذا المستقبل، بعد الإخفاق الذريع لحرب العراق وتغيير العالم وفق رؤية المحافظين الجدد).

التدخل باسم أسباب إنسانية وجد الرفض منذ بداية تسعينات القرن الميلادي العشرين، وفكر الإمبراطورية والإمبريالية بقي مرفوضا مهما جرى تزويقه، ومعارضة فرض نظام عالمي أمريكي انطلقت في دول الغرب نفسه وانتشرت عالميا، وأصبح كل من يعادي السياسة الأمريكية قادرا على ممارسة سياسته وإن كانت استبدادية منطلقا من الرفض الشعبي لتلك التصورات، فإذا صح قول بريجينسكي عن الرؤساء الأمريكيين الثلاثة بعد ١٩٨٩م، أنهم (الزعيم العالمي الأول، والثاني، والثالث”) فمن العسير تسمية من سيأتي بعد بوش الابن زعيما عالميا! (لقد تبخرت أوهام نشر إمبريالية جديدة، وما نعايشه هو المرحلة الثانية والفعلية والنهائية لنهاية عصر الاستعمار) وفق ما يلخص الكاتب حصيلة الفصل الثالث من كتابه.

 

بلسم كاثوليكي للحضارة الغربية

في الفصل الرابع يبحث الكاتب عن سبل محافظة الغرب على بقائه، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويبدأ بمثال زيارة البابا الكاثوليكي بينيديكت السادس عشر لإسطنبول بعد إساءته المعروفة، وكيف نقلته من الهجوم إلى الدفاع، فسعى لختامها بكلام مصالحة وصلاة في المسجد الأزرق، وهنا يفسر الكاتب نظرية هينينجتون بأنه لم يطرح من خلالها الصراع للسيطرة بالمنظور الغربي، بقدر ما طرح المخاوف من السقوط وبالتالي الصراع من أجل البقاء، وقد انتقد التناقض الشديد بين حديث أحرار الغرب عن مجتمع متعدد الثقافات داخل دول الغرب ومجتمع بشري يخضع للثقافة الغربية على المستوى العالمي، ومن هنا يدعو -حسب قراءة الكاتب لنظريته- إلى تقوية الهوية الغربية داخليا والكف عن العمل لفرضها عالميا. 

ولكن خوف هينينجتون من سقوط الحضارة الغربية بدأ يتحقق، ويبقى النصف الثاني من نظريته في حكم الغيب، أما تصدير “الليبرالية” كما بدأت مشاريع تنفيذه عام ١٩٨٩م على أساس نظرية فوكوياما، فمحكوم بالإخفاق، فما يعتبره الغرب “عالميا” ويفخر به، تتبناه “أقليات” في مجتمعات غير غربية، ويصبح عملها على تسويده: “إمبريالية” غربية.

أما ما يوصف بالعداء لأمريكا فهو ظاهرة مرتبطة باستمرار السيطرة الأمريكية، وبقدر ما أصابها الاهتراء بدأ البديل الصيني يظهر عالميا، وبات يثير في الغرب المخاوف على المصالح المادية فحسب، بينما يثير الإعجاب فيما يسمى العالم الثالث، لنهوض الصين من العصر الاستعماري، إلى قوة دولية كبرى.

وكما كانت القيم الآسيوية قوة دافعة للنهوض ما بين الصين وسنغافورة، يمكن رؤية دور القيم في مناطق أخرى، ويستشهد الكاتب بمواقف البابا الكاثوليكي يوحنا بولص الثاني ولا سيما خلال زيارتيه للدار البيضاء ودمشق، ليحذر بعد وفاته من سياسة تنهي صوت المصالحة لصالح صوت المواجهة، ربما بشيء من التلميح إلى مواقف بينيديكت السادس عشر، ولكنه يدافع عنها بأنه يريد التأكيد أن العودة الذاتية إلى القيم الغربية شرط لا غنى عنه للحوار مع الآخر حضاريا وعقديا، ومن هنا ينكر الكاتب ارتباط البابا الكاثوليكي بالمحافظين الجدد وفكرهم، ويقول إن طرح العولمة الكاثوليكي هو -حسب تعبير الكاتب- الطريق الثالثة للخروج من المواجهة بين “الجهاد” و”عالم ماك” الأمريكي.

وفي خاتمة الفصل الرابع يؤكد المؤلف مجددا أن الغرب ما يزال يملك مقومات الاستمرار، اقتصاديا وعسكريا بل يملك رصيد (حماية حد أدنى من المستوى الحضاري في غابة الصراع على السلطة والأزمات الاقتصادية). ويشيد بقول الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عام ٢٠٠٤م عن المهمة الأمريكية أنها (ليست حل كافة مشاكل العالم بل العمل على إيجاد عالم نحب العيش فيه عندما لا نكون القوة الكبرى الوحيدة فيه). ليطرح عقب ذلك نصائحه للغربيين، ألا يقفوا سلبيا تجاه تحديات خارجية من جهة، وأن يمتنعوا من جهة أخرى عن تكرار محاولة تصدير الديمقراطية بالإكراه وقد أخفقت، ويستعير من الطرح الكنسي الكاثوليكي شعار وحدة الجنس الإنساني ليكون من وراء صدام الحضارات، ليختم بالقول (إن طوق النجاة للغرب موجود في مكان ما بين واشنطون وروما).

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب