مشهد قصصي – بين مهندس وشاعر
مشاهد متمردة
أصبح الهمّ الأكبر النوم على سرير فرنسي، والسفر بسيارة ألمانية، والتباهي ببزّة إيطالية
بدا على وجه سعاد التبرّم وهي تتكلم على الهاتف، فليس لديها الوقت للدعابة، وتعرف أن رئيسها لا يحب الدعابة، ولكن ذلك الإنسان المجهول على الهاتف لا يريد البوح باسمه، فإن كان لا يقصد الإزعاج فهو على الأقل سمج ولا يقدّر قيمة أوقات الآخرين، ولم تدع التبرّم ينعكس على صوتها فقالت للمرة الثالثة بمنتهى الهدوء:
– آسفة، لا أستطيع أن أصلك بالأستاذ عباس دون أن أخبره من الذي يريده.
ولم تسمع جوابه هذه المرة، إذ أسعفها من ورطتها خروج الأستاذ عباس من مكتبه، مسرع الخطى كعادته، كأنه يلحق بنظارته المتشبّثة برأس أنفه، وقد اتجهت به نحو الباب الآخر من الغرفة، فانتهزت الفرصة وسابقت بكلماتها خطواته قائلة:
– أستاذ عباس، شخص على الهاتف يريد الحديث معك.
قال ممسكا بقبضة الباب دون أن يلتفت خلفه:
– من هو؟
– يقول إنه صديق حميم، ولم يذكر اسمه.
وتحرّك لسانه كما توقعت، فقال وقد التفت إليها بكليته:
– يا آنسة سعاد..
وأمسك عن الكلام فجأة.. فتنفست الصعداء، لم يكن لديه وقت ليكرّر على مسامعها ما سبق أن أكّده مرارا، فأقبل نحو مكتبها، وأخذ سماعة الهاتف قائلا ببعض الجفاء:
– نعم، معك عباس!
– أهلا يا أبا أنس، أخيرا وصلتُ إليك عبر الحواجز والحجّاب.. كيف أنت، وما أحوالك؟
وحملق الأستاذ عباس في الفراغ كأنه يبحث عن جواب مناسب يعيد إلى صاحب ذلك الصوت المجهول صوابه، ورأت سعاد في وجهه سائر المقدّمات التي طالما سبقت ثورة الغضب على لسانه، فاستنجدت ببرودة أعصابها المعتادة، وضغطت على مسـند الكرسي بظهرها كأنها تعدّ نفسها لسماع ما يقول، ولكن رأته كيف تمالك نفسه متحسّبا على الأرجح أن ينجلي الأمر عن أحد عملائه أو أحد الوسطاء، ولا يريد أن يخسر ما بناه من علاقات في هذا البلد. وبمنتهى الهدوء أرسل بالكلمات من فمه إلى لاقطة الهاتف كلمة بعد كلمة:
– يا أستاذ، أرجو أن تخبرني أولا من أنت!
– أوه.. أنسيت صحبة العمر يا عباس؟ بشّار.. بشار يحدّثك.. وتسأله من أنت كأنّه أبو فراس يا عصيّ الدمع!
ولم يعرف قصده، ولم يأبه بذلك فسكت يفكّر هنيهة.. منذا يخاطبه هكذا باسمه مجرّدا وهو المعروف بالمهندس عباس، والسيد عباس، مذ حلّ في هذا البلد وافتتح مكتبا للاستشارات الهندسية، وقد سُدّ باب العمل في بلده. عشرة أعوام وهو.. لا ينبغي أن يسترسل في أفكاره، الرجل من أهل بلده وهذا واضح من لهجته، وشرع يردّد في الهاتف كمن يكلّم نفسه..
– بشار.. بشار..
– نعم بشار، بشار الذي كان يطرحك أرضا في باحة المدرسة، ويشبعك..
وقاطعه قبل أن يسترسل في سرد قصة صداقتهما المدرسية وهو يقلب أوّل فصولها رأسا على عقب:
– بشار زيدان.. أليس كذلك!
وساءلت سعاد نفسها، هل رأت فعلا لمعة مفاجئة في عيني رئيسها وما رأتهما من قبل تلمعان إلا لنجاح مشروع أقدم عليه أو صفقة عقدها؟ هل انفرجت أسارير وجهه عن ابتسامة، أو شبه ابتسامة حيرى تخشى القفز إلى شفتيه علنا في وضح النهار؟ وكأنه قرأ ما يدور في خلدها فأعطاها ظهره وهو يتابع قائلا:
– أين أنت الآن؟ متى تزورنا يا أخي؟ منذ خمس سنوات وأنت تقول إن زيارتك قريبة؟ وكيف حال الأهل والأولاد؟
وكاد يسأله عن عمله ثم أحجم.. وعاد إليه صوت صديقه يقول وكأنه يتحدّث على خشبة مسرح:
– أنا أقرب ممّا يخطر على بالك، قبل قليل كنت في أجواز الفضاء، أما الآن فأنا في انتظارك في المطار؟
– هنا؟ هنا في مطار الكويت؟
– نعم هنا، عندكم، ولكنها زيارة قصيرة، وبعد الظهر أمتطي الطائر الميمون وأتابع السفر إلى الشارقة؟
وتابع بشار يحدّث صاحبه عن رحلته المفاجئة، وأنه وقف خصيصا في الكويت، وأنّه.. ولم يكن عباس يستمع إليه، كان يحاول أن يهضم ما سمعه أولا، ويرتّبـه حلقة بعد حلقة، أو حجرا فوق حجر كما يصنع على لوحة مخططاته الهندسية، يا لهذا الفوضوي، تجاوز الأربعين وهو هو على ما يبدو، لم يتغير عمّا كان في المدرسة الابتدائية، لا يهدأ على حال، ولا يستقرّ في مكان، يحبك المقالب، ويكيد المكائد، ويضحك، ويقع رفاقه ضحية لها، ويضحكون رغم ذلك، كان طيّبا ينتزع المحبة من القلوب انتزاعا، ودودا لا يشكّ أحد في صفاء نفسه لحظة واحدة..
– أستاذ عباس!
وعاد إلى نفسه على صوت سعاد وقد سيطرت الدهشة عليها وهي تراه حاضرا غائبا كما لم تره من قبل، فنبهته تقول:
– صديقك على الهاتف..
ولاحظ أخيرا أن بشار يناديه عبر السماعة:
– أين أنت؟ عباس.. هل غلبك النوم؟
– كلا.. كلا.. معذرة، إني أسمعك، كيف أراك، متى؟ أقصد أين نلتقي؟
– كما قلت لك، هنا في المطار، نتناول طعام الغداء قبل أن أتابع سفري!
في المطار؟ وأحس كأنه سيقع ضحية مقلب جديد من مقالب بشار وأنه لا مهرب من ذلك، والتفت إلى سعاد قائلا:
– هل من مواعيد أو أمر مهم بعد الظهيرة؟
نظرت إليه وكأنها لا تصدّق أنه يفكّر بإلغاء موعد من مواعيده، وقالت:
– كلا لا توجد مواعيد، ولكن الأوراق الخاصة بمشروع السويدي يجب أن تكون جاهزة غدا صباحا..
وجاءها جوابه من خلال متابعة حديثه مع بشار، وقوله إنه في الطريق إلى المطار على الفور، ثم الاتفاق بالتفصيل على مكان اللقاء.. ولم يتمكن من التفكير في الطريق، وصل إلى المكان المتفق عليه وحار وهو يتلفت يمنة ويسرة ولا يرى أثرا لبشار، هل أخطأ المكان؟ أم شغله أمر ما؟ وما الذي يشغله وقد قال إنه لا يملك سوى القليل من الوقت للقاء به؟ وفاجأه صوت بشار من ورائه:
– هل تبحث عني؟
وتلاقى الصديقان فاضمحلّت في حديث ساعة من الزمن فرقة عشرة أعوام، كأنهما ما يزالان في باحة المدرسة يتناوشان، أو في أروقة الجامعة يتناقشان، ثم في الجلسات الطويلة على التبادل في بيتيهما، ينتظران الفرج، أن يجد بحثهما المتواصل عن عمل نتيجة ما.. وساءل نفسه فجأة، ماذا يعمل بشار الآن، ولم ينتظر بسؤاله طويلا:
– هل وجدت عملا ما؟
وأطرق بشار لحظة ثم قال جادّا.. أو مصطنعا للجدّ:
– ألا تعلم ما كنت تقوله لي: الشِّعر لا يطعم خبزا.
وحاول عباس العودة إلى الدعابة قائلا:
– ولكن لا يبدو على “كرشك” المتهدّل أثر الجوع.
وحاول بشار بدوره الحفاظ على طابع المرح في كلماته، ولكن بدا وكأنه يغصب نفسه على بسمة عابرة وهو يقول:
– هذا “كرش الوجاهة” وهو موروث أبا عن جدّ.. على أي حال ليس عندي مشكلة في طلب الرزق.
وغلب حب الاستطلاع على عباس ورغبته في الاطمئنان على صديقه فقال متسائلا:
– يعني أنك تعمل، أين؟ هل هو مكان عمل مضمون؟
وأرسل بشار بصره عبر النافذة نحو الطائرات الجاثمة على أرض المطار، كأنه يتجنّب عيني صديقه، ثم قال باقتضاب:
– أعمل في شركة تأمين للسيارات.
وانتاب عباس إحساسٌ ما يدفعه إلى الندم على سؤاله، وأراد تلطيف الجوّ ثانية فزاد الطين بلّة بقوله مازحا:
– لا شك أنك أشبعت زملاءك شعرا ونثرا..
وقطع عبارته وقد أحس أن تهكّمه في غير موضعه، ولكن بشار لم يظهر تأثرا أو انزعاجا، إنّما انتقل إلى الجدّ على غير ما كان عليه في الحديث مع صديقه:
– مشكلتي ليست في العمل، مشكلتي معكم أنتم الذين يحسبون الساعة بالدينار، ويفضّلون قوائم الحسابات على قصائد الشعر، ويتأملون في الحياة كأنها “بورصة” كبيرة..
وقاطعه عباس قائلا:
– مهلا.. مهلا عليّ فلست من هؤلاء، أنا أشتغل لأعيش ولا أعيش لأشتغل..
وتجاهل بشار قوله ومضى متسائلا دون أن يبدو عليه أنه ينتظر جوابا:
– أخبرني بالله عليك، متى كان آخر عهدك بقصيدة شعرية سمعتها، أو رواية قرأتها، أو قطعة أدبية تأملت فيها، أو لوحة فنية سرحت قليلا وأنت تتأمل في خطوطها وألوانها.. وهمّ عباس أن يقول شيئا فلم يدعه بشار يتكلم وتابع كمن يكلم نفسه:
– ألا ترى معي أن الحياة هكذا وهكذا، وأن الإحساس فيها شقيق العقل، والإبداع رفيق المنطق.. ألا ترى أنه لا ينبغي أن يغيب أريج الزهور في دخان السيارات، أو أن تصبح مصافي النفط منظارك إلى النجوم في قبة السماء..
– نعم.. نعم أوافقك على كل هذا.. ولكن..
مرة أخرى لم يدعه يكمل كلامه فتابع قائلا:
– يا صاح لقد حوّل المال عالمك إلى حاسوب، فكأنك لم تحضر في المدرسة إلا حصة الرياضيات.. وصار التاريخ مجرّد رقم جافّ من السنوات والقرون، والجغرافيا مساحات من الأرض تعدّ بالكيلومترات ما بين الحدود، والإنسان.. أصبح الإنسان قطعة من الإحصاءات عن القتلى والمرضى والفقراء والأثرياء.. وصار الأدب منبوذا إلا ما خدم منه أصحاب الأموال، والفن ممجوجا إلا ما شذّ مع الشاذين في الآفاق.. نسينا قيمة ما يصنع الإنسان، ونسينا أن الشعر يشحذ عزيمته، والأدب يصقل أخلاقه، والقصة تنزل بالسكينة على قلبه.. فأصبح الهمّ الأكبر النوم على سرير فرنسي، والسفر بسيارة ألمانية، والتباهي ببزّة إيطالية..
ولم يطق عباس سماع المزيد فوقف على قدميه ليرغم صاحبه على السكوت ولو للحظة، وقال مدافعا عن نفسه:
– لا تقل هذا عني يا بشار، فلعلك لا تعرفني بعد انقطاع دام سنوات، صحيح أن عملي يشغلني، لكنني أعمل كما تعلم في المجال الذي كنت أحلم به من صغري، وربما قصّرت في متابعة الآداب والفنون والثقافات، ولكن لست من طلاب جمع الثروات، وأعرفك من المتدينين، فعلام هذه المبالغات في كلامك، ألا ترى أنت أننا شبعنا كلاما، وأن الخطب لم ترجع لنا مجدا، وأن الشعر لا يبني لنا مصانع ولا قصورا، أما آن للحالمين بالسراب أن يهبطوا على سطح الأرض، ويتحسّسوا ما فيها من شدّة وقسوة، وجهاد ومشقّة، أو لست أنت من كان يردّد أن صنعة في اليد أمانٌ من الفقر، ثم كيف ننهض ببلادنا دون تخطيط وعمل، بل والتفوق على من سبقنا أشواطا بعيدة، كلا يا شاعري العزيز، إنما هي الحياة كما أراها وأعيشها يوما بيوم، الحياة لا ترحم من لا يعمل، بل لا يكفي العمل دون أن تسبق سواك، وأن تقدّم أفضل مما يقدّمه..
قال بشار كأنه يحدّث نفسه:
– وعلى من يخسر السباق أن يشرب ماء البحر..
وعاد عباس إلى الجلوس دون أن يسمع ما قال صاحبه:
– ماذا تقول؟
نظر بشار إلى صديقه وقال:
– كلا.. لا أقول شيئا، أتحدث عن البحر العربي، فأنا بعد ساعات في الشارقة إن شاء الله، وأود الاستمتاع بمنظر مغيب قرص الشمس الأحمر في زرقة البحر الصافية..
وظهرت على عيني عباس معالم الحيرة، ثم عاد إلى نفسه فقال بعد هنيهة:
– صحيح.. لم تخبرني، ما تصنع بالشارقة؟
وغلبت مشاعر السرور على وجه بشار مجيبا:
– أنت تعلم أن الشارقة شقّت طريقها كمدينة ثقافية أولى للعرب، وقد دعيت إلى مؤتمر لا أعلم عن مؤتمر آخر مثله انعقد من قبل، فهو يجمع في مكان واحد لفيفا من الشعراء والأدباء، وآخر من العلماء والتقنيّين، ويحضره أيضا عدد من المسؤولين السياسيين والإداريين، وسألقي فيه قصيدة غرّاء عصماء.. أتحبّ أن تسمعها؟
ومدّ يده إلى جيبه، فنظر عباس إلى ساعة يده، وقال:
– نعم.. نعم.. ولكن دعها لفرصة أخرى، وحدثني الآن عن أحوالك، لقد تزوجتَ متأخرا، فكم أنجبت من البنين والبنات حتى الآن؟
وطغى على جوابه صوت مكبّر الصوت يعلن عن اقتراب إقلاع الطائرة المتوجهة إلى الشارقة، وعلى المسافرين أن يتوجّهوا إلى قاعة المغادرة.
وأستودعكم الله الذي أمر بالعمل وفق القدرة والاستطاعة وأمر بتكريم العمل
مع أطيب السلام من نبيل شبيب