مختارات – كيف تساهم في نهضة أمتك – بقلم غياث بلال
أربعة محاور بسيطة في طبيعتها ويسيرة التطبيق وعظيمة الأثر وهي في متناول كل واحد منا
ــــــــــ
المحتوى
النهوض
١- التركيز على الكليات وترك الخلاف على الجزئيات
٢- التركيز على عوامل الوحدة ومحاربة عوامل التفرقة
٣- التركيز على قيم المبادرة والتفوق في العلم والعمل ومحاربة التواكل والسلبية
٤- التركيز على التميز في الأخلاق والجوهر لا في المظهر والشكل
وبعد..
إن حالة التردي الحضاري التي وصل إليها عالمنا الإسلامي اليوم لا تخفى على عاقل. فأغلب دوله تقع في ذيل القوائم التي ترصد نسب النمو الحقيقي والتطور الاقتصادي والتقني والحكم الرشيد وكل ما يمتّ إلى التقدم والمدنية بصلة، وذلك في نفس الوقت الذي وصلت فيه أعداد المسلمين إلى أرقام غير مسبوقة من الازدياد العددي والانتشار السكاني، مما يستخدم كدليل على ضعف فعالية الفرد المسلم، وانخفاض إنتاجيته مقارنة بأقرانه من مواطني الدول التي تحتلّ رأس تلك القوائم، أو على الأقل فإن إدارة دول العالم الإسلامي لمواردها البشرية والمادية تعوزها الكفاءة والفعالية في سياق المقارنة نفسها.
وممّا لا شك فيه أنّ كل مسلم يفخر بانتمائه لهذه الأمة يشعر بالألم والأسى لهذا الحال ويفكّر ويتفكّر بالسبيل الأمثل للإصلاح والنهوض الذي يعيد الأمة إلى مكانها السليم في المقدمة بين الأمم، وهنا يحار كلّ منا من أين يبدأ، وتختلف التصورات حيث تصطدم في معظمها بالعوائق الكبار التي تستعصي على جهود الأفراد أو تحتاج إلى جهد جماعي منظم فعال غير متوفر ولا يسهل تحصيله، وبالتالي يشعر المرء أنه قليل الحيلة أمام حال الأمة وكأنها تدور في حلقة مفرغة لا خروج منها، فنعود إلى نفس النقطة، ويقعدنا العجز عن العمل فنبقى نراوح في المكان بدون أيّ تقدم فعلي يُذكر.
النهوض
فيما يلي أودّ أن ألخص تجربة شخصية في الإجابة على هذا السؤال في خطة عمل فردية يستطيع كل فرد منّا أن يقدّم من خلالها، من موقعه وفي حدود إمكانياته ما يستطيع، في سبيل دفع عجلة النهوض المنشود وتحقيق تقدّم ملموس على صعيد الفرد نفسه، ومن ثَمَّ في الدوائر المحيطة به تباعا: الأسرة والأصدقاء والزملاء.. إلخ.
وقبل الدخول في تفاصيل برنامج العمل يجب الاتفاق على تعريف هذا النهوض الذي يسعى كلّ منا أن يدفعه ويكون له من أجره نصيب، لذا لا بد من الإشارة إلى النقاط الثلاثة التالية:
أولا: النهوض الحضاري يكون عادة نتيجة ارتقاء فكري لدى شريحة واسعة من أفراد المجتمع يؤدّي بدوره إلى تغيير اجتماعي عميق ينجم عنه تطور وصعود في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية.
فالنهضة الأوروبية بدأت مع تبنّي فلاسفة الغرب لفلسفة ابن رشد وابن حزم وصوفية ابن عربي وأفكار ابن سينا والرازي في البحث العلمي وغيرهم من علماء المسلمين في القرون العاشر والحادي عشر والثاني عشر الميلادية. ثمّ استغرق إنتشار هذه الأفكار والفلسفات الجديدة التي حملت رياح التجديد في أوروبا حوالي ٢٠٠ عام كي تؤتي ثمارها على هيئة تغيّرات اجتماعية بنيوية عميقة في المجتمع الأوروبي، كي يبدأ بعدها عهد التنوير والذي يعتبر بداية عصر النهضة في أوروبا.
وبالتالي أودّ أن أشير إلى أنّ النهوض الحضاري يبدأ بتبني نخب المجتمع وعموم أفراده الفكر الحامل لبذار النهضة، وعملية التغيّر الاجتماعي التالية هي عملية معقدة وطويلة قد تستغرق جيلا أو أجيالا وذلك وفقاً لسرعة الانتشار الأفقي لفكر النهضة وتبنّيه من قبل الأفراد والجماعات والعمل لأجله من الناحية العملية، وفي هذا الإطار يأتي فَهْم الآية الكريمة: {إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.
ثانيأ: العمل على نهوض الأمة وإحيائها لتستعيد دورها هو مسؤولية فردية أمام الله. فكما ورد في الحديث الشريف سيقف كل منّا بين يدي الله ويُسأل عن وقته مرتين: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه. فالاعتذار بالظروف وبالعجز وقلّة الحيلة هو أمر مقبول لبعض الوقت ولكنه عذر مرفوض عندما يرافقنا العمر كله، وقد استعاذ نبينا من العجز والضعف وقلّة الحيلة في أكثر من موضع. ومن هنا يجب على كل فرد مسلم أن يبحث من موقعه وفي بيئته وضمن حدود الإمكانيات المتوفرة لديه عمّا يقدّمه في سبيل إعلاء كلمة الحق وتحقيق أسباب النصر والنهوض، للخروج من دائرة العجز والجمود إلى حقل العمل الفعال. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّنا لسنا مطالبين بالنتائج، وإنّما بالعمل واتخاذ الأسباب، فإن رأينا ثمار جهدنا فهذا إكرامٌ من الله وإن لم نرَ فحسبنا أنّنا أدّينا الأمانة وقمنا بالواجب كي نلقى الله وهو راضٍ عنا. (قل اعملوا…).
كما أنّ التغيير الاجتماعي الذي يبدأ من قاعدة الهرم وينتشر أفقيّا أولا، هو الأقدر على البقاء والأبعد أثرا في تاريخ الأمم ولو تأخّرت نتائجه وكثرت صعابه، وانتشاره بعد ذلك عمودياً نحو القمّة سيكون نتيجة طبيعية يعوزها الوقت وإن طال بعض الشيء. أمّا التغييرات التي تُفرض من رأس الهرم فلا تلبث أن تذوي وتتلاشى حماساتها بعد حين أو أن تنتهي بموت صاحبها فلا يبقى لها من الأثر إلا الذكرى وبعض السطور في كتب التاريخ. فوظيفة الدول والحكومات في هذا المضمار هي توفير المناخ المناسب والتشجيع على العمل ولكن من العجز الانتظار حتى يتوافر هذا المناخ إن فُقد وبالتالي وجب العمل في كل البيئات بما أتيح من فرص وأدوات.
ثالثأ: إن لم يكن العمل من أجل النهوض واجبا دينيّا فهو اليوم ضرورة اجتماعية واقتصادية وسياسية وذلك من منطق المصالح المادية البحتة، كي نوفّر لنا ولأبنائنا من بعدنا مستقبلا أفضل من الذي ورثناه، ونبني لهم مجتمعا يتيح لهم فرص العيش الكريم والحياة العزيزة فلا يتسوّلون الدراسة والعلم والعمل والحرية وأجواء العيش الكريم خارج أوطانهم. وبالتالي فإنّ نهوض الأمّة الإسلامية لا يخصّ مسلميها فقط وإنما هو واجب كلّ من سكن هذه البلاد وعدّها وطنا له.
إن وضوح الهدف ومعرفة الطريق المؤدية إليه ثم المشي حثيثاً في تلك الطريق هي شروط موضوعية لنجاح أي مشروع جدّي ومشروع النهضة ليس استثناءً من هذه القاعدة. فإذا عرفنا أن نهوض الأمم يبدأ بنهوض أفكار أفرادها وأنّ الطريق إلى ذلك هو مسؤولية فردية تقع على عاتق كل فردٍ من أبناء الأمة وليست مسؤولية النخب وحدها، وأنّ العمل على النهوض بواقعنا ضرورة حياتية من منطق المصلحة العامة قبل أن يكون واجبا دينيا، وجب علينا أن نحدّد الخطوات اللازمة في خطّة عمل واضحة الأهداف، وممكنة الوسائل، قابلة للتطبيق على المستوى الفردي وفي كل بيئة وفي كل محيط، كي يتسنّى لنا بعد ذلك المشي حثيثاً في تطبيقها. وفيما يلي محاولة لصياغة خطة عمل ممكنة التنفيذ وقريبة من الواقع وبعيدة عن التنظير، قائمة على أربعة محاور لا أدعي أنّها كل الإسلام ولكنها الجزء الأهم الذي تقوم عليه قواعد سلوكنا الفردي في محيطنا والذي نملك التأثير به بشكل واع.
١- التركيز على الكليات وترك الخلاف على الجزئيات
لقد استطاعت أوروبا خلال القرن الماضي أن تتصالح مع نفسها وتضع حداً لتاريخ طويل من الحروب الدموية بين مذاهبها وعرقياتها لتبدأ بعد ذلك رحلة الدولة الحديثة والازدهار الذي عمّ فئات واسعة من مواطنيها، وحقّقت بذلك قفزاتٍ غير مسبوقة في المجالات العلمية والتكنولوجية. وجاء الاتحاد الأوروبي بين دولٍ مختلفة اللغات والمذاهب والأعراق تتويجا لهذه السياسة. وفي الوقت نفسه قامت نخبُ أمتنا الإسلامية وأنظمتها باستيراد أمراض الصراع الطائفي والنزاعات القومية والدينية وزرعتها بين أبناء الأمة الواحدة وحرصت على توفير كل الأجواء المناسبة لانتشار هذا المرض في جسم الأمة. كثيرا ما يردّد البعض مقولات مفادها أنّ تاريخ أمّتنا أسود ومليء بالحروب والدماء والمؤامرات وأنّ التاريخ المشرّف انتهى مع الخلفاء الراشدين. والحقيقة أن هذا الوصف ينمّ عن جهل عميق ونظرة سطحية تميل إلى التعميم. فالأمة الإسلامية كان لها تاريخان: حضاري وسياسي. أمّا الأول فعلوم الطب والفلك والرياضيات تشهد لتفوّقه وتألّقه وكان من صنع كافة المسلمين (عرب وترك وفرس وبربر وغيرهم). كما أنّ أوروبا ظلت قرونا تدرّس في جامعاتها المؤلّفات التي أنتجتها الحضارة الإسلامية. وأما التاريخ السياسي فقد كان مليئا بالمؤامرات والحروب لأجل الحكم ولكنذه خلا من الحروب الأهلية والطائفية والإثنية التي لم تعش أوروبا يوما بدونها. ووجود مئات الكنائس والمعابد وأبناء الديانات المختلفة في بلادنا اليوم يُعدّ دليلاً على ثقافة التسامح واحترام الآخر المختلف، حتى لو اختلفنا معه في أصل العقيدة والفكر. فما بالك بمن رضينا به أخاً في الإسلام واختلفنا معه بما دون ذلك؟
إنّ سلوك عامة المسلمين ونخبهم في القرن الأخير فيه تنكّرٌ واضح لتاريخنا وروح ديننا. فللإسلام أركان خمسة واضحة مَن أتى بها على حقيقتها كان مسلماً وله علينا حقّ الأخوّة وإن اختلفنا معه حول مسائل أخرى دون الكفر. كما أنّ المسلمين لم يكونوا لوناً واحدا خلال تاريخنا الممتدّ أربعة عشر قرنا، فتعدّد المذاهب والمدارس والاتجاهات الفقهية والعقدية بدأ منذ عهد الخلفاء الراشدين، وكلّ محاولات القضاء على هذه الأتجاهات لن تعمل إلاّ على تعميقها وتأجيجها. والمطلوب منّا اليوم هو التركيز على معنى التوحيد وعلى ثوابت الإسلام والتسامح مع الاجتهادات المختلفة من أجل توحيد الجهود وتقليل الجبهات. قليلٌ من الحكمة والتعقّل قد يوفّر كثيرا من الحروب والنزاعات التي تستنزف طاقات الأمة كلّ يوم. والتحلّي بالتسامح والتراحم الذي أمرنا الله بهما يحوّل الأعداء إلى أصدقاء أو يحيّدهم على أقلّ تقدير. فطريق النهوض لا يتحقّق إلا بتكاتف الجهود وتراكمها وترك توافه الأمور والتركيز على المشترك والتسامح فيما سواه.
٢- التركيز على عوامل الوحدة ومحاربة عوامل التفرقة
حقّق أعداء الأمة في القرن الماضي اختراقيين هامّين أوّلهما إسقاط الخلافة وثانيهما تقسيم الأمة إلى أقطار متصارعة بقيت ألعوبةً كأحجار الشطرنج في أيدي الأمم الأقوى. ولا زلنا نصف تلك الحدود بين أقطار الأمة بأنّها مصطنعة زائفة لا تمثل أكثر من خطوط مستقيمة لا تكاد تجد مثلها على خريطة العالم إلا في بلادنا. فالحدود الدولية تفصل عادة بين الثقافات واللغات أو الأديان المختلفة وتكون متعرجة وفق الخطوط الجغرافية الطبيعية. ولكنّ الحقيقة المرة أن الحدود بين أقطارنا قد تسربت إلى القلوب وسكنت العقول بوعي أو بدونه، فلا يلتئم مجلس إلا ورأيت العقل الباطن يبدأ بالتصنيف والتفريق فهذا سوري والآخر مغربي وذلك مصري وتراه يستحضر القوالب الجاهزة المصاحبة لهذا التصنيف. وإن دلّ هذا على شيء فإنّه يدلّ على أنّ تقسيم عالمنا الإسلامي قبل ٧٠ سنة بدأ اليوم يؤتي ثماره وأنّ الحدود المصطنعة باتت حدودا بين عادات وثقافات وأساليب حياة مختلفة وأخذت بالتباعد عن بعضها في شكل مطّرد مع مرور الزمن. والدعوات التي تسعى إلى تعميق هذه القطرية كي ترسخّها بشكل نهائي لا تخفى على أحد، كتبني اللهجات المحلية وترك اللغة الجامعة على سبيل المثال.
وبالتالي فإنّ أول ما يجب علينا فعله هو محاربة القطرية في أنفسنا أولا والتركيز على عالمية الإسلام وأخوّته. والحقيقة أن عوامل الفرقة كثيرة لمن يبحث عنها، فحتى داخل القطر الواحد ترى البعض يفرّق بين عربي وكردي وبربري أو بين شمالي وجنوبي أو حضري وريفي، ومعايير التفريق وأسبابه كثيرة قد لا تنتهي إن فتشنا عنها. وأود أن أشير هنا إلى أنّ تقسيم الأمة جاء بعد سقوط الخلافة، ولكنّ سقوطها كان نتيجة مباشرة لمعاول الفرقة الهدامة التي عصفت بالأمة قبل سقوط الخلافة، لتأتي خطة سايكس سبيكو في الشرق وخطة تقسيم البلقان في أوروبا كتتويج لنتائج هذه الفرقة. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة عسى أن نرجع إليها ونحاول إدراك معانيها ومقاصدها وتبنيها في حياتنا اليومية ومعاملاتنا مع الآخرين. وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا) وحبل الله إلينا هو الإسلام فإن إعتصمنا إلى قبلية أو طائفية أو عرقية أو غيرها مما كثرت إليه الدعوات ستوصلنا بالضرورة إلى الفرقة والضياع ولن تزيدنا إلا هبوطا.
٣- التركيز على قيم المبادرة والتفوق في العلم والعمل ومحاربة التواكل والسلبية
شعرت بالمفاجأة عندما علمت أنّ أول نسخة مطبوعة للقرآن الكريم باستخدام المطابع الحديثة لم تكن في عالمنا الإسلامي وإنما في هامبورغ عام ١٦٤٩م وأنّ “رجال الدين المسلمين” قادوا حملة احتجاجات لإغلاق وتدمير أول مطبعة عثمانية حديثة في عام ١٧٤٥م وقاموا قبل ذلك بتدمير أول مرصد للأبحاث الفلكية في اسطنبول عام ١٥٨٠م. والحقيقة أنّ هذه الأخبار ليست إلاّ غيضا من فيض الفهم الخاطئ للإسلام، وحصرِ العلم بالعلوم الشرعية ومحاربة علوم الدنيا والزهد فيها في مخالفةٍ صريحةٍ للأحاديث الشريفة التي حضت على إعمار الدنيا والسعي للتفوق والتميز في كل مجالاتها. فالعمل بالعلم وعن علم هو من صميم ديننا وعبادة يثاب الإنسان عليها والشواهد من ديننا تكاد لا تُحصى من كثرتها، أذكر منها على سبيل المثال ما ورد في البخاري في كتاب الجهاد أنّ النبي في المدينة أمر بإجراء “إحصاء” للمسلمين كي يستطيع التخطيط على بيّنة وعلم. والحقيقة أننا اليوم نعيش نتيجة هذا الجمود وهذا الفهم المنحرف للإسلام الذي ساد عالمنا الإسلامي لأربعة قرون خلت، فمن لا يملك الدنيا لا يملك إقامة دينه ولا يملك حتّى أسباب الحياة الكريمة، ومن لا يملك خطة يكون جزءا من مخططات الآخرين.
والحق أن الحضارة لا قيام لها إلا بالعلم. والتميز الإيجابي الذي يطالبنا به الإسلام لا يكون في شكل الملبس ولونه وإنما بالتفوّق بالعلم والعمل. وقد ورد في الحديث “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” والتفوق في مجال ما هو دليل الإخلاص في العمل وهذا هو غاية الإتقان. من المؤسف حقا أن ترى المسلم يزهد في بضائع بلاده ويسعى للحصول على ما صنع في الغرب ويدفع الأضعاف للحصول على بضاعة ألمانية أو يابانية وذلك ليس إلا لعدم توفر منتج محلي ذي جودة مقبولة عدا عن أن يكون متفوقاً أو حتى منافساً ومن المؤسف أكثر أنك حين تدعو لمقاطعة المنتج الغربي لا تكاد تجد له بديلا محليا، ومن المؤسف أن ترى الطالب المسلم يستغرق عمره في الدراسة الجامعية ويمضي بها أضعاف الوقت المقرر ليتخرج بدرجة مقبول وذلك بحجة استثمار الوقت في العمل الإسلامي وكأن تفوقه في الهندسة والطب والاقتصاد ليس من العمل الإسلامي!! ومن المؤسف أن تجتمع في الغرب بطلابٍ جاؤوا أو ابتُعثوا من البلاد الإسلامية للدراسة فتراهم أخمل أقرانهم وأكسلهم وما همّهم إلا الحصول على الشهادة وإن كانت ورقة من غير مضمون!! ومن المؤسف أن تراجع موظف حكومي أو غير حكومي عليه مظاهر الالتزام بالإسلام من دون أن ترى ذلك في سلوكه في عمله.. علينا أن ندرك أن المسلم إنسان مخلص لعمله ومتفوق به وأنّه إنسان إيجابي يتحلّى بروح المبادرة ولا يركن إلى السلبية التي لا تجتمع مع التفوق!! والحقيقة التي أود أن أشير إليها هنا هي أنّنا كلنا نملك العمل في هذا المضمار، فالطالب عليه أن يجدّ في دراسته لأنّ تفوقه فيها عبادة وخدمة لدين الله وعلى المهندس والطبيب والموظف وعلى كل مسلم أن يبدع ويتميّز في عمله لأنّ في تفوقه تحقيقَ تفوّق واستقلالية للإسلام ودفع مباشر لعجلة النهضة والتنمية في بلادنا، حتى لو لم يكن الفرد قادرا على رؤية هذا المعنى بشكل مباشر وعلى الفور، ولكن النتائج تتبلور في هذا الباب بشكل تراكمي، فكلّ منا مطلوب منه أن يخلص لعمله وأن يتفوق في مجاله.
٤- التركيز على التميز في الأخلاق والجوهر لا في المظهر والشكل
ورد في الحديث الصحيح: “إن من أحبّكم إلي وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا” وبالتالي لا يعجب القارئ من حقيقة أن الإسلام دخل وانتشر في أكبر بلدان العلم الإسلامي (اِندونسيا) بلا سيف أو رمح ولكن من خلال أخلاق التجار المسلمين الذين فهموا هذا الحديث وغيره وتمثلوا الإسلام سلوكا متميزا بالسمو والرفعة فكانوا كالمنارات بأخلاقهم يشار إليهم من بعيد. وكذلك وفي كل عصر يكون الانحطاط والتراجع سمته الأولى يضيع الجوهر وتبقى القشور.. فنجد بعض أبناء الأمة ممّن أراد التميّز وفتّش عنه، ولكنه ربما كان فاشلا في درسه أو مقصرا في عمله، كما أن أخلاقه ليست خيرا من أخلاق أقرانه، فتراه ينشد هذا التميّز بالملبس أو الشكل أو السمت الظاهر، وربما أحيانا بالفكر الشاذ لدى البعض الذين غلبهم حبّ الظهور، ولم يكن لهم حظ كافٍ في العلم الشرعي والوعي الإسلامي.
والحقيقة أن كل إنسان هو دعاية متحركة لأفكاره وعقيدته وبالتالي فإن الأخلاق الحميدة هي أفضل أنواع الدعوة المستمرة والصامتة وخير أشكال التميز. فكم من أجنبي في زماننا هذا اعتنق الإسلام بعد أن جمعه الله بناس كان سلوكهم مرآةً لأحكام الله، وكم منهم قد نفر من الإسلام لهول ما رأى من السلوك المغاير فألصق ذلك بطبيعة الدين الإسلامي، وخاصة إن كان صادراً عن أناس التزموا بالمظهر الإسلامي وغادروا الجوهر. وقد قال محمد أسد (النمساوي) ذات مرة: “الحمد لله الذي عرفني الإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين”.
وباختصار شديد فإن الالتزام بالأخلاق الإسلامية كما أمر الله ليس واجبا دينيا فحسب وإنما هو جهاز الدعاية والدعوة الأول في مسيرة النهوض الحضاري وصمّام أمان يمنع الدعوة من الذوبان في المحيط الفاسد والقيم المادية الدخيلة، ويحافظ على التميّز الإيجابي للإنسان المسلم في كل زمان ومكان. وبدون الأخلاق الإسلامية لا يمكن صناعة مجتمع يقبل بالإسلام حكما ومنهجا ولا يمكن الخروج من الأزمة الحضارية التي نعيشها.
وبعد..
هذه المحاور الأربعة بسيطة في طبيعتها لأنها تنطلق من بديهيات الإسلام، ويسيرة التطبيق إن اجتمعت الإرادة مع المثابرة، وعظيمة الأثر لأنّها تهدف إلى تغيير النفس أولا. وهي في متناول كل واحد منا قبل كل شيء.
من المفيد الإشارة إلى أنّ الأجيال المسلمة قد استفادت من ثورة الاتصالات والتكنولوجيا في العقود الثلاثة الأخيرة ممّا قرّب بين أبنائها رغم الحدود الجغرافية ورغم كل محاولات التمزيق الثقافي والسياسي، ممّا ساهم بالتالي في خلق فكر ومذاق عام مشترك يدركه الشامي في المغرب ولا يخطئه المغربي في دمشق أو عمان أو القاهرة وإن طغت مظاهر التغريب -وإن كانت بنسب متفاوتة- على السطح لأسباب عديدة. كما أنّ ظاهرة الصحوة الإسلامية استفادت بدورها من التقنيات الحديثة كي تنتشر في كل العالم الإسلامي من المغرب إلى الصين ومن إندونسيا إلى قازان وإن إختلفت أشكال ظهورها وشدّتها بحسب البيئة. وكي نستطيع قطاف ثمار هذه الصحوة وتحويلها إلى نهضة شاملة علينا ترشيدها بروح الإسلام الوسطي من خلال المحاور السابقة الذكر على مستوى الأفراد، وكذلك علينا توحيد الجهود والطاقات من خلال الإفادة من الثورة العلمية في مجالي الإدارة والتخطيط كي نتمكّن من تحويل الأفكار إلى أفعال سليمة ذات أثر مستدام وذلك بشكل منهجي مدروس وبعيد عن الانفعال والارتجال.
والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
غياث بلال