مطالعة – هوبرت سايبل: بوتين
لا يخرج المؤلف في مواضيع الكتاب، ومنها ما يتعلق بسورية، عن أسلوب الطرح التقليدي في الإعلام الغربي
معلومات حول الكتاب
نشر هذا الكتاب قبل الغزو الجوي الروسي لسورية، فكانت أجواء التعامل الغربي مع روسيا في نطاق أزمة أوكرانيا هي العنصر الغالب على أطروحات الكاتب، الخبير بسياسات بوتين، ومحور هدفه أن يقول إن صناعة القرار في روسيا لا تختلف عن صناعة القرار في الغرب، وبالتالي لا ينبغي للغربيين استغرابها وشن الحملات ضدها بل التعامل معها كسواها.
العنوان الأول: بوتين.. (Putin)
العنوان الثاني: مشاهد من داخل السلطة (Innenaussichten der Macht)
المؤلف: هوبرت سايبل (Seipel, Hubert)
عدد الصفحات: ٣٨٦ / الطبعة الأولى
الطبعة الأولى: ٥ تشرين أول / أكتوبر ٢٠١٥
الناشر: دار نشر هوفمان وكامب في هامبورج (Hamburg Verlag Hoffmann & Camp)
علاوة على تخصصه في العلوم السياسية والتاريخ، وشهرته بإنتاج أفلام التلفزة الوثائقية، يعتبر المؤلف هوبرت سايبل الحاصل على جوائز إعلامية عديدة، في مقدمة خبراء ألمانيا في الشأن الروسي عموما وفلاديمير بوتين تحديدا، ومن أسباب خبرته هذه أنه تجاوز سائر أقرانه بعدد لقاءاته مع الرئيس الروسي ومرافقته في رحلاته، علاوة على لقاءات إعلامية عديدة مع المقربين من بوتين ومع خصومه في روسيا على السواء.. وهذا ما ينعكس في كتابه حول “بوتين” ويعطيه قيمة خاصة في المكتبة الألمانية، في بلد يعتبر من مفاتيح صناعة السياسات الغربية تجاه روسيا.
وقد أدى أسلوبه في شرح سياسات بوتين إلى وصمه بأنه “يتفهم” ما يصنع، ويدافع المؤلف عن نفسه، كما كان في مقابلة إذاعية يوم ٢ /١٢ /٢٠١٥م قائلا “إن السياسة هي التعامل مع المصالح، ولا يتحقق ذلك دون معرفة مصالح الطرف الآخر كما يراها هو”، أما القول إنه يتفهم بوتين فهذه إهانة، إذ القصد هو وضعه على مقربة من ذلك الديكتاتور، كما قال، ومن الواضح أن الكاتب يقدر ازدياد صعوبة شرح سياسات بوتين بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، ثم الأزمة مع تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، بسبب إسقاط طائرة سوخوي المقاتلة، علما بأن كتابه هذا صدر قبل تلك التطورات بفترة وجيزة، في أجواء العلاقات الروسية-الغربية على خلفية أزمة أوكرانيا.
المطلوب بنظر المؤلف هو الخروج من أسلوب المقولات التعميمية في تفسير السياسات والتصرفات الروسية، والسعي لفهمها موضوعيا ليمكن التعامل الأفضل معها، ومن ذلك الاعتراض على القول عموما إن كل ما يصنعه بوتين يصدر عن التطلع إلى دور روسي بارز على المسرح الدولي، فيتساءل المؤلف ألا ينبغي النظر في السياسات الروسية باعتبارها ردود فعل على السياسات التوسعية الأطلسية والأوروبية شرقا، وهي متناقضة مع ما توافق عليه الشرق والغرب مع نهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الميلادي العشرين، ويستشهد سايبل على ذلك بالتعامل مع الأزمة الأوكرانية، ويمكن تطبيق الصيغة نفسها بشأن تعامل الغرب مع السياسات الروسية في قضية سورية، لا سيما وأن نشر الكتاب في تشرين أول / أكتوبر ٢٠١٥م تزامن مع الغزو الجوي الروسي في سورية، وإن لم تتخذ قضية سورية في الكتاب حيزا كبيرا، فورد ذكرها في نطاق الأمثلة والاستشهادات أيضا، لا سيما في الفصل الثامن عشر من أصل ٢١ فصلا.. هذا مع ملاحظة أن المؤلف معروف بإعداده أول “ريبورتاج” مفصل في القناة الأولى للتلفزة الألمانية حول سورية عام ٢٠١٣م وكان بعنوان “الفخ السوري” مشيرا بذلك إلى المشاركة الألمانية في نشر صواريخ “باتريوت” على الحدود التركية – السورية آنذاك.
دفاعا عن بوتين؟
يمكن للوهلة الأولى القول إن الكاتب “يدافع” عن سياسات بوتين، إنما يظهر من خلال القراءة المتعمقة أنه يؤكد أهمية فهمها وتفسيرها بشكل أدق، وعدم الاكتفاء بتصوير روسيا “مملكة الشر” مقابل “دول الخير” الغربية.. كما يقول الكاتب في المقدمة.بل هي سياسات وسياسات مضادة من الجانبين، كما تطرح الأمثلة الواردة في فصول الكاتب، وأولها توجيه أصابع الاتهام فورا إلى موسكو عند إسقاط طائرة الركاب الماليزية في سماء كروآتيا..
وينقض الكاتب في الفصل الثالث الحديث عن “قواعد جديدة” في اللعبة السياسية الدولية، فهي في واقعها “بدون قواعد” بعد أن أصبحت “الزعامة الانفرادية الأمريكية” بمنزلة “عقيدة” ثابتة تنطلق منها السياسات الغربية،وإلا كيف يبرر الغرب بزعامته الأمريكية لنفسه استخدام القوة كما كان في العراق وليبيا -بنتائج كارثية- مقابل اعتراضه على التحرك الروسي في شبه جزيرة القرم.
الحصيلة هي أن سياسات بوتين تبرر نفسها بأسلوب مماثل للسياسات الغربية، وبالتالي لا يفيد التعامل مع بوتين بالاتهامات المسبقة والمقاطعة والضغوط، كما يؤخذ من الحديث عن تطور العلاقات بين بوتين وميركل في الفصل الثاني، وعن أزمة الدرع الصاروخي الأمريكي في الفصل الرابع، وكذلك عن تعامل بوتين مع احتجاجات المعارضة عام ٢٠١٢م مقابل التصريحات الرسمية الأمريكية حول الدعم المالي للمعارضة عبر منظمات المجتمع المدني، وهو ما يفصل فيه الفصلان الخامس والثامن.
رؤى دينية وأخلاقية في سياسة بوتين
على أن استيعاب الصورة الحقيقية لسياسات بوتينتتطلب الحديث عن جذورها ومساراتها بغض النظر عن هذه المقارنات، ويلفت النظر هنا أن الكاتب يشرع في ذلك بالحديث عن نهوض الكنيسة الأورثوذوكسية الروسية مجددا كقوة سياسية في موسكو، وهو ما أعطاه عنوان “السلطة وثمنها أو الكنيسة والدولة” في الفصل السادس، ويستشهد بحديث بوتين عن نفسه وكيف أقدمت أمه على “تعميده” خفية عن أبيه الشيوعي المتشدد، وحديثه عن لقاءاته مع كبار الزعماء الكنسيين كما كان في نيويورك، وقوله أيضا “لولا الارتباط مع الخبرات التاريخية والدينية لم يكن لنا تميزنا القومي الروسي، إن وحدة الكنيسة عون لنا”، ويخصص الكاتب الفصل السابع أيضا لتأثير الجانب الكنسي تاريخيا من أجل “الوعي الجماعي” في روسيا.
ثم يضيف المؤلف في الفصل التاسع جانبا “أخلاقيا” بالحديث عن اعتراضات بوتين على الضغوط الغربية للتعامل -كالغرب- بشرعنة أوضاع المثليين جنسيا، فليس هذا شأن الدولة كما يقول بوتين، وقد بلغت تلك الضغوط أن حذرت وزارة الخارجية الألمانية من سفر المثليين إلى روسيا، وكان ذلك في عهد وزير الخارجية السابق “فيسترفيلي” الذي كان منهم كما هو معروف، فضلا عن الضجة التي أثارها تعامل السلطات الروسية مع فرقة “بوسي ريوت” الغنائية التي تأسست لدعم المثلية الجنسية النسائية في روسيا.
إنما يلفت النظر الاكتفاء بعوامل التأثير هذه على خلفيات القرار السياسي لدى بوتين، مع خلوّ الكتاب من طرح يكشف عن منهج فكري أو طريقة تفكير محددة المعالم، ربما بسبب غلبة الأخذ بالواقعية أو “البراجماتية” أساسا للقرار السياسي، وتستثنى من ذلك إشارات عابرة، كالحديث عن فريق عمل لوضع استراتيجيات جديدة عقب استلام بوتين منصب الرئاسة عام ٢٠٠٠، إنما كان فريقا من الشباب كما يصفهم الكاتب، أي تنقصهم الخبرة في التعامل مع دهاليز العوالم السياسية والمالية في روسيا وعالميا.
إن الانطباع الذي تتركه فصول الكتاب لدى القارئ هو أن سياسات الغرب بدوافعها وأساليبها ليست أفضل من سياسات بوتين، بل كلاهما سلبي، فلا يفيد أسلوب الاتهام، بل ينبغي التعامل معها بواقعية.
السيطرة على الكريملين
كما يسعى المؤلف لإعطاء صورة مباشرة عن سياسات بوتين عبر عدة فصول من الكتاب حول الطريق التي شقها لنفسه إلى قمة السلطة، بدءا بتعاونه مع رفيق دربه الأول في بطرسبورج أثناء تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو بيريسفوسكي، الذي أصبح من الأثرياء وانقلب على بوتين لاحقا ومات منفيا في لندن.
آنذاك انتقل بوتين من عالم المخابرات الروسية -في ألمانيا خاصة- إلى عالم السياسة، وقطع المرحلة التالية أثناء الاضطرابات السياسية والفساد المالي في عهد يلتسين، وهو ما وصفه الكاتب في الفصل الحادي عشر بنهب الدولة الروسية، ولكن أخفق بوتين في إدارة المعركة السياسية والانتخابية لصالح “سوبتشاك” في بطرسبورج ثم نجح في تحويل هذا الإخفاق منطلقا إلى جولة سياسية جديدة، مستفيدا من ضعف يلتسين في السنوات الأخيرة من رئاسته، فقد انتقل إلى موسكو واستلم أعلى جهاز في الكريملين، فسعى من خلاله لتوثيق العلاقة مع المهيمنين ماليا على وسائل الإعلام الكبرى في البلاد، حتى أصبح رئيسا بتأييد يلتسين في انتخابات عام ٢٠٠٠.
ويفصل الكاتب في مسلسلالجولات التالية كيف استطاع بوتين حسمها لصالح توسيع سلطته وحجم شعبيته، بدءا بالحرب التي خاضها في الشاشان بعنف كبير بعد ما يمكن وصفه بالهزيمة الروسية في الحرب الأولى في عهد يلتسين، ثم خوضه “الحرب” القضائية” ضد خصومه من الأثرياء الجدد في روسيا بعد سقوط الشيوعية، انتهاء بوسائل الإعلام الكبرى التي انتزعها من سيطرة خصومه، واعتبر المؤلف أن أخطر تلك الجولات كانت في نزاع بوتين مع خودروفسكي المدعوم غربيا.
على الساحة الدولية
لم تكن الحرب في جيورجيا مجرد “جس نبض الغرب” كما يتردد في الغرب كثيرا بقدر ما كانت أول الردود على التمدد الأطلسي شرقا، وهو ما تكرر لاحقا في أوكرانيا ردا على التمدد الأوروبي، فكان الاستحواذ على شبه جزيرة القرم بعد دعم الغرب لمن رآهم بوتين “انقلاببين” في كييف.
قضية سورية تأخذ مكانها -إلى جانب سواها- في الفصل ١٨ من هذا الكتاب بمنظور واحد أنها من ميادين صراع القوة بين بوتين وأوباما، ولا يتبنى المؤلف ما تقول به مصادر النظام السوري وحلفاؤه بمن في ذلك موسكو، إنما يتجاهل ما تقول به منظمات دولية تعمل في ميدان حقوق الإنسان، متجنبا “المعلومات” التي تتناقض مع طرح السؤال عن “المسؤول” عما يجري مفتوحا، ويتجاوز الحدود المقبولة عند حديثه بأسلوب مشابه حول المسؤولية عن استخدام الأسلحة الكيمياوية في غوطة دمشق، عندما اقتربت واشنطون من اتخاذ قرار الحرب، فهنا يتجنب الكاتب اعتبار الاقتراح الروسي بسحب الأسلحة الكيمياوية اضطراريا، وينطوي على إقرار ضمني بالمسؤول عن ارتكاب الجريمة، فيبدو المنطق الذي يعتمده في حديثه ضعيفا،إذ يطرح ذلك الاقتراح الروسي وكأنه “قارب النجاة” للرئيس الأمريكي، إذ كان في نظره “لإخراج أوباما من ورطته” بعد ربط مسألة الحرب بموافقة الكونجرس.
رغم شهرة المؤلف بعمله التوثيقي لا يخرج في عدد من المواضع في الكتاب، ومنها ما يتعلق بسورية، عن أسلوبالطرح التقليدي المعتمد في الإعلام الغربي، أي ما يتردد باستمرار عن “غياب الأدلة القاطعة” مادامت المصادر الغربية المباشرة -بما فيها الإعلامية- غائبة عن ساحة الحدث.
نبيل شبيب