مؤتمر السكان العالمي في القاهرة

نشرت في جريدة الشرق القطرية يوم ١٥ / ٧ / ١٩٩٨م

رؤية تحليلية – أين يكمن الخلل في الواقع السكاني البشري؟

39

رؤية تحليلية

تقول إحصاءات الأمم المتحدة إن عدد سكان العالم وصل في الحادي عشر من تموز/ يوليو عام ١٩٨٧م إلى خمسة مليارات نسمة، وكان هذا سبب اختيار ذلك اليوم ليكون يوما عالميا للسكان. وتثار باستمرار قضية سكان العالم مع ضجة كبيرة، سبق أن وجدت التركيز عليها منذ انعقاد أول مؤتمر دولي عملاق بعنوان المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام ١٩٩٤م في القاهرة، وهذا مع الحديث المتكرر عن أرقام مرعبة كما يقولون؛ عن مولود جديد كل ثلاث ثوان أو ربع مليون إنسان يولدون يوميا في أنحاء الأرض ويحتاجون إلى طعام وغذاء وماء ودواء وكساء ومسكن؛ وغالب المواليد في الجنوب من الكرة الأرضية، أما في الشمال فيتناقص عدد سكان معظم البلدان بدلا من أن يتزايد.

الصمت بعد الضجيج

صحيح أن نسبة التسارع في زيادة تعداد البشرية قد انخفضت، ولكن جزئيا فقط، وما تزال هذه الزيادة في حدود ثمانين مليون نسمة سنويا، وربما تبقى على ذلك في المستقبل المنظور. ولم يكن هذا الانخفاض نتيجة تغيير يستحق الذكر في واقع الحياة البشرية وواقع الأسرة في المجتمعات المختلفة، فلا تقول الإحصاءات والتقديرات لدى هيئة صندوق سكان الأرض ما يؤخذ منه مثلا أن وسطي عدد الأطفال في الأسرة في البلدان النامية قد انخفض، أو أن الإقبال على الإنجاب في سن مبكرة قد اضمحل، إلا في عدد محدود من بلدان العالم، ومع ذلك فالبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي لسكان الأرض، تكيل المديح لما يُنفذ من إجراءات، وتؤكد أن تطور الزيادة البشرية لم يعد يثير القلق كما كان، وأنه يعتبر مستقرا بالمقارنة مع الارتفاع الملحوظ لوسطي عمر الفرد نتيجة تحسن مستوى الرعاية الطبية والصحية عموما.

إذا كان التغيير ضئيلا إلى هذه الدرجة بالمقارنة مع عام انعقاد القمة الأولى لسكان الأرض في القاهرة عام ١٩٩٤م، فما الذي جعل الضجة الكبرى التي رافقت تلك القمة تضمحل تدريجيا؟

يبدو أن انخفاض حدة مطالبة الدول الصناعية بالحد من الإنجاب في الجنوب يعود لعدة أسباب، منها:

١- في مؤتمر السكان العالمي عام ١٩٩٤م في القاهرة كان حجم النفقات التي قدرها المؤتمر لتمويل سلسلة من المشاريع لتنفيذ هدف الحد من الإنجاب، تعادل ستة عشر مليارا وخمسمائة مليون دولار، وتعهدت الدول الصناعية بثلث المبلغ والدول النامية بتوفير الثلثين، وذلك قبل حلول عام ٢٠٠٠م، ولكن صندوق السكان العالمي التابع للأمم المتحدة يقول، إن الدول الصناعية تراجعت عن تعهداتها في السنوات الخمس التالية لقمة القاهرة بشكل ملحوظ، فسددت مليارين بدلا من ٧ مليارات دولار، وبالمقابل قامت الدول النامية الأفقر بتأمين القسط الأعظم مما تعهدت به، وهو ما وصل خلال السنوات الخمس الأولى بعد قمة القاهرة إلى ٧ مليارات من أصل تسعة مليارات وخمسمائة مليون دولار، ولعل مقارنة الأرقام كانت من أسباب انخفاض الصخب من جانب الدول الصناعية.

٢- ولكن الأمر أبعد من مجرد الحياء بسبب التقصير، فالدول النامية التي أصبحت منذ زمن طويل تدفع للدول الصناعية سنويا، لسداد الديون القديمة، أكثر مما تحصل عليه من قروض جديدة، لم تكن تؤمن المال المطلوب لتمويل الانخفاض بعدد سكانها، إلا تحت الضغوط، فمن قبل انعقاد مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة بدأت الدول الصناعية في ممارسة سياسة إلزامية تربط بين تقديم القروض للدول النامية، وبين شروط جديدة، منها تنفيذ مشاريع الحد من الإنجاب، ودعم أوضاع المرأة بالمفهوم الغربي للكلمة، والأخذ بما تنادي به الدول الغربية تحت عنوان القيم ومعظمها في ميدان الأخلاق وتفكيك عرى الأسرة والإباحية في العلاقة بين الجنسين، وهذا ما يجري تنفيذه بهدوء دون ضجيج وصخب، بينما لم تحمل مقررات المؤتمر الدولي صفة الإلزام، إذن أصبح الامتناع عن الصخب مطلوبا، ليحل مكانه تحقيق الأهداف بهدوء، عبر العلاقات الثنائية المباشرة في الدرجة الأولى، لتتجنب ردود فعل الرأي العام، كما اتضح في تجربة مؤتمر دولي كمؤتمر القاهرة، ويعني ذلك الالتفاف على ردود الفعل الاجتماعية الصادرة عن الالتزام بقيم أخرى وعقائد أخرى في البلدان النامية.

٣- ومن أسباب تجنب الضجيج أيضا أن كل حديث عن سكان العالم يمكن أن يقترن بمزيد من الشكوى، من جانب الدول النامية، ومن جانب المنظمات العالمية المستقلة، ضد سياسات البلدان الصناعية التي أدت إلى ترسيخ الخلل القائم بين الشمال والجنوب على كل صعيد، بدلا من تخفيفه، ومضاعفة المخاطر المستقبلية الإضافية التي تنتظر الدول الأفقر من سواها، نتيجة ظاهرة العولمة بدلا من العمل على مواجهتها. وتكفي الإشارة على سبيل المثال، إلى أن وسطي الأعمار في العالم قد ارتفع فعلا، ووصل إلى أكثر من ٦٦ عاما، ولكن يعود هذا إلى ارتفاعه ارتفاعا كبيرا في البلدان الصناعية في الدرجة الأولى، وليس في البلدان النامية، بل يوجد في الجنوب ١٦ دولة، يقطنها ٣٠٠ مليون إنسان، انخفض فيها وسطي الأعمار بدلا من أن يرتفع، فاقترب من ٥٠ عاما، أي كما كان عليه عام ١٩٦٠م، عندما كان سكان الأرض في حدود ٣ مليارات نسمة.

محاور المشكلة

لم تكن مشكلة الزيادة السكانية في الماضي وليست هي الآن، مشكلة نقص في الماء أو الغذاء أو سوى ذلك من ضرورات الحياة اليومية، بمعنى عدم وجود ما يكفي البشرية منه على سطح الأرض، بل كانت وما تزال مشكلة الخلل الكبير في توزيع موارد الأرض، وسيطرة فئة محدود العدد عليها، وحرمان الفئة الأكبر منها، وهو ما كان ينعكس سـنة انعقاد مؤتمر القاهرة، في أن ١٥ في المائة من البشرية يسيطرون على أكثر من ٨٠ في المائة من الموارد الطبيعية في الأرض، وأن ٨٥ في المائة يعيشون من ٢٠ في المائة فقط،، ونصفهم في فقر مدقع، ولم يتغير هذا الوضع إطلاقا مع مرور الأعوام التالية، مثله في ذلك مثل معظم الوعود ذات العلاقة بتخفيف حدة هوة الفقر والثراء، والتخلف والتقدم.

ونشهد قدرا كبيرا من التهويل من شأن الزيادة السكانية في الدول النامية ولا سيما الإسلامية، عندما يقال (إن فيها ٩٠ في المائة) من أصل ٨٠ مليون نسمة يزيدون كل عام، هذا صحيح، ولكن يسكن تلك الدول النامية ٨٥ في المائة من سكان العالم، أي أن ٨٥ في المائة من البشرية ينجبون ٩٠ في المائة من المواليد، فما الذي يبقى من فارق ضخم عندما تكون المقارنة متكاملة العناصر؟

تستند الدراسات المستقبلية حول تعداد البشرية استنادا رئيسيا إلى وسطي أعمار الأمهات اللواتي ينجبن لأول مرة، وإلى وسطي عدد أطفال كل أسرة، وتتراوح نسبة الولادة قبل بلوغ الثامنة عشرة من العمر، بين واحد في المائة في اليابان، وثلاثة وخمسين في المائة في النيجر، وتتراوح نسبة الإجهاض ما بين ثلاثة في الألف بألمانيا وستة وثلاثين في الألف في الولايات المتحدة الأمريكية للنساء الشابات بين الخامسة عشرة والتاسعة عشرة من العمر، وما يزال وسطي عدد الأطفال في الأسرة في البلدان النامية في حدود أربعة أطفال.

وانطلاقا من هذه الأرقام وأمثالها تقول التقديرات إن عدد البشرية يمكن أن يزيد إلى ثلاثة أضعافه خلال خمسين عاما، أما إذا أمكن الهبوط بوسطي عدد أطفال الأسرة الواحدة إلى طفلين فقط، فستتباطأ هذه الزيادة، وقد يصل عدد سكان العام آنذاك إلى ثمانية مليارات نسمة عام ٢٠٢٥ م؛ والواقع أنه بلغ عام ٢٠٢٤م زهاء ثمانية مليارات وثلاثمائة مليون إنسان.

وترى الدراسات أيضا أن فئة الأعمار بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين من العمر، والتي تعد أكثر من مليار نسمة في العالم، هي التي ستقرر حجم الزيادة البشرية في العقود المقبلة، على حسب ما تختار لنفسها على صعيد الإنجاب المبكر أو المتأخر، وعدد الأطفال الذين ترغب الأسرة في إنجابهم.

ويكمن محور المشكلة في أن دعوات الحد من زيادة سكان الأرض أصبحت تطلب من دولة كمصر، أن تعمل للحد من الإنجاب، بينما تمارس الدول الصناعية سياسة توزيع الدعم المالي الرسمي بالمليارات وتشريع مزيد من القوانين لدعم إنجاب الأطفال، وبعملية حسابية بسيطة يتبين، أن كل مولود جديد في بلد كألمانيا، يستهلك بين ولادته ووفاته، من موارد الأرض، مثل ما يستهلكه ٦٥ طفلا يولدون في مصر، فعلى مصر إذن الحد من إنجاب ٦٥ وليدا، لتأمين ما يعيش منه مولود ألماني واحد.

لا يقتصر الأمر على هذا الوجه المادي للخلل، بل نزعم أن المطلوب هو ضرب القيم، وليس تخفيض عدد البشر فحسب، ويتبين ذلك في المثال التالي:

١- يقال عن الدول الإسلامية خاصة، إن ارتفاع المواليد ناجم عن الزواج في فترة مبكرة، والمقصود الزواج في مقتبل سن الشباب، والواقع أن هذا هو الموعد الطبيعي للحفاظ على العفة وتجنب الضغوط، أما تأخير الزواج عن فترة بلوغ أعمار فئة الشباب، فأصبح بابا من أبواب نشر الإباحية الجنسية، وقد أضيف إلى مطالب تحرير العلاقة بين الجنسين مطلب التوعية الجنسية المبكرة، أي ممارسة العلاقات الجنسية غير المشروعة مع تجنب إنجاب الأطفال.

٢- بالمقابل لا يعود انخفاض نسبة الزيادة السكانية الطبيعية في بلد غربي انتشرت الإباحية فيه، كالولايات المتحدة الأمريكية، إلى مسألة الزواج في هذا الموعد أو ذاك، فنسبة الحمل في سن مبكرة هناك، رغم عدم الزواج المبكر كما يسمونه، ليسـت منخفضة، بل تجاوزت ما يعادل ثلث الفتيات المراهقات بين ١٥ و١٩ عاما من العمر، وهذا رغم انتشار موانع الحمل على أوسع نطاق، وأصبح انتشارها هو السبب الرئيسي في عدم حمل الثلثين الآخرين، ولكن مواجهة مشكلة الحمل المبكر تتم عن طريق الإجهاض الذي يسجل في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى نسبة في العالم وبلغ أكثر من ٣٦ من كل ١٠٠٠ مراهقة في العمر المذكور، وبالتالي تبقى نسبة الزيادة السكانية منخفضة!

ليست المشكلة إذن مرتبطة بوجود منظومة قيم تشجع الإنجاب وأخرى تحد منه، بل هو التركيز على مسألة القيم في البلدان الإسلامية، فهو يستهدفها بحد ذاتها، لأغراض اجتماعية وثقافية وعقدية، بغض النظر عن مفعولها على صعيد التعداد السكاني وزيادته.

استبداد العولمة

إن هذه الزيادة الاعتيادية الطبيعية، ولا نقول: المرتفعة أو الكبيرة أو الفاحشة، في البلدان النامية، لا سيما الإسلامية تعود إلى نسبة الأطفال في الأسر، وتصل وسطيا إلى ٤ أطفال في الأسرة الواحدة، ولكن الحملة العالمية الغربية التوجيه، للحد من زيادة سكان الأرض، لم تتركز على ما يسمّى تنظيم الأسرة فحسب، بل كانت تدعو إلى إباحية العلاقات بين الجنسين، في سن مبكرة، وهو ما يكشف عن تناقض كبير، فمثل هذه الإباحية من شـأنها أن تزيد حالات الحمل غير الشرعي كما هو الحال في الغرب، فهي إذن دعوة إلى الإباحية والإجهاض، فأين هو الغرض الاقتصادي من الحملة الدولية في حدود ما  يربط الأمر بمستقبل الاحتياجات المعيشية للإنسان؟ أليس الأصح أن الغرض أصبح غرض عولمة الفساد والإفساد فحسب؟

الواقع هو أن المطلوب تحقيق عدد من الأهداف دفعة واحدة، في مقدمتها هدفان خطيران:

١- ضبط تطور الزيادة البشرية باتجاه معين، يضمن الحد من النسل في دول الجنوب، لا سيما البلدان الإسلامية، مقابل العمل على تشجيع النسل في البلدان الغربية.

٢- نشر أسباب الفساد والانحلال وتفكك الأسرة في الجنوب على أوسع نطاق، كما وقع في الغرب، لا سيما في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن الميلادي العشرين، حتى وإن أدّى إلى زيادة المواليد ثم محاولة مواجهة ذلك بالأساليب المتبعة في الغرب، ما بين تقنين الأوضاع الشاذة على صعيد العلاقات الجنسية بما فيها أوضاع المواليد غير الشرعيين، وبين انفلات الأمور على صعيد الجيل الشاب وقد بات يستبيح الإجهاض رغم تقنين الإباحية ورغم تشجيع النسل في الغرب.

وقد بدأت تظهر في الغرب بذور ردود فعل مضادة لظاهرة الإباحية، لا يتسع المجال للتفصيل فيها، ولكن ينبغي التأكيد أن محورها الرئيسي هو الإحساس بالأخطار التي تهدد كيان الأسرة، وتهدد من خلال ذلك وجود المجتمع نفسه، فتضعف مناعته الذاتية، وهو ما يراه كثيرون بمثابة أرضية تمهد لسيطرة فئات محدودة العدد، هي المستفيدة أكثر من سواها من ظاهرة العولمة، داخل نطاق الدول الغربية نفسها، حيث انتشرت ظاهرة الفقر جنبا إلى جنب مع انتشار ظاهرة تكوين الشركات والمؤسسات المالية العملاقة بأبعاد عالمية ترسخ هيمنتها على كل صعيد، لا الصعيد الاقتصادي والمالي فقط، في البلدان الغربية، وليس عالميا فحسب.

في الوقت نفسه لم يعد يوجد أثر يستحق الذكر للجهود التي قيل على امتداد عدة عقود، إنّها كانت تبذل لتخفيف هوة الفقر والثراء، والتخلف والتقدم، بين الشمال والجنوب، فحتى القروض الإنمائية التي كانت توصف بالسبيل الرئيسية لمساعدة الدول النامية، أسقطت من الحسابات الغربية، إلا في حدود ما يكفي لربط دولة نامية بدولة معطية، والمفروض أن تزيد حسب الأرقام الدولية، فقد كان ٢٠ في المائة من  البشرية يعيشون دون الحد الأدنى من الفقر، وارتفعت النسبة إلى ٢٥ في المائة، ثلثاهم، أي ٨٠٠ مليون نسمة، لا يجدون ما يكفي من الغذاء أصلا، كما أن ثلث البشرية لا يتجاوز وسطي دخل الفرد منهم دولارا واحدا في اليوم، وكان ذلك ما يشمل ٢١ في المائة قبل سنوات معدودة.

إن هذه الأوضاع مقترنة بانتشار ظاهرة العولمة هي المشكلة الحقيقية التي يجب العمل على مواجهتها عند النظر في أوضاع البشرية، وهي مشكلة نوعية، تتطلب من الدول النامية، لا سيما الإسلامية، مواجهتها على كل صعيد، في ميدان القيم وترسيخها، وفي ميدان التطوير اعتمادا على الإمكانات الذاتية أولا، وفي ميدان ربط الزيادة البشرية بالحفاظ على المجتمع من خلال الحفاظ على الأسرة، وكذلك في ميدان إزالة الخلل القائم في توزيع الموارد، داخل البلد الواحد، وفي إطار العلاقات بين الدول الإسلامية والنامية، فضلا عن مواجهة خلل الارتباط بالقوى الدولية اقتصاديا وماليا بما يخدم مصالحها على حساب المصالح الذاتية والمصالح الإقليمية.

وأستودع الله عالمنا وسائر سكانه ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب