هيرفريد مونكلر – إمبراطوريات

منطق السيطرة على العالم من روما القديمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية

مطالعة – نشرت في شبكة الجزيرة يوم ٤ / ٣ / ٢٠٠٦م

573
Herfried Münkler Imperien

مطالعة

. . .

العنوان الأول: إمبراطوريات Imperien

Herfried Münkler Imperien
إمبراطوريات – هيرفريد مونكلر

العنوان الثاني: منطق السيطرة على العالم من روما القديمة إلى الولايات المتحدة
المؤلف: هيرفريد مونكلر – Herfried Münkler
عدد الصفحات: ٣٣٦ صفحة
الناشر: دار روفولت – Rowohlt / برلين
الطبعة الأولى: ٩ / ٢٠٠٥

 

الكاتب
في النصف الثاني من الفترة الرئاسية الأولى لجورج بوش الابن وسيطرة المحافظين الجدد على صناعة القرار الأمريكي بدأت تظهر في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها سلسلة من الكتب الناقدة للسياسة الأمريكية بصبغة امبراطورية والمدافعة عنها. ثم تراجعت نسبة المنشور حول هذا الموضوع، بعد أن اصطدمت التحركات الأمريكية بواقع عالمي يمنع من الوصول بها إلى غاياتها البعيدة. ولكن قليلا ما تناولت الدراسات مسألة الإمبراطورية الأمريكية من خلال بحث منهجي مقارن مع سابقاتها تاريخيا، للوصول إلى نتائج يمكن اعتمادها في الدراسات الجامعية ومراكز البحوث العلمية، مثل هذا الكتاب بين أيدينا (إمبراطوريات – منطق السيطرة على العالم من روما القديمة إلى الولايات المتحدة، لمؤلفه بروفيسور هيرفريد مونكلر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هومبولدت في برلين، وعضو أكاديمية العلوم في ولاية براندنبورج، والذي اعتبر من المبدعين القلائل في النظريات السياسية، بعد أن لمع نجمه بين المفكرين الألمان من خلال كتبه السابقة حول تاريخ النظريات السياسية والعسكرية، وربطها بالواقع المعاصر، ومنها “الحروب الجديدة” عام ٢٠٠٢م، الذي أكد فيه أن نهاية الحرب الباردة لن تعني نهاية الحروب وإنما اتخاذها شكلا جديدا، وكتاب “حرب الخليج الجديدة” عام ٢٠٠٣م، فكان من أوائل من أنكر الذرائع المعلنة لاحتلال العراق، مؤكدا أن الهدف هو تطويع منطقة الخليج النفطية لأسباب عالمية الأبعاد.

وقد فاجأت التحركات الإمبراطورية الأمريكية النظرة الأوروبية إلى الإمبراطوريات أنها ظاهرة عفا التاريخ عنها، إذ تأتي في ظروف ومعطيات عالمية تختلف عما كان قديما، وهذا في محور أسئلة مؤلف الكتاب، الذي يشمل مقدمة تشرح منهج تأليفه، وستة فصول وملحقات، الأهم من بينها الفصلان الأول والسادس، فالأول يلخص تمييزه بين مصطلحات متداولة، مثل إمبراطورية ودولة عالمية ودولة كبرى، أو السيطرة والهيمنة، فلكل من ذلك خصائص ذاتية، قبل أن يفصل هذا الطرح في الفصول التالية عن نشأة الإمبراطوريات والدول الكبرى وسقوطها تاريخيا، ليطرح في الفصل الختامي المسيرة الأمريكية المعاصرة من زاوية التطلع إلى كيان إمبراطوري مجدّدا في “عصر ما بعد الإمبراطوريات”.

المنطق الإمبراطوري
يشير الكاتب في المقدّمة إلى أن الانطباع العام عن الإمبراطوريات هو أنها (تقوم على ابتلاع المناطق الواقعة على حدودها واستغلال ثرواتها، لتزداد فقرا بينما يزداد المركز ثراء، وصحيح أنه وجدت امبراطوريات على هذا النحو، ولكنها كانت بأعمار قصيرة تاريخيا) -ص ٩- بينما يستدعي استيعابُ الواقع الأمريكي الراهن مقارنات منهجية بين خصائص الإمبراطوريات واختلافها عن بعضها بعضا، وأشكال التوسع والانكماش عالميا، دون الاقتصار على الظواهر المرئية فقط، جغرافيا واقتصاديا وعسكريا وماليا، فالمطلوب هو تناول طريقة تفكير صانعي القرار الإمبراطوري، وبالتالي الوصول إلى  معالم محددة للمنطق الكامن فيه.

في الفصل الأول تحت عنوان “ما هي الإمبراطورية” يميز مونكلر بين الهيمنة والسيطرة، فالأولى تنطبق على دور واشنطون المهيمن أثناء الحرب الباردة على قرارات حلف شمال الأطلسي وتشكيلاته القيادية، ولكن مع قبول الحلفاء الأوروبيين بذلك، تحت تأثير الخطر القائم أثناء الحرب الباردة، أما السيطرة فتبعت انهيارَ المعسكر الشرقي بعد إضعاف موقف الحلفاء أثناء توسيع الحلف شرقا، فغاب التشاور قبل صدور القرار، مما برز للعيان وسبب الأزمة عند إعلان الحرب على العراق. آنذاك بدأت المقارنات بين السياسة الأمريكية الجديدة والإمبراطوريات القديمة ولا سيما الرومانية، ولكن دون اتباع أسلوب منهجي منظم يتجاوز البحث عن أدلة على صحة موقف الرفض للسياسة الأمريكية. والمقارنات مطلوبة (لتقدير الفرص المتوافرة أمام نشأة إمبراطورية أمريكية وتقدير المخاطر المرتبطة بها) -ص ١٤- ولكنها لا توصل إلى نتيجة إذا بقي تعريف كلمة الإمبراطورية غائبا عن دراسات العلوم السياسية أو عائما حتى الآن، ومفتقرا إلى نظرة فاحصة تحدد الفوارق بين نظام عالمي مع وجود الإمبراطوريات وآخر كالأوروبي على أساس دول متعددة متجاورة.

ومما يعدده الكاتب لتثبيت خصائص الإمبراطورية:
١- تختلف عن دولة واسعة جغرافيا بدءا بغياب الاندماج السكاني داخل الحدود، انتهاء بعدم تثبيت حدود السيادة بوضوح.
٢- حدود الإمبراطورية أشبه بثقوب مصفاة تعمل في اتجاه واحد، ومثالها تحرك الأمريكيين وعملهم اقتصاديا وثقافيا دون عوائق في العالم، مقابل القيود على الآخرين داخل الحدود الرسمية الأمريكية، كذلك فالتدخل العسكري وغير العسكري في شؤون الآخرين يقع في اتجاه واحد.
٣- القرار الإمبراطوري يُصنع في المركز ويُفرض على الأطراف، بينما تتخذ الهيمنة صيغة قرار مشترك بتأثير أكبر للقوة المهيمنة.
٤- العنصر الزمني التاريخي، فالإمبراطورية تشهد دوما مرحلة تأسيس وصعود، قصيرة نسبيا، ثم تخلف وانهيار على امتداد فترة أطول بمقياس عمر التاريخ، وهو ما يبدأ عندما تعجز أجيال القيادات التالية عن تجديد ما سبق أن رسخه مؤسسو الإمبراطورية. (وهذا ما يفصل فيه الكاتب لاحقا -ص ١٠٩- في الفصل الثالث).
٥- الجديد في تكوين الإمبراطورية الأمريكية عالميا أن التقنيات العسكرية والتقدم على صعيد استغلال الفضاء الكوني لأغراض عسكرية، جعلها قادرة على التحرك في مختلف أنحاء العالم. وهذا ما يتجاوز النظرية المطروحة عام ٢٠٠٢م في كتاب “إمبراطورية” لميشائيل هاردت وأنطونيو نيجري، من أن السيطرة الإمبراطورية الأمريكية لا تتطابق مع مجال السلطة الأمريكية نفسها بل تعتمد على “بنية شبكية من العلاقات” تضمن مفعول السيطرة -ص ٢٥-
٦- العنصر الأهم الذي يميز نظاما إمبراطوريا أن السلطة القائمة فيه لا تستطيع التخلي عن التدخل والتوسع تجاه الدول والمناطق التي تريد أن تبقى داخل نطاق نفوذها، أي يستحيل أن تكون “حيادية” – ص ٣٠- ليقوم عليها نظام عالمي.

ويطرح الكاتب في ختام هذا الفصل بإيجاز اتجاهين رئيسيين في نقد السياسة الإمبراطورية الأمريكية، أولهما ينفي صدور هذه السياسة عن تصورات مرتبطة بأفراد، وعلى وجه التخصيص مشاهير المفكرين للمحافظين الجدد، ويراها وليدة بنية هيكلية تكونت في الولايات المتحدة الأمريكية وتدفع بها في اتجاه بسط سيطرتها وفق منطق إمبراطورية عالمية، والاتجاه الثاني يركز على ما فقدته السياسة الأمريكية من مصداقية على المستوى العالمي، بعد تقويض قيمها عبر ممارسات السيطرة بالقوة.

قيام الإمبراطوريات وانهيارها
يشرح الكاتب في الفصل الثاني ما سبق أن أوجزه للتمييز بين مصطلحات الإمبراطورية، والإمبريالية، والهيمنة، مستعرضا لذلك أمثلة تاريخية مطولة بدءا بعصور الإغريق والرومان، ليؤكد في الحصيلة أن ازدياد سرعة التطورات العالمية ابتداء من أواخر القرن الميلادي الثامن عشر، تجعل من المستحيل على أي شكل من أشكال السيطرة العالمية أن يستمر لفترة تاريخية طويلة، كما كان في التاريخ القديم.

وينفي الكاتب في الفصل الثالث صفة الإمبراطورية عن أشكال أخرى من السيطرة، لِما أسماه في العنوان إمبراطوريات السيطرة الجغرافية، كالمغولية، التي لم تستطع أن توجد بُعْدا حضاريا فتفتت سلطانها سريعا، والممالك عبر البحار، والقوى الاقتصادية العالمية، مما ينطوي على بعض عناصر الإمبراطورية دون عناصرها الأخرى، ويتبنى لتعليل أطروحاته بهذا الصدد نظرية ميشائيل مان، عن مصادر السلطة، التي يحددها في القوتين الاقتصادية والعسكرية أولا لقيام كيان إمبراطوري ابتداء، ثم في القوتين العقائدية والسياسية ثانيا لترسيخ وجوده وبقائه فترة من الزمن.

ولا بد للمنطق الإمبراطوري أن يقوم على تركيز صناعة القرار في نطاق “نخبة” محدودة العدد في المركز، وأن يكون له مثال نموذجي تاريخي يتبعه، كما كان مع الإمبراطورية البريطانية التي تأرجحت طويلا بين الأخذ بالنموذج الجغرافي لروما، والنموذج التجاري لقرطاجة.

ويعدد الكاتب في الفصل الرابع أربع مواصفات ارتبطت بتسويغ وجود كيان إمبراطوري باستمرار:

١- القول بترسيخ السلام تعليلا لفرض السيطرة.
٢- حمل رسالة تبشيرية لاصطناع الدافع الذاتي.
٣- طرح فرضية همجية الآخر لإخضاعه للبنية الهيكلية الإمبراطورية.
٤- القدرة الذاتية لتحديد البرنامج التطبيقي للسيطرة.

في الفصل الخامس يحدد الكاتب أسباب ضعف الإمبراطوريات وسقوطها، وهو ما يتلخص في تجاوز حركة التوسع عبر السيطرة لطاقات استيعابه الذاتية، والتي قام عليها الكيان الإمبراطوري في البداية، ثم التعبئة السياسية والتشتت العسكري مما يتأثر بتحرك الأطراف الرافضة للسيطرة والعاملة للتخلص منها، ثم ما ينشأ من صراعات ثقافية وحضارية تؤثر على المركز الإمبراطوري نفسه بعد اتساع نطاق تواصله مع الأطراف، وإن سعى لأن يكون ذلك في اتجاه واحد، وأخيرا المقاومة التي يجدها الكيان الإمبراطوري وإن اتخذت صورا أقرب إلى “الإرهاب” والحروب المحلية التدميرية.

الوهم الأمريكي
في الفصل السادس تظهر غاية الكاتب من مؤلفه تحت عنوان “عودة مفاجئة لإمبراطورية في عصر ما بعد الإمبراطوريات”. فيرصد في البداية تحولا في الأجواء العامة بعد نهاية الحرب الباردة، عندما انتشرت تصورات تقول بنهاية القرن الأمريكي مع نهاية الألفية الميلادية الثانية، لتنقلب لاحقا إلى “وهم” وجود تفوق أمريكي مستمر تجاه القوى المنافسة، وعلى وجه التخصيص أوروبا واليابان. والوهم تصنعه “زاوية النظر إلى الأمور التي تدفع إلى الاعتقاد بحدوث تحول، وهو لا يتجاوز حدود رؤية جانب آخر من الصورة القائمة في الأصل” -ص ٢١٣- فقد انطلقت التصورات الأولى من رؤية تراجع الإنتاج، واتساع هوة الثراء والفقر، وارتفاع نسبة الجريمة، وغيرها من السلبيات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بينما انطلقت التصورات التالية من حقبة حرب الخليج الثانية. والواقع أن الصورة الثانية لا تلغي بقاء عناصر الصورة الأولى وتفاقمها، وإن تضمّنت أن حرب الخليج الثانية ساهمت في التخلص من عقدة فييتنام، وترسيخ الإحساس بالتفوق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتخلص من مخاوف الصعود الاقتصادي لليابان وألمانيا، ما دامت واشنطون قادرة على توظيف هذا الصعود لتحقيق أهدافها، كما حدث في تحميلهما القسط الأكبر من العبء المالي لحرب الخليج الثانية. وسبق للكاتب (في صحيفة روند شاو يوم ١٢ /٢ /٢٠٠٣م أي مع اندلاع حرب احتلال العراق) أن علل مسيرة بريطانيا مع واشنطون بأن البريطانيين يحملون في إرثهم التاريخي خبرة صناعة القرار في نظام إمبراطوري، بينما غلب على الفرنسيين والألمان الفكر السياسي القائم على وجود الدولة الحديثة وصناعة القرار فيها وبصورة مشتركة مع سواها.

ويعطي الكاتب لأوضاع البلقان بعد ظهور الدولة مكان الإمبراطورية في أوروبا أهمية خاصة في انتشار أفكار أمريكية حول عجز نظام الدول الأوروبي عن تثبيت بديل عن النظام الإمبراطوري، ولكن مخاطر تطبيق هذه الأفكار كبيرة، منها:

١- الالتزامات الأمريكية العالمية تجاوزت ما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، ولكن نسبة الطاقات الأمريكية الاقتصادية والمالية إلى الطاقات العالمية انخفضت، فلا بد من تقليص الالتزامات، قبل أن تتجاوز القدرةَ الذاتية على تحملها، كما يقول باول كنيدي.
٢- ارتفاع نسبة الوعي والحرص على الاستقلال لدى الشعوب التي تشملها السيطرة الإمبراطورية، فللسيطرة الآن تكاليف أعلى منها في الماضي، وهنا يظهر مفعول معادلة حساب الأرباح والخسائر للكيان الإمبراطوري.
٣- وهنا مكمن الخطر الثالث والأهم على استمرار السيطرة الإمبراطورية، فإذا صحت الدراسات القائلة إن الحصيلة كانت خاسرة للدول الاستعمارية قبل قرنين من الزمن، فمن المؤكد أن حصيلة الخسائر الآن أكبر بكثير لكيان إمبراطوري يعمل على فرض سيطرته العالمية في العصر الحاضر.

(إن لنهاية عصر الإمبراطوريات حججا مقنعة قائمة على حسابات اقتصادية ورصد عوامل القوة والضعف سياسيا، وليس على عوامل التمني والرغبات، وهذا ما يضاعف حجم المفاجأة من ظهور المساعي الأمريكية للسيطرة الإمبراطورية) -ص ٢٢٣- وقد صدمت المفاجأة الآمال التي عُقدت على نظام دولي يقوم على محور الأمم المتحدة، وبدأ التساؤل القلق عن طبيعة تكوين الإمبراطورية الأمريكية الجديدة (هل يأتي نتيجة فكر عشوائي يمكن أن يزول قريبا، أم يقوم على بنية هيكلية تصنع القرار سيان مَن يكون على رأس السلطة الأمريكية) -ص ٢٢٧- والسؤال الجوهري هو: “هل يحتاج أمن الأسرة الدولية إلى إمبراطورية تقودها، أم أنها تسبب خللا كبيرا في النظام العالمي يستدعي تفضيل غيابها؟” كما طرحته أسبوعية “دي تسايت” الألمانية في تعليق لها على الكتاب.

يرى الكاتب أن ظهور إمبراطورية أمريكية في عصر ما بعد الإمبراطوريات يعود إلى وجود فراغ على الصعيد الدولي جعل ظهورها ممكنا، والعامل الحاسم هو ظاهرة العولمة، وبات محور الإمبراطورية الأمريكية هو السيطرة عبر هذه الظاهرة، وليس هذا جديدا عند رؤيته بمنظور إيجاد محميات إمبراطورية للسوق التي تصنعها العولمة، فهذا ما كان يمثله الاستعمار وفق نظرية دان دينر، وهو الذي حول السيطرة الاقتصادية إلى استعمارية عسكرية. فحتى لو لم تكن واشنطون تريد التحرك عسكريا، ستجد نفسها مرغمة على ذلك. وبالمنظور الغربي يعني ذلك قابلية أن تتحول الإمبراطورية الأمريكية إلى ضمان لِما وصل إليه التشابك الاقتصادي عالميا، بحيث لا ينهار مجددا كما حدث عام ١٩٢٠م إذ لم يعد إلى مستوى الكثافة التي كان عليها نسبيا إلا في السبعينات من القرن الميلادي العشرين.

وبالعودة إلى ما سبق اعتباره من عناصر الإمبراطوريات وهو حمل “رسالة” تنشرها، يتساءل الكاتب عن إمكانية أن يكون الكيان الإمبراطوري الأمريكي ديمقراطيا أيضا، وهو ما يتناقض مع طبيعة فرض القرار مركزيا، وهنا وجه الشبه مع الإمبراطورية الرومانية التي بدأ انهيارها كنظام جمهوري كما توصف بداياتها، مع امتدادها الإمبراطوري عالميا.

والديمقراطيات المعاصرة تقوّم حروبها عبر حسابات الربح والخسارة، ولهذا تُطرح ذرائع تضليلية للحروب، مما يساهم كشفه تلقائيا في القضاء على طبيعة النظام الديمقراطي نفسه. ويرى الكاتب في مثال فييتنام دليلا على أن تحملها شعبيا فترة طويلة يعود إلى أن معادلة الربح والخسارة كانت إيجابية في الأذهان وفق الخبرة الأمريكية من الحربين العالميتين، حتى إذا ظهرت حقيقة نتائج الحرب انقلبت النظرة إليها -ص ٢٣٩- ولئن استعادت واشنطون الثقة بتلك المعادلة عبر حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١م، فهذا ما يستحيل استمراره فترة طويلة، لا سيما وأن صناعة القرار إمبراطوريا يتناقض مع طبيعة النظام الأمريكي القائم. ولا يمكن أن تكون الحروب كحرب الخليج الثانية عندما حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على ٨٠ مليار دولار من حلفائها وأنفقت ٦١ مليارا على الحرب -ص ٢٤٣-

ويرى الكاتب أن نشأة منطقة اليورو أخطر على استمرارية الزعامة الأمريكية عالميا من الظاهرة الإسلامية بما لا يقارن، فلا يُستبعد أن يكون الغرض من الاتجاه الإمبراطوري الأمريكي هو تعويض الخسارة العالمية اقتصاديا بالسيطرة عسكريا -ص ٢٤٤- وهذا مما يجعل التحدي الأكبر في نشأة إمبراطورية أمريكيا موجها إلى الأوروبيين، فهم المعنيون من جهة ألا يساهموا في تمويل معادلة الربح والخسارة للحروب الأمريكية الجديدة، وأن يحافظوا في الوقت نفسه على موقعهم كمركز إضافي في النظام العالمي إلى جانب مركز السيطرة الأمريكية -ص ٢٤٧- وحتى الآن تأتي الضغوط في اتجاه الاندماج الأوروبي من خارج أوروبا، ولا تزال مشكلة التميز الأوروبي تواجه العراقيل، من داخل أوروبا، نتيجة عدم وجود حدود ثابتة وواضحة تجاه الجنوب أو الجنوب الشرقي تخصيصا، ومن هنا فإن ظاهرة الكيان الإمبراطوري الأمريكي إذا استمرت، ستفرض على الأوروبيين أيضا استعارة قسط من التفكير الإمبراطوري تجاه المناطق المحيطة بهم جغرافيا. 

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب