مرحلة حاسمة في مسار الثورة الشعبية في سورية
الحسم بالسلاح والسياسة مع التضحيات
رؤية تحليلية – من الانطلاقة السلمية إلى حمل السلاح ضد القمع الدموي
رؤية تحليلية
انتشر التشاؤم نتيجة الرصد المتواصل لعالم يعبث بالثورة وفق مصالح القوى الدولية والإقليمية والعربية ومطامعها، مهما قيل عن وجود دوافع إنسانية وأمنية وسياسية وعقلانية، بل يوجد من التحركات السياسية ما يبدو هادفا لنشر التشاؤم والإحباط، كالتراجع عن المطالبة بتنحي العصابات المتسلطة ورئيسها لحساب حوار عقيم، أو التأرجح بين التلويح بالدعم العسكري للجيش الحر دون تنفيذ وتوالي التصريحات بسبب ودون سبب حول استحالة التدخل العسكري، أو تدافع المسؤولية عن المواقف المائعة والممارسات الضعيفة بين القوى الدولية والعربية والمعارضة التقليدية وأجنحتها المتعددة، ناهيك عما ينسجونه من أقاصيص حول ثورة أصبحت همجية مع محاولات قمعها.
ينتشر التشاؤم بين بعض المخلصين إزاء ذلك كلّه، إنّما هو تشاؤم مَن كان يتوهّم قابلية الحصول من تلك القوى على شيء آخر، وهو وهم قائم إما على جهل بحقيقة أمرها، أو ولد في رحم المعاناة من قلّة توافر أسباب مادية دنيوية لتحقيق النصر.
أمّا التفاؤل فوجداني وموضوعي، يسمو إلى العلياء بصدوره عن اليقين الذي تعبّر عنه الثورة الشعبية تعبيرا مباشرا: “يا ألله ما لنا غيرك يا ألله”، وقد أصبحت العبارة شعارا تصدح به الحناجر ودعاء تردّده القلوب مع الحناجر، وسيجد مفعوله الحاسم من حيث لا يحتسبون.
على أنّ الثورة الشعبية في سورية حقّقت موضوعيا أيضا هدفا لا يستهان به على الصعيد العربي والإقليمي والدولي نفسه، فقد حشرت الطاغوت المحلي وراء قضبان عزلة بعيدة المدى، تتزايد انتشارا، فصار من المستحيل على تلك القوى نفسها، والتي لا تريد المشاركة المباشرة في إسقاط الطاغوت الصغير، أن تتعامل معه، ولهذا تبحث عن أيّ صيغة تتناسب مع منظورها لمصالحها، فهي على يقين أنه سيسقط مع عصاباته لا محالة، بمشاركة تلك القوى ودون مشاركتها، فلا مكان هنا لتشاؤم يجري تعليله بميزان الأسباب الدنيوية وفق منظور القوى العربية والإقليمية والدولية.
وترتفع تحت تأثير التشاؤم أصوات تقول بقبول الحوار بين القاتل والضحية. وليس ما يُعرض حوارا ليمكن القبول به أو رفضه، بل هو شرط يقول بالتسليم مسبقا ببقاء القائل أو إعفائه من العقاب.
انتشر التشاؤم أيضا نتيجة مسار المواقف والممارسات الصادرة عن معارضة سياسية تقليدية، إذ قضت خمسة شهور، الأولى من عمر الثورة، وهي تتسابق منفصلة عن بعضها بعضا، ليحتلّ الأسرع منها مكان الصدارة في الإعداد لقطف ثمار ثورة لم يصنعها هو ولكن صنعها شعب سورية، دون أن تقدّم المعارضة طوال تلك الشهور عونا يذكر للثوار الصامدين، وهم الذين أعادوا لها بعض النبض في واقع وجودها، بعد أن سيطر الموات عليه لنصف قرن مضى، باستثناء أفراد أحرار، صاروا رموزا تاريخية، ثم قضت المعارضة التقليدية الشهور السبعة التالية في نزاعات علنية مكشوفة، حول المناصب والأصوات، وحول مواقف من صنعة العمل لنيل الحظوة لدى القوى الخارجية، مقابل ضغوط على ممثلي الثوار أنفسهم، وهذا ما شمل المجلس الوطني السوري، بدلا أن يصبح “ملاذا” لكافة المعارضين، و”لسانا” (جناحا سياسيا كما يقال) يعبّر عن الثوار، وفكرا يستشرف مستقبل الوطن والشعب، وأداة لتطويع الأوضاع الإقليمية والدولية للثورة وما صنعته من مستجدّات على أرض التضحيات والبطولات.
ولكن وجدت المعارضة التقليدية نفسها في هذه الأثناء على مفترق طرق يهدّد بسقوطها هي مع المتسلطين وعصاباتهم، إذ تواجه ضغوط الثورة عبر دماء الضحايا، وضغوط قوى إقليمية ازداد إلحاحها على أن توحّد المعارضة التقليدية كلمتها.
لا بدّ من تعامل المعارضة السياسية التقليدية بإبداع سياسي يرقى إلى مستوى ما أبدعه ثوار شعب سورية وصنعوه، ومن استيعاب السياسة الواقعية كاستيعابهم لها، أنّها تفرض الواقع على أطراف اللعبة السياسية ولا تكتفي بالتفاعل السلبي والاستجابة المتكررة لما تفرضه تلك الأطراف من واقع آخر وفق أغراضها هي وليس وفق أهداف الثورة.
ما كان حتى الآن يمثل صورا مفجعة مرتبطة بكلام المتكلمين عن نزاعاتهم، مقابل صورة الطاغوت وهو يقوم بزيارته الاستعراضية لمدى همجيته الدموية المدمّرة في بابا عمرو على الملأ، فلا غرابة أن يتساءل المخلصون بتشاؤم: هل يمكن لهذه المعارضة الضعيفة أن تسقط ذلك الطاغوت الصغير؟
ولكنه تساؤل في غير مكانه، لا يبيح التشاؤم، فليس مجهولا على الإطلاق أن هذه المعارضة الضعيفة لا يمكن أن تسقط ذلك الطاغوت الصغير، المحصّن بهمجيته العسكرية، ولكن يسقطه الثوار، بتضحياتهم، وبطولاتهم، بأطفالهم وشيوخهم ونسائهم، باستمرارية ثورتهم البطولية لأكثر من عام استمرارا أذهل العالم، أجسادا تتحدى الدبابات، وحناجر تكبّر وسط دوي القذائف، وضمائر تستيقظ على التوالي فيرفض أصحابها المشاركة في ارتكاب الجريمة وينحازون من جبهة الطاغوت إلى جبهة الحق.
سيسقط الثوار بقايا نظام العصابات المسلحة مع إضافة عنصر حاسم هو قوة السلاح إلى قوة التضحيات البطولية، ومع ازدياد العمل من أجل ظهور قوة سياسة ثورية تقود ولا تُقاد، تضاف إلى قوّة الإبداع الثوري المدني المتألّق طوال أكثر من ١٢ شهرا مضت.
إن ما نشر حالة من القلق في فترة دخول الثورة عامها الثاني هو في الدرجة الأولى القلق تجاه المتغيرات في مسارها، والمقارنة غير المقصودة بين هتافات “سلمية سلمية” في شهرها الأول وانتشار الدعوة إلى حمل السلاح في أول شهور عامها الثاني. لم تستقر بعد النظرة إلى مجرى الأحداث هل هو انتكاسة وفق ما أراده نظام العصابات المسلحة ليحّول الثورة إلى معركة بين طرفين مسلحين غير متكافئين، أم أنه تطور يعطي الثورة قوّة إضافية لتحقيق هدفها بوسائل إضافية.
لا ينبغي الاستغراق في محاولة الإجابة على هذه التساؤلات، ولا في محاولات تبرير وتسويغ في إطار جدل لا قيمة له ولا طائل من ورائه، إنّما ينبغي تحديد رؤية الوضع الآني كما هو، للتعامل معه في الاتجاه الصحيح، وهذا الاتجاه الصحيح لم يتبدل: إسقاط الاستبداد بجذوره وفروعه، وتحرير إرادة الشعب تحريرا ناجزا لإعادة بناء المجتمع والدولة.
إن دخول عنصر العمل المسلح يعطي مسار الثورة شكلا جديدا ومحاور جديدة للعمل الثوري، مما يطرح عددا من الأسئلة البالغة الأهمية، ومنها:
١- هل تتحول قيادة الثورة من أيدي القائمين على فعاليات شعبية سلمية في أحياء المدن والأرياف، إلى أيدي القائمين على الجناح المسلح وتوجيه عملياته العسكرية، أم ينبغي إيجاد صيغة جديدة تجمع بين ميزات هذا وذاك معا؟
٢- هل يبقى مسار العمل المسلح مقتصرا على الدفاع عن الفعاليات المدنية السلمية أم ينبغي أن يتحول في اتجاه ضربات وقائية تشل قدر الإمكان عصابات النظام المسلحة قبل تعرضها للفعاليات المدنية السلمية، وما الذي يحتاج إليه هذه الجناح المسلح للثورة لأداء مهمته؟
٣- ما الذي ينبغي صنعه كيلا يخرج الجناح المسلح مستقبلا من مسار الثورة إلى موقع محاولة السيطرة على الثورة وحصيلتها، ومن مرحلة السعي للتنسيق والتنظيم إلى مرحلة قد يصنعها النصر فتصبح مرحلة التشرذم والخلاف والنزاع؟
٤- بعد ما شهده العام الأول من الثورة من تجاذبات ونزاعات على مستوى العمل السياسي المعارض، بين داخل وخارج، ومنظم وغير منظم، وإسلامي وعلماني، ما السبيل الآن إلى عمل سياسي يواكب الوضع الجديد لمسار الثورة، بالارتفاع إلى مستواها المتألق العالي؟
٥- بتعبير آخر: كيف يظهر عمل سياسي ثوري لا يقتصر على طرح الثورة طرحا سياسيا على المستويات الشعبية والإقليمية والدولية فقط، بل يتمكن في الوقت نفسه من الحيلولة دون توظيف احتياجات الثوار المدنيين (الإغاثة) واحتياجات الثوار المسلحين (السلاح) لتحقيق أغراض سياسية أنانية، وليس أغراض الثورة؟
إنّ أوضاع المعارضة التقليدية تستدعي – في أفضل الأحوال- القول: لا يوجد ما يتناقض مع الاطمئنان إلى أن هذه الثورة الشعبية البطولية الطويلة الأمد ستحقق النصر، أولا بأن تسقط الطاغوت وملئه، وثانيا بأن تمحّص أعوان الطاغوت، الظاهرين والمستترين، وثالثا أن تمحّص من يريد أن يمتطي الثورة، بدلا من خفض جناح الذل لها ويسير في ظلها ويعمل على دعمها لا دعم نفسه باسمها، وهنا يسري القول المعروف: لن يصحّ إلا الصحيح في نهاية المطاف، ولن يبقى إلى يوم النصر المحتم بإذن الله سوى المخلصين المؤهلين لنصر الله.
ولقد آن الأوان أن يظهر رغم المعيقات الداخلية ما يكفي من التنسيق بين جناحي الفعاليات المدنية والفعاليات المسلحة ليظهر الإنجاز الثوري متكاملا وفعالا.
ويجب في الوقت نفسه أن يتحرك المخلصون من وراء كل تنظيم قائم، قديم أو جديد، ورغم كل عائق حقيقي أو مصطنع، لتشييد كيان سياسي ثوري منطلقه الثورة، وميثاقه الثورة، ومعيار الإخلاص لديه الثورة، وأهدافه أهداف الثورة، ولا يضع يده في يد أي إنسان أو طرف أو جبهة إلا في خدمة الثورة ومن أجل انتصار الثورة، وليكن هؤلاء المخلصون على ثقة أنّ شعب الثوار قادر على التمييز بين ساسة الثورة الصادقين وسواهم.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب