متى نطفئ حريق الأقصى؟

الحريق الأكبر من حريق مبنى المسجد يوم ٢١ / ٨ / ١٩٦٩م

خواطر – لا تأبهوا يا جيل المستقبل بما يخلفه الصَغار والهوان وارتفعوا بأنفسكم واسلكوا الطريق إلى العلياء

66
انتفاضة الأقصى

تحليل

ما زال المسجد الأقصى المبارك يعاني من الأسر والاحتلال منذ ٢٨ صفر ١٣٨٧هـ و٦ حزيران / يونيو ١٩٦٧م..

ما زال المسجد الأقصى المبارك يعاني من ألسنة النيران فيه منذ ٨ جمادى الآخرة ١٣٨٩هـ و٢١ آب / أغسطس ١٩٦٩م..

ما زال المسجد الأقصى المبارك أسيرا يحترق، لأننا نعيش تاريخا غير تاريخه وتاريخنا، ونستشعر وجوده في عالم يُصنع لنا ولا نصنعه، ونتعامل مع مستقبلنا بمعزل عنه -إلا كلاما- فلا ندرك أن مكانه فيه محوري مصيري من أجل مستقبلنا..

أفلا نرصد مثلا كيف نتحدث عن ذكرياتنا مع الأقصى بمعزل عن جوانب أخرى من حياتنا اليومية والفكرية والثقافية والحضارية والرسمية وغير الرسمية، جنبا إلى جنب مع وصفه بأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله من البيت الحرام ومعراجه صلى الله عليه وسلم من جدار البراق فيه إلى السموات العلى؟!

أفلا نرصد أننا حوّلنا أسر الأقصى وإحراق الأقصى إلى ذكريات مثلما حوّلنا مختلف الأحداث في فلسطين وسواها إلى مجرد ذكريات، من نكبة إلى نكبة، ومن هزيمة إلى هزيمة، ومن عدوان إلى عدوان، ومن مذبحة إلى مذبحة؟!

والفارق كبير.. فالذكريات تأتي وتمضي، مرة بعد مرة، عاما بعد عام، احتفالا بعد احتفال، ونواحا بعد نواح، أما الأحداث فهي التي نصنعها بأنفسنا أو تُصنع لنا، وكما استمرأنا إحياء الذكريات، برتابة روتينية، وتكرار ممجوج، استمرأنا أيضا الانتظار أن يُصنع لنا وبنا وبأرضنا وبمقدساتنا وبأهلينا وبقضايانا مزيد من الأحداث، ليقتصر دورنا من بعد إلى تسجيلها في مفكرة الذكريات، وقد ضاقت بها!

. . .

نحن الذين نأسر الأقصى بقيود نكبل بها أيدينا وأرجلنا ونفوسنا وإرادتنا وعزائمنا وطاقاتنا، من قبل أن يؤسر المسجد المبارك ومن بعد، ولم تكن جريمة احتلاله مع شرقي بيت المقدس وباقي فلسطين وبعض ما حولها بالقوة الغاشمة، إلا نتيجة مباشرة ومحتمة لجرائم ارتكبناها من قبل في التعامل مع جريمة احتلال غربي بيت المقدس وأرض النكبة الأولى.. وإن الاستمرار على هذا الطريق يعني أن ننتظر المزيد من الضياع والنكبات!

نحن الذين فصلنا ما بين الأقصى المبارك، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وفصلنا ما بين الأرض المباركة، مهد الأنبياء والرسالات السماوية، وبين سائر المسلمين من أقصى الأرض إلى أقصاها، ما بين تركستان الشرقية الآسيوية والبلقان الأوروبية وسورينام الأمريكية الجنوبية، بل وفصلنا بينه وبين أنصار الحق والعدل والحرية من مختلف الانتماءات والأجناس بعد تضييع انتمائنا وأنفسنا!

نحن من حشرنا الأقصى وقضية فلسطين برمتها في نطاق منظمة “تحرير” فلسطينية، لنحولها عاما بعد عام إلى منظمة تسوية وتسليم وتصفية، ونتحول معها إلى أرقام.. إلى ضحايا ومشردين وسجناء وسجانين وأجهزة قمع وملاحقين وحملة رايات خاوية إلا من العويل والفساد، ورسل “سلام ومحبة وتسامح وحضارة” على عتبات شياطين الحرب والعدوان والاغتصاب وانتهاك الحقوق والمحرمات والمقدسات!

نحن الذين نكبل المسجد الأقصى بأغلال الحرص على قصورنا وأكواخنا، وبيوتنا ورواتبنا، وأنفسنا إن بقيت لنا أنفس، وثرواتنا في مصارف تتحكم بأمرنا ولا نملك من أمرها شيئا، والحرص على فضائياتنا التي أبدعنا فنون تقويض أنفسنا من خلالها، ولم نبدع في إطلاق أقمار تسكنها ولا تقنيات تشغلها.. أضعافَ أضعافِ الحرص على كرامتنا وتحررنا وإرادتنا وأقصانا وشعوبنا وقضايانا!

نحن الذي نعتقل المسجد الأقصى بأغلال يصنعها ضرب أنفسنا بأنفسنا، والاعتياد على ضرب مقدساتنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا!

نحن الذي ندمّر أحجار المسجد الأقصى المبارك وأسسه وتاريخه ومستقبله بالقذائف والألغام والمتفجرات، ما نزرع منه داخل أرضنا ليحصد أرواح بعضنا، وما نزرعه لاغتيال مستقبلنا عبر الأمركة والتغريب الأدبي واللغوي والعلمي في جامعاتنا وعقول شبابنا، بحثا وتدريسا وتربية، وعبر تشويه براءة أطفالنا والطعن في مستقبل ناشئتنا ألعابا ودروسا وأفلاما، وعبر تعديل مناهجنا على الطريق إلى “جحر الضب” الذي نشتم في خطبنا واحتفالاتنا الساعين إليه ونحن ماضون نحوه هرولة وزحفا!

نحن الذي نحرق قلب المسجد الأقصى وبواباته وساحاته ومصلياته وأروقته ومنابره ومحاريبه وأسواره، منذ أُضرمت النيران بمنبر الزنكي والأيوبي فيه، فأسسنا منظمة مؤتمر إسلامي ضخمة عتيدة، لننقل من خلالها نزاعاتنا الثنائية والحدودية على أتفه المطامع وأهونها إلى “مستوى عالمي”، وأسسنا من أجله “لجنة القدس الشريف” لنستعرض من خلالها مواتنا وموات كلماتنا في بياناتنا وفي مواقفنا وفي سكوتنا واستخذائنا!

نحن الذين نعتبر أنفسنا مسلمين عقيدة وقيما وسلوكا أو مسلمين تاريخا وحضارة وثقافة، نحمل المسؤولية عن كل مسجد وذرة تراب ونبضة قلب ما بين المشرقين، وعن كل كنيسة وكل إنسان وكل قطرة دم ما بين المغربين، ونحمل المسؤولية عن نوائبنا ونكباتنا بعد أن تحوّلنا إلى أناس يتدافعون المسؤولية ويتقاتلون، ويرتضون التعلق بأذيال أعدائهم ويستنسرون على بعضهم بعضا، ويتهاوشون بالرايات والانتماءات، ويتعملقون بالعنتريات متفاخرين بسيوف صدئة، أو مدّعين العبقرية في مسيرة تسليم تعلن “نهاية عصور الإيديولوجيات والحروب”.. إلا ما كان منها ضدنا، لاحتلال أرضنا، والعون على احتلال أرضنا.. وما كان منها ضدنا، لخنق المقاومة فينا بأيدينا ومعابرنا وبعض منظماتنا ومبادراتنا وقممنا وحضيض سياساتنا.. وما كان منها ضدنا، لكسر إرادتنا حصارا وتجويعا، وملاحقة وترويعا، واستبدادا وفتكا وبطشا، واستعراضا مذهلا لثنائية رهيبة تجمع بين العجز عن صنع صغار الأمور وكبارها سلما أو حربا، وبين التشبث بكرسي الجلاد وسياطه لحماية أعدائنا من غضب شعوبنا ونقمتها!

. . .

إذا كنا نريد حقا لا تدجيلا تحرير المسجد الأقصى المبارك من الأسر فلنحرر أنفسنا من أنفسنا وإرادتنا من أغلالنا فذاك هو الطريق إلى الأقصى وكنيسة المهد، وإلى كل مسجد وكل كنيسة، يئن وتئن مع مرور السنين من احتلال أجنبي أو استبداد داخلي!

إذا أردنا حقا لا كذبا وادّعاء وتدجيلا إخمادَ الحريق المستمر في المسجد الأقصى المبارك وحيثما امتد لهيب ألسنته من قلب فلسطين إلى الشاشان وأفغانستان والعراق والصومال والسودان وغيره.. فلنخمد نيران الفتن التي نشعلها بين عرب وأكراد وأمازيغ وأتراك وإيرانيين وباشتون وأوزبك، وبين عرب عاربة ومستعربة ومستغربة، وشيعة وسنة، وطوائف وجماعات وأحزاب.. ولنخمد نار الفتن بين حاكم لا يملك سلطته ولا قراره ومحكوم لا يملك إرادته ولا حريته، وبين تيار منهزم وتيار مهزوم!

إن كلماتنا في كتبنا ومقالاتنا ومؤتمراتنا، ومواقفنا في بياناتنا وتصريحاتنا، والقضبان والتعذيب في معتقلاتنا، ومواقعنا الشبكية ووسائل إعلامنا، والضياع الشامل للصغير والكبير من منظماتنا و”اتحاداتنا” ومن قممنا ومؤسساتنا.. جميع ذلك يوقد من النيران ما هو أشد لسعا وإيلاما وأبعد عاقبةً وإجراما بحق أنفسنا وبلادنا وشعوبنا ومقدساتنا، حتى من لهيب معاول الهدم والتجريف تحت الأقصى وحوله، ويطلق من القذائف في صدورنا ونحورنا ما هو أخطر وأمضى مفعولا من قذائفَ مسلطة على الأقصى والأرض المباركة من حوله، وما بين النهرين وما بين جبال الهندوكوش، وما بين قرى الصومال ومياهه، وفي غرب السودان وجنوبه، وفي كل أرض ابتُليت بنا كما ابتليت بأعدائنا.

. . .

لن تتوقف جرائم صهيون وجرائم كل عدو مع صهيون أو بمعزل عنه، ولن تنقطع.. إنما هم جميعا -إن صدقنا مع أنفسنا- لا ينالون شيئا منا إلا بمقدار ما يمكّنهم ما نصنعه بأيدينا أولا.. فلنطهر أيدينا من آثامنا، ولننظر آنذاك فقط، كيف يبدأ العد العكسي لما يصنعونه من أحداث، لننسج من خلاله ما ننسج من ذكريات، نذرف فيها دموعنا مع ما نسفك من دمائنا ونسكب من مداد أقلامنا، ونحن نزعم أننا نستفيد (!) من الدروس، دروس النكبات والحرائق والهزائم في ديارنا!

تمضي العقود على ذكريات الأسر والحريق.. كان بعضنا طفلا وشبّ عن الطوق، وكان شابا وصار هرما، وكان من منظماتنا وأحزابنا وتياراتنا ما نشأ لتوه رافعا صوته، وتمزّق وهمد وخمد صوته، وسوف نرحل مع سكوتنا وصراخنا، وقصورنا وجهودنا، ومع ذكرياتنا ونكباتنا.. وسيبقى المسجد الأقصى المبارك وستبقى فلسطين، وتبقى القضايا المصيرية، وستجد من يصنع لها ما لم نصنع، ومن يحمل المسؤولية عنها كما لم نحمل، ومَن يتجاوزنا ويتجاوز إرثنا الثقيل خلافا وعنادا، وجهلا وتعصبا، وصراعا وتخاذلا، ومن يمضي على درب المقاومة والتحرير والنهوض والبناء، وهناك يكمن الأمل الحقيقي، في جيل وصلت تباشيره إلى قلب الأقصى، وقلب فلسطين، وانتشرت في كل مكان بين المحيطات الثلاث.. إلى ذلك الجيل يتوجه الأقصى مناديا، وإلى ذلك الجيل نتوجه مع طأطأة الرؤوس معتذرين، أن كان في جيلنا عمالقة كبار وكنا صغارا، فتنكبنا المسير على طريق التوحيد والتحرير والمقاومة والتغيير.. فلا تأبهوا يا جيل المستقبل بما يخلفه الصَغار والهوان، وارتفعوا بأنفسكم وهاماتكم إلى العلياء، وما الطريق إلى العلياء إلا بالإيمان والعلم والعمل والصبر، والتنظيم والتخطيط والتطوير، والفداء والتضحية والعطاء.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وما النصر إلا من عند الله، ينصر من ينصره، إنه لقوي عزيز.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب