مستقبل الإسلام بأوروبا
بين الشباب والكهول
ورقة تحليلية – يرتبط النهوض بأعباء جديدة لمستقبل المسلمين في أوروبا بجيل الشبيبة
ورقة تحليلية
تسارع الأحداث – حدود الاندماج – كهولة التنظيمات – سلامة العمل
الحديث عن العلاقة بين جيل الشبيبة والجيل الأكبر سنا من المسلمين في أوروبا، وعلى وجه التحديد الناشطين إسلاميا منهم، حديث ذو شجون، ومن ذلك الحديث عن ضرورة ثورة الشبيبة والأصل أن يتضمن الثورة على أنفسهم أولا، بالارتفاع إلى مستوى حاجة الإسلام والمسلمين الآن ومستقبلا، فهذا ما يؤهل للقيادة.
تسارع الأحداث
تزامنت مؤخرا (٢٠٠٩م) ثلاثة أحداث في بريطانيا وألمانيا وإسبانيا تدفع إلى طرح السؤال عن مستقبل الإسلام في أوروبا مجددا، وإلى التأمل فيه عبر منظور العلاقة بين جيلين من المسلمين، والأحداث المقصودة هي:
١- الإعلان البريطاني يوم ٢٤ / ٣ / ٢٠٠٩م عن إستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب مع التصريح بمخاوف من تنظيمات إسلامية من تصعيد التشدد تجاه المسلمين في بريطانيا عبر تشريعات قانونية وإجراءات إدارية شبيهة بما عرف تحت عنوان قوانين استثنائية بعد تفجيرات نيويورك وواشنطون عام ٢٠٠١م.
٢- يوم ١٩ / ٣ / ٢٠٠٩م كشف عن حملة مداهمات واتهامات جديدة في ولاية بافاريا الألمانية، استهدفت سبعة من الناشطين إسلاميا من منظمات إسلامية معروفة، وانطوت على تصعيد نوعية الاتهامات ومضامينها بالمقارنة مع ما كان في حملات سابقة.
٣- الذكرى السنوية الخامسة للحادثة الإرهابية بتفجير قطارات في مدريد يوم ١١ / ٣ / ٢٠٠٤م، واقتران ذلك بتبني جهات رسميةٍ طباعةَ كتاب وتوزيعه حول التسامح ومعارضة الإرهاب، وكان من وراء إعداده في صيغةِ مجموعةِ صورٍ وكلمات بأقلام أطفال المسلمين بعد الحادثة مباشرة، عدد من الشبيبة المسلمة في مدريد، تميزوا بالوعي والمثابرة، كما يشير احتفالهم بطباعة الكتاب وتوزيعه عام ٢٠٠٩م.
حدود الاندماج
سؤال طالما تكرر طرحه: ما الذي ينبغي على المسلمين في أوروبا صنعه على طريق اندماج إيجابي يجمع بين جناح المواطنة في الدول التي يعيشون فيها وباتوا جزءا من واقعها ومستقبل مجتمعاتها، وجناح الحفاظ على تميزهم بالهوية الإسلامية وهو مما يعنيه سريان مفعول حرية المعتقد على أرض الواقع؟
قبل محاولة الإجابة مجددا على هذا السؤال وفق معطيات قائمة حاليا، يحسن النظر في معالم الأرضية السياسية والإعلامية التي يتحرك عليها الوجود الإسلامي في أوروبا، وما يعترضه من عقبات.
ولا نزال نرصد تناقضا كبيرا في السياسات والممارسات الصادرة عن قطاع لا بأس به من المسؤولين في أوروبا، من الميادين السياسية والإعلامية والفكرية، ما بين دعوات الاندماج والتسامح وإزالة الأحكام المسبقة والحوار وما شابه ذلك، وبين مواقف وإجراءات عملية صادرة عن المخاوف أولا، والتي قد تكون مشروعة أحيانا بمنظور أحداث بعينها كعمليات التفجير في مدريد ولندن عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥م، ولكن لا يمكن أن تكون مقبولة عندما تتخذ شكل تعميم الشبهات والاتهامات، بدلا من التمييز الدقيق بين الغالبية الكبرى للمسلمين في أوروبا وبين نسبة محدودة تميل إلى العنف غير المشروع أو تؤيده، ناهيك عن أن ممارسته لا تصدر إلا عن نسبة محدودة أيضا من هذه الفئة المناصرة له، فهي لا تمثل شيئا يذكر بالمقارنة مع عشرات الملايين من المسلمين في أوروبا.
ونقف فيما يلي عند بعض الأمثلة:
في بريطانيا حيث صدرت الإستراتيجية الجديدة لمكافحة الإرهاب، نجد تفصيلا واسعا يتناول ملاحقة من يمارس الإرهاب، والوقاية بمنع التطرف، وحماية الحدود وتأمين المواقع المحتمل استهدافها، والاستعداد لمواجهة أنواع جديدة من مصادر الخطر، إضافة إلى ما يسمى تجفيف منابع التمويل، وإلى مزيد من الجهود العسكرية الخارجية كما في أفغانستان، ونعلم أن كثيرا من ذلك بات ذريعة لصنع ما لا تتحدث عنه العناوين، كالتضييق على جمعيات خيرية، وأنشطة إسلامية مشروعة، والخلط بين إرهاب بمعنى عنف غير مشروع وبين المقاومة المشروعة ضد العدوان وضد الاحتلال. بالمقابل لا تتضمن هذه القائمة الطويلة المعلنة رسميا، ما يمكن اعتباره استئنافا أو تطويرا أو إستراتيجية تنطلق من بذور أخرى كان قد سبق التأكيد عليها، وفيها بعض الإيجابيات، وقد صدرت أيضا عن جهات رسمية وغير رسمية في حينه، كالانفتاح الإيجابي الذي كان يمثله بصورة خاصة الأمير البريطاني تشارلس.
لا غرابة إذن أن تنتشر الشكوك في أوساط المسلمين تجاه التصريحات الصادرة بين وقت وآخر حول تسامح وحوار واندماج، أو على حد تعبير محمد شفيق باسم مؤسسة رمضان الشبابية الإسلامية في بريطانيا معقبا على مواقف رسمية في حينه: (الحكومة ماهرة جدا في صياغة ما تعلن عنه، ولكن لا يصدر الكثير عنها عند الوصول إلى التنفيذ بصورة جوهرية… وحكومة بلير أقدمت على كثير من التشريعات القانونية التي تنطوي على التمييز ضد المسلمين، كما أن ما فعلته في العراق وأفغانستان زاد من وطأة الإرهاب) ولا يبدو أن الإستراتيجية الجديدة قد خرجت عن هذا الخط العام عموما.
مثال آخر، يدرك المسلمون في فرنسا ما يوجد من ثغرات في صفوفهم، ويريدون الوصول إلى إعداد أفضل لأئمة المساجد والمصليات، كما يقول ولد لعروسي مدير مكتبة معهد العالم العربي بباريس، منتقدا تعامل الحكومة مع الجزائر لإرسال من ترى الحكومة الجزائرية إرسالهم وأغلبهم لا يؤدي الغرض على الوجه الأمثل، ولكن تكمن المشكلة الأهم في وضع عام هو السائد، وهو أن (الغرب اليوم ينظر إلينا نظرة استفزازية وكأننا غنيمة مريضة يجوز الاستحواذ عليها) على حد تعبير فضل السيد حسين رايس، المحاضر في مسجد باريس. وليس مجهولا أن حظر الحجاب على بنات المدارس المسلمات ما زال مستمرا، وأن ملاحقة أئمة المساجد وخطب الجمعة فيها ما زالت قائمة، وأن مواجهة ثورات الغضب الاجتماعي في بعض الأوساط التي ترتفع فيها نسبة المسلمين وتعاني من التهميش والبطالة وسواها، لم تخرج من البوابة الأمنية إلى البوابة الاجتماعية والثقافية.
والمثال الثالث من ألمانيا حيث كان من أقوال د. آلبرخت ماجن، رئيس لجنة اندماج الأقليات في فرانكفورت: (لا نحاول اقتلاع الناس من جذورهم بل نريد نشر الإدراك أننا نعيش في مجتمع متعدد الثقافات)، كما يؤكد د. فيرنر شيفاور من جامعة فرانكفورت (قيام بعض قطاعات الإعلام الغربي بدور كبير لإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين) ويعزو إلى ذلك زيادة عزلة المهاجرين المسلمين في المجتمع الألماني، ولكن سيان كم تتكرر أقوال من هذا القبيل، لا ينقطع سيلُ المقالات الإعلامية التحريضية، ومنها ما يطالب بوقف بعض المحاولات الجزئية في اتجاه الاندماج، بغض النظر عن تقويمها تفصيليا، كما هو الحال مع ما يسمى “مؤتمر الإسلام في ألمانيا” برعاية وزير الداخلية الألماني فولفجانج شويبلي، وهذا التحريض دائم الحضور، دون مناسبة تستدعيه مباشرة، ولكن يبلغ مداه بعد حادثة من قبيل حملة الاتهامات والمداهمات الصادرة عن النيابة العامة في ميونيخ، مع استباق الإدانات الإعلامية للبعد الزمني الشاسع ما بين توجيه الاتهام، وبين ظهور الحصيلة، فتؤدي الإدانات مهمة التحريض لعدة سنوات، ولا يفيد بعد ذلك كثيرا أن تنتهي الاتهامات إلى التبرئة أمام القضاء كما كان مرارا في حالات مشابهة.
آرمين لاشيت، وزير شؤون الاندماج في ولاية رينانيا الشمالية وستفاليا الألمانية يؤكد أهمية أن يكون لدى المهاجرين فرص تعليمية ومهنية متكافئة مع سواهم، ويعتبر ذلك شرطا أساسيا للاندماج، ولكن لا نكاد نرصد شيئا يستحق الذكر على هذا الصعيد في السنوات الماضية، رغم تأكيد شبيه ذلك رسميا فيما عُرف بقمة الاندماج الداخلية التي عقدتها المستشارة الألمانية ميركل في منتصف عام ٢٠٠٦م.
في الاتحاد الأوروبي عموما لا تزال الهوة الفاصلة بين القول والعمل على مستوى السياسات الرسمية والممارسات الإعلامية في الدول الأوروبية كبيرة جدا، فما سبق أمثلة تسري على بقية بلدان الاتحاد. ومن الناحية النظرية نجد مبادرات إيجابية مثلا فيما يسمى دليل شؤون الاندماج الصادر بنسخته الأولى عام ٢٠٠٤م عن مفوضية الاتحاد الأوروبي، ولكن لا يوجد على أرض الواقع ما يشير إلى وضع المقترحات العديدة فيه موضع التنفيذ، لا سيما وهو يؤكد أن (الاندماج لا يتحقق عبر طريق في اتجاه واحد فقط، بل ينبغي أن تكون المجتمعات الأوروبية على استعداد لاحتضان المهاجرين أيضا) ويبين تبعا لذلك الكثير مما ينبغي صنعه ولم يُصنع على أصعدة الخدمات والسكن والقطاع الاقتصادي وغيره.
كهولة التنظيمات
لا شك أن استمرار التطور السلبي يمكن أن يؤدي في مرحلة ما إلى تصعيد المواجهات بدلا من الاندماج، كما أنه لا يمثل أرضية إيجابية يتحرك عليها المسلمون في أوروبا، الذين يراد منهم أن يحملوا قسطا من مسؤوليتهم في اتجاه الاندماج الإيجابي، وقد صدرت عام ٢٠٠٩م نتائج دراسة قامت بها مؤسسة كاريتاس الخيرية الكنسية، وفوجئ القائمون عليها بنتيجة من بين نتائجها تقول، إن العقبة الأكبر في وجه الاندماج هي عقبة البيئة الاجتماعية أكثر من أصول الانتماءات الأجنبية للمهاجرين من جيل سابق. وعنصر المفاجأة كامن في انتشار التصور الموهوم أن المسلمين لا يمكن أن يندمجوا في المجتمعات الأوروبية لمجرد أنهم مسلمون، أي بسبب انتمائهم، وليس بسبب
الظروف المحيطة بهم!
لا ينفي ما سبق وجود عقبات ذاتية كبيرة على صعيد المسلمين، ونقف في هذه الورقة التحليلية عند إحداها فقط، وترتبط بأوضاع العمل الإسلامي، وقبل الخوض فيها يفيد التأكيد مسبقا:
إن المراكز والاتحادات والجمعيات وسوى ذلك من التنظيمات الإسلامية التي أنشئت قبل عقود، قدمت خدمات جلّى لوجود الإسلام والمسلمين في أوروبا، والتفصيل فيها يطول ويبتعد بهذه السطور عن غايتها الأصلية، إنما يأتي هذا التمهيد قبل ذكر السلبيات تجنبا للتوهم بعدم وجود إيجابيات، وليس هذا صحيحا.
يمكن الاكتفاء بصدد بعض السلبيات المقصودة بتعداد عناوين أساسية:
١- البنية الهيكلية لمعظم التنظيمات القائمة بنية بلغت مرحلة الكهولة إن لم نقل الشيخوخة، وقد قامت تحت تأثير ظروف زمنية وموضوعية تختلف اختلافا جذريا عما هو سائد اليوم.
٢- من ذلك على وجه التخصيص غلبة طابع تنظيم جاليات وافدة مع ما يعنيه ذلك من تأثير الأساليب والوسائل وطرق التفكير والتعامل الوافدة مع الوافدين من مواطنهم الأصلية، بينما أصبح أكثر من ثلثي المسلمين في أوروبا من الفئات المستوطنة، بإقامة دائمة أو عبر اكتساب الجنسية، أو نتيجة الولادة في أوروبا، أو باعتناق الإسلام بمعدلات متزايدة من جانب ذوي الأصول الأوروبية.
٣- أغلب المسؤولين في العمل الإسلامي في أوروبا، من مراكز وروابط، يسري عليهم ما يسري عليها من حيث الوصول إلى مرحلة الكهولة وتجاوزها، ومن حيث غلبة فكر الوافدين بينهم، بينما نجد أن السواد الأعظم من المسلمين المترددين على المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية هم من جيل الشبيبة، وهم في سن العطاء المطلوب، ويتمتعون بميزات أخرى عديدة، بدءا باستيعاب المجتمع الذي ولدوا ونشؤوا فيه، وطرق تفكيره وأساليب التعامل معه والتأثير عليه، انتهاء باستيعابهم الأكبر لوسائل العصر الحديثة وقدرتهم على توظيفها لتحقيق الأهداف المرجوة.
٤- إن التركيز على التميز الانتمائي الإسلامي كما مارسته التنظيمات الإسلامية في عقود ماضية كان ضروريا مقابل ما غلب على المجتمعات الأوروبية والإسلامية آنذاك وتمثل في تيارات رافضة للدين ومعادية له، ويختلف الوضع الآن من حيث ارتفاع نسبة المتأثرين في تصوراتهم وواقع حياتهم بالصحوة الإسلامية، كما يختلف بارتفاع نسبة المعرفة بالإسلام في الغرب رغم المظاهر العدائية والتحريضية. واستمرار التميز مطلوب، ولكن دون أن يفقد ضوابطه، كيلا يتحوّل إلى تقوقع وعزلة، أو يدعم مظاهرهما المنتشرة حتى الآن، فيصبح عقبة في طريق الاندماج الإيجابي بشقيه: المواطنة الأوروبية والانتماء الإسلامي.
٥- ممارسة التنظيمات الإسلامية للدعوة إلى الإيمان والأخلاق والعبادات في حقبة ماضية كانت ضرورية للغاية، وقد حققت كثيرا من أهدافها، ولا تنقطع الحاجة إليها الآن وفي المستقبل أيضا، إنما ازدادت الحاجة إلى ما يرتبط بميادين أخرى عملية، بدءا بقضايا حضانة الأطفال والتدريس، وعلاقة أولياء أمور التلامذة المسلمين بالمسؤولين في المدارس والدوائر الرسمية، وعلاقة الطلبة والطالبات بزملائهم من غير المسلمين وبطواقم التدريس في الجامعات، مرورا بقضايا الأسرة والمجتمع، وتنمية المواهب والتخصصات، والتعامل مع النقابات وأرباب العمل، والتأثير على المستويات الفكرية والأدبية والفنية والإعلامية، انتهاء بالتفاعل مع التيارات والأحزاب السياسية ومراكز القوى المؤثرة على صناعة القرار التشريعي القانوني وسواه.
سلامة العمل
هذه صورة موجزة تؤكد أن من المعضلات المستعصية على طريق بناء مستقبل أفضل للوجود الإسلامي في أوروبا، معضلة كامنة في السؤال: هل يمكن لتنظيمات بلغت سن الكهولة مع قياداتها، أن تنهض بأعباء جديدة ترتبط ارتباطا مباشرا بجيل الشبيبة، المغيب عن مواقع القيادة والتوجيه والإدارة، إلا قليلا؟
لا يكفي جوابا على ذلك ما يؤكده كثير من المسؤولين عن العمل الإسلامي أنهم لا يتشبثون بمواقعهم القيادية، ويريدون أن يستلم الشباب مهامهم، ويدعون إلى ذلك علنا، ويشجعونهم على ذلك!
الجواب واضح في أمرين:
أولهما واقع قائم يقول إن هذه الرغبة لم تتحقق حتى الآن على وجه التعميم، فيوجد إذن خلل ما يحتاج إلى إصلاح
والأمر الثاني أن الرغبة مقيدة برغبة أخرى، تصدر غالبا عن الحرص على سلامة طريق العمل وفق ما نشأ عليه، ومثل هذا الحرص يستحق التقدير ولكن يعني الحيلولة دون تطور عمل قيادي جديد، ينهض بالمهمة وفق تصوراته هو، ومن يعترض يغفل أنه كان هو من جيل الشبيبة وتحرك وفق تصوراته الذاتية قبل عقود، وكانت تنقصه المعرفة والخبرة، فأصاب وأخطأ، وتقدم وتأخر، ولكن الحصيلة العامة مع توافر الإخلاص وتوفيق الله تعالى، كانت إيجابية، وهذا -وليس الخوف المبالغ فيه على العمل الإسلامي واستمراريته وصواب طريقه- هو ما ينبغي تثبيته كمعيار لعملية انتقال المسؤولية -أو نقلها- إلى جيل الشبيبة.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب