مطالعة – د عدنان أبو عامر: السياسة الصهيونية تجاه مدينة القدس
هل ينهض الفلسطينيون والعرب والمسلمون بمسؤولياتهم أم يبقى اللهاث وراء مفاوضات عبثية؟
كتاب في لحظة تاريخية بالغة الأهمية – القانون الدولي وانتهاك الشرعية الدولية – الاستيطان والتهويد والتلهّي بمفاوضات عبثية – بناء الهيكل لا يجاب بالكلام عن المسجد الأقصى
الكتاب الصادر عام ١٤٣٠هـ و٢٠٠٩م في سلسلة (كتاب البيان) مرجع لا ينبغي الاستغناء عنه في العمل على توعية جيل المستقبل بأحد جوانب قضية فلسطين المصيرية في الحاضر والمستقبل، لا سيما بعد أن ساهمت حملات "غسيل الدماغ الجماعي" إعلاميا وفكريا وسياسيا عبر العقود الماضية، وساهم تشويه معالم القضية أو تغييبها بتعديل المناهج التعليمية وما يمارس من سياسات تربيوية وإعلامية، في نشر قدر كبير من التجهيل والتضليل بشأن قضية أقلّ ما يقال فيها، إنّها جامعة للعناصر الدينية والقومية والوطنية والحضارية والإنسانية، التي لا غنى عنها لمن يريد أن يكون لهذه الأمّة مكان على خارطة العالم المستقبلية، لا أن تبقى مستباحة للمخططات الصهيونية وسواها من المخططات العدائية، التي لم تقف من قبل، ولن تقف مستقبلا، عند حدود فلسطين.. وإن كان بعض من استغنى عن القضية والحق المشروع فيها والثوابت التاريخية والقانونية الدولية من ورائها، يمنّي النفس بأن يكون هذا "ثمن" بقاءٍ رخيص بمنأى عن أهداف تلك المخططات.. ولن تتحقق تلك الأماني قطعا، إنّما تفرض سنن التاريخ ومعطيات الواقع أن يجد المشروع الصهيوني الغربي الذي يتخذ من فلسطين رأس حربة له، المواجهةَ بمشروع عربي إسلامي يجعل رأس حربته تحرير فلسطين، وتحرير الإرادة الفلسطينية والعربية والإسلامية من الإملاءات الصهيونية والأمريكية والغربية.
كتاب في لحظة تاريخية بالغة الأهمية
هذا كتاب صغير في حجمه كبير بمحتواه، ظهر وقد باتت الحاجة إليه ماسة، وكتبه باحث خبير مخلص للقضية، قدير على تلبية تلك الحاجة.
د. عدنان أبو عامر معروف بكتاباته الرصينة، وتحليلاته العميقة، ورؤاه الثاقبة، ويستشعر من يقرأ كلماته حيثما انتشرت مكتوبة وعبر الشبكة العالمية أنّ القضية التي يكتب فيها هي همٌّ يحمله، وليست مجرّد قلم يتقن صنعة البحث المنهجي، والعرض الموضوعي.
والكتاب الذي يحمل عنوان "السياسة الصهيونية تجاه مدينة القدس" يأتي في حقبة تشهد اندحار كثير من الأفكار والأقلام، وتلوّنها حسب ألوان العبث بوعود ومفاوضات، وتضليل ومهاترات، فيكشف من خلال عرض رصين للوقائع، أنّ مدينة القدس في واد ومن يزعمون استخلاص شبر أو أكثر أو أقلّ منها عبر "الكلام" في وادٍ آخر، وأنّ الذين يلتقون مع من يصنعون بفلسطين والقدس ما يصنعون، فيتعاونون معهم، ويضربون من أجلهم المقاومة الصامدة الباسلة، إنّما يلتقون مع مَن يتلهّون بهم -إذا حسنت المقاصد على أبعد تقدير- أو يستخدمونهم فيرضون هم لأنفسهم أن يكونوا أدوات في أيديهم، سواء تحت ضغوط أمريكية أو دون ضغوط، فالنتيجة واحدة، ومن يحمل المسؤولية ويسمح لنفسه أن يخضع للضغوط والإملاءات المعادية، ليس أهلا لحملها أصلا.
أمّا على أرض الواقع، واقع القضية، واقع مدينة القدس -وهي جزء من القضية- فذاك ما يتحدّث عنه هذا الكتاب بقلم د. عدنان، في أربعة فصول، تعرض ما تصنعه السياسة الصهيونية، على صعيد سنّ القوانين أو استغلال القديم منها، وعلى صعيد تغيير معالم الخارطة الجغرافية والبشرية عبر الاستيطان، وعلى صعيد التهويد عبر الاستعمار بإحلال الغاصب مكان صاحب الأرض، وعلى صعيد المسجد الأقصى المبارك بالتركيز عليه من خلال ما يوضع من أهداف لهدمه، وما يُنفذ من إجراءات بالحفريات تحت أركانه.
القانون الدولي.. وانتهاك الشرعية الدولية
قد يختلف المرء مع الأخ الدكتور عدنان أبو عامر بشأن القانون الدولي الذي يتحدّث في الفصل الأول عن "قراراته" بعد ١٩٦٧م بشأن تغيير معالم القدس، وصحيح أنّها إيجابية إجمالا، ولكن بمنظور أنّ القدس الشرقية هي القدس المحتلة، وكأنّ القدس الغربية لم تكن ضحيّة احتلال سابق.
إنّما يتحدّث الكتاب عن قرارات مجلس الأمن الدولي، وليس ذلك المجلس إلاّ هيئة (من المفروض أن تكون تنفيذية للشرعية الدولية) خضعت لموازين القوى الدولية بما ينتهك ميثاق الأمم المتحدة نفسه وينتهك المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي، فإذا صدر عن ذلك المجلس بين الفينة والفينة قرار يثبّت جانباً من الحق جزئيا، وجب أن يكون التعامل معه بالقدر الذي لا يغيّب عن الأذهان ما سبق وصدر عن المجلس نفسه أو عن الأمم المتحدة عموما، من قرارات صنعت من فلسطين قضية، مذ رسّخت الاحتلال عبر قرار الانتداب البريطاني مع تثبيت نص وعد بلفور فيه، وهو ما يمثل درجة قصوى من درجات انتهاك القوانين الدولية والإنسانية والثوابت التاريخية والجغرافية والبشرية بفلسطين، إلى أن صدر قرار التقسيم الجائر بين محتل غاصب وافد ومالك الأرض.. ثم ما صدر من بعد ذلك دون أن يخرج عن نطاق تزييف الشرعية الدولية.
بينما يبيّن الجزء الثاني من الفصل الأول حول القانون الصهيوني كيف يُصنع وضعٌ باطل جديد على أساس باطل قديم، ويكشف بذلك -لمن يريد- كيف تتعامل الرؤية الصهيونية مع ما تسمّيه "وضعا قانونيا" لابتلاع المدينة الفلسطينية بشطريها الشرقي والغربي.
الاستيطان والتهويد.. والتلهّي بمفاوضات عبثية
من يتابع ما تصنعه الصهيونية بالقدس تحت عنوان الاستيطان، عبر المؤتمرات، والتصريحات، والإجراءات العملية، كما يعرضها الفصل الثاني من الكتاب، تثبيتا للوجود اليهودي في المدينة وتوسيعه، وانتهاكا لحقوق أهل المدينة من أبناء فلسطين، على كلّ صعيد قانوني واجتماعي، وليس على صعيد مصادرة المنازل وهدمها فقط، لا بدّ أن يشعر بأشدّ درجات الغضب من أولئك الذين يزعمون أنّ هذه السياسة "العملية" تتطلب سياسة" كلامية" من خلال مفاوضات، مباشرة أو غير مباشرة، وتنازلات في عقودٍ واتفاقات، قديمة وجديدة، وجميعها لم يتضمّن نصّا ملزما لوقف الاستيطان في المدينة وفي فلسطين بأكملها.
الصهيونية تحدّد ما تريد علنا في مؤتمراتها، بينما تنشغل جهات رسمية وشبه رسمية عديدة بالحيلولة دون مؤتمرات فلسطينية وعربية وإسلامية تحدّد أهدافا أصيلة للقضية المصيرية..
والصهيونية تنتهك حقوق الفلسطينيين في القدس بدءا بالميدان السياسي انتهاء بالميدان الاقتصادي، وتنشغل الجهات التي تتحدّث باسم فلسطين بالحديث عن "التطبيع" والترويج له، وتوجيه الضربات لمن يرفضه على المستويات الشعبية..
والصهيونية توسّع نطاق اضطهادها للفلسطينيين باطّراد لإكراههم على الرحيل، ممّا يشمل ما تصنع عبر النظام التعليمي ومضامينه، وتنشغل الجهات المعنية نفسها عن ذلك لحملات تعديل أنظمة التعليم العربية لتخلو من كلّ ما من شأنه بيان الحق كما هو بفلسطين عموما، سواء كان من منطلق ديني أو حضاري أو تاريخي أو قانوني دولي..
والصهيونية تعمل على تغيير خارطة سكان القدس بتوطين المزيد من الغاصبين وتهجير المزيد من أصحاب الأرض الأصليين، وتنشغل الجهات ذاتها -أو تتشاغل- بكل ما من شأنه الحيلولة دون تلاقي الفلسطينيين مع إخوانهم من العرب والمسلمين، على التعامل مع القدس وفلسطين، كما ينبغي، باعتبارها قضية مصيرية للجميع، لا ينشغل عنها إلاّ من لا يعبأ بمصير العرب والمسلمين عموما وليس بمصير أهل فلسطين فقط.
في الفصل الثالث يركّز الباحث د. عدنان أبو عامر على الجانب التهويدي المباشر، فيذكر -كما هو نهجه في سائر فصول الكتاب- بالوقائع والأرقام ما تعنيه تلك الكلمة.. هدما للبيوت، ومصادرة للأراضي، وتهويدا للمرافق والخدمات العامة، وإلغاء ما يحمل عنوانا فلسطينيا على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والقضائية، إضافة إلى إجراءات العزل والإغلاق، لتضييق الحصار على الفلسطينيين، وتوسيع عملية التهويد في المدينة، ثم ابتكار قوانين شاذة لاصطناع بنية هيكلية هيولية للاستيلاء على المدينة المقدسة، وتتبين من وراء ذلك كله الأهداف السياسية الصهيونية فيعرضها الكاتب في عناوين تشمل الجوانب الأمنية والسكانية والاقتصادية والسياسية والدينية، بصورة مركزة تساعد على وضع تلك الإجراءات العملية في موضعها من الأهداف المتوخّاة من خلالها.
ويُختم الفصل بالحديث عن الموقف العربي والإسلامي من القدس، ومع صحّة ما ذهب إليه الكاتب من أنّه موقف يردّد استحالة التنازل عن القدس، إلا أن الكاتب يبيّن "الجانب العاطفي" من وراء ذلك الموقف، بينما بقي (الفعل الذي مارسه العرب والمسلمون في دعم المدينة المقدسة حبيس هذه العواطف) في غياب سياسة واضحة، ناهيك عن إجراءات مضادّة لتهويد المدينة.
بناء الهيكل.. لا يجاب بالكلام عن المسجد الأقصى
يصل الكاتب في الفصل الرابع إلى ما تصنعه الصهيونية تجاه المسجد الأقصى المبارك، وهو لا يقف عند حدود ممّا يمليه التاريخ أو العقل والمنطق، بدءا بدعوى اكتشاف آثار طريق تحت المسجد وزعم أنها كانت قائمة قبل ألفي سنة، مرورا بالحديث عن ميلاد "بقرة حمراء" واعتبار ذلك ممّا يحقق أحد شروط إعادة بناء الهيكل، انتهاء بمنع وصول مواد البناء اللازمة لإعمار المسجد الأقصى نفسه، ولم ينقطع في الوقت نفسه نشاط الجماعات "اليهودية" -كما لو أنّها تعمل بمعزل عن الحكومة الإسرائيلية- لتطلق الدعوات وتتخذ الخطوات التمهيدية تحت عنوان "بناء الهيكل الثالث". إنّما يُظهر مخطّط هدم الأقصى نفسه أنّ جميع ذلك قائمٌ على مسرحية توزيع الأدوار، فالحفريات تحت أسسه وأركانه لا تقوم بها "جماعات يهودية" بل الجهات الصهيونية الإسرائيلية الرسمية، وهو ما يعرضه الكاتب عبر عشرة مراحل تمّت.. وما يزال المزيد منها قيد التنفيذ.
وفي خاتمة الكتاب يقول مؤلفه: إنّ الدراسة بينت (أنّ الصراع على المدينة المقدسة سيبقى سيد الموقف خلال السنوات القليلة القادمة، وأنّ سلطات الاحتلال لن ترضى بأقلّ من تهجير الفلسطينيين كليّاً عنها، وهو ما يلقي بمزيدٍ من المسؤوليات على الفلسطينيين والعرب والمسلمين).
والسؤال: هل ينهض الفلسطينيون والعرب والمسلمون بمسؤولياتهم تلك؟ أم يبقى اللهاث وراء "مفاوضات عبثية" هو البديل "الوطني والقومي والديني" عن متطلّبات المقاومة والتحرير؟
نبيل شبيب