كشمير الأرض المستهدفة تاريخيا

قضية كشمير التوأم الآسيوي لقضية فلسطين

ورقة بحثية – كشمير نموذج على خطورة التعامل مع قضايا بلادنا بمعزل عن بعضها بعضا

93

ورقة بحثية

المحتوى

كشمير أرض مشاع تباع بمليون دولار  – انطلاقة الجهاد للتحريرثوابت انتفاضة كشمير

لا يصحّ الاقتصار في النظر إلى قضية كشمير على أنها وليدة صراع باكستاني / هندي فحسب، أو أن القوى الدولية لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية تنحاز لصالح الهند لأسباب طارئة فقط، بل كانت كشمير في القلب من جنوب آسيا، كفلسطين في القلب من المنطقة العربية، مستهدفة من قرون عديدة، لتكون ساحة صراع محلي على خلفية الهيمنة الدولية التي كانت وما تزال تتطلع إلى إحكام السيطرة عالميا، وهذا ما يتطلب تجديد الوعي بتاريخ كشمير القريب، وما شهدته القضية من تقلبات وأحداث في هذه الأثناء.


كشمير أرض مشاع تباع بمليون دولار

مساحة كشمير (أو كما يقول اسم المقاطعة بكاملها: جامو وكشمير) ٢٢٢ ألف كيلو متر مربع تقريبا، تحتل الصين جزءا منها، وتحتل الهند ما يعادل ١٠٠ ألف كيلو متر مربع تقريبا، وفي هذه المساحة الضيقة نسبيا (أكبر من الأردن بقليل) يعيش أقل من ٨ ملايين نسمة (٢٠٠٨م)، من بينهم زهاء ٦ ملايين و٥٠٠ ألف مسلم، وقد نشرت الهند أكثر من ٨٠٠ ألف جندي هندي أي ما يعادل جنديا لكل عشرة أفراد من السكان، أو لكل ثمانية أفراد مسلمين من السكان، وتمثل النسبة المذكورة الوجود العسكري الهندي الدائم في أرض كشمير!

كانت ولادة المأساة الكشميرية يوم السادس عشر من آذار / مارس عام ١٨٤٦م، عندما عقدت الدولة الاستعمارية البريطانية في شبه الجزيرة الهندية “صفقة بيع” تجارية محضة، بقيمة توازي مليون دولار بالعملات المعاصرة، ومنحت بموجبها منطقة كشمير، الإسلامية بسكانها وتاريخها، والتي تعرف بسبب جمال طبيعتها بوصف سويسرا الآسيوية، إلى ثري هندي يدعى جولاب سنج، من عائلة دوجرا الهندوسية.

وإلى تلك العائلة نفسها كان ينتمي حكام منطقة كشمير عام ١٩٤٧م، أي بعد أكثر من مائة عام، عندما خرجت الجيوش البريطانية، ورافق ذلك قرار أن تكون تبعية الولايات التي خلفها الاستعمار لكل من دولتي الهند وباكستان المستقلتين، معبرة عن إرادة الغالبية في كل من تلك الولايات، وكانت غالبية سكان كشمير -وما تزال- من المسلمين، وقد أعربوا عن رغبتهم في أن تكون مقاطعتهم جزءا من باكستان، بينما ظهر سريعا أن حاكمها يريد أن يلحقها بالهند، فقامت ضده ثورة مسلحة، انتهت بالسيطرة على العاصمة سينغار، وإعلان حكومة كشمير الحرة فيها يوم ٢٤ تشرين أول / أكتوبر عام ١٩٤٧م، ولجأ حاكمها المتعاون مع الهندوس إلى دلهي الجديدة، فعقد مع حكومتها اتفاقا للحصول على دعمها العسكري مقابل إعلان تبعية كشمير للدولة الهندية، فأرسلت الهند ثلاثين ألف مقاتل إلى كشمير لفرض سيطرتها عليها، وقامت لاحقا الحرب الأولى بين الهند وباكستان، والتي انتهت بتقسيم المنطقة بين آزاد كشمير التي تعني كشمير الحرة تحت سيطرة القوات الباكستانية، وكشمير وجامو التي سيطرت القوات الهندية عليها.

وبغير قليل من السذاجة السياسية اطمأن المسؤولون الباكستانيون آنذاك ولاحقا، أكثر من مرة، إلى وعود الدول الغربية، وإلى القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، وكان أولها يوم ١٢ آب / أغسطس عام ١٩٤٨م، ويقضي بإجراء استفتاء حر على تقرير المصير في كشمير بكاملها، وتكرر ذلك في عدد من القرارات التالية، كما كان في عام ١٩٤٩م وعام ١٩٥٢م، وعام ١٩٥٧م. وجاء كل من تلك القرارات ردا على إجراء هندي لترسيخ السيطرة العسكرية والسياسية على كشمير، ففي عام ١٩٤٨م كان فرض السيطرة بالقوة العسكرية، وفي عام ١٩٥٢م كان إلغاء الحكم الذاتي في كشمير وجامو، وفي عام ١٩٥٧م كان الإعلان الرسمي عن اعتبارها ولاية هندية بحكم ذاتي مقيد، وهو ما يذكر بالتشابه إلى حد الانطباق الكامل على تعامل المنظمة الدولية مع الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وتعامله مع احتلاله العسكري للأرض الفلسطينية، ثم إعلانه مباشرة، مرة بعد أخرى، على ضم ما يستطيع قضمه منها.

وليس مجهولا كيف كان التعامل السوفييتي الداعم للهند دعما مطلقا والتعامل الأمريكي الذي لم تنقطع خلاله الضغوط على باكستان رغم دورها في مواجهة النفوذ السوفييتي لزمن طويل، وهذا ما لعب دوره في الهزائم العسكرية الباكستانية في الحروب التي نشبت مع الهند في أعوام ١٩٤٨ و١٩٦٥ و١٩٧١م، ولم تعلن باكستان وضع “آزاد كشمير” تحت إدارتها إلا عام ١٩٧٤م. وهذا ما يذكر أيضا بالوضع المعكوس الذي رافق الهزائم العسكرية العربية في الحروب التي جرت على ساحة قضية فلسطين، في حقبة الحرب الباردة والقول باعتماد الدول العربية على الدعم السوفييتي، فكان محدودا كالدعم الأمريكي لباكستان، مقابل الاعتماد الإسرائيلي على الأمريكيين وكان -وما يزال- بلا حدود، كالدعم السوفييتي في حينه للهند.


انطلاقة
الجهاد للتحرير

رغم مرور عدة عقود على اغتصاب جامو وكشمير لم يكن في استطاعة الهند في أي وقت من الأوقات فرض سيطرتها الفعلية على المنطقة وأهلها، ولم تكن قادرة على البقاء إلا اعتمادا على القوة العسكرية المحضة، وكان من الطبيعي ألا تنقطع ثورات الكشميريين لتحرير أرضهم، وكان معظمها بزعامة جبهة تحرير كشمير وجامو الإسلامية، التي كانت تقاتل بهدف استقلال البلاد. وفي عام ١٩٨٩م ظهرت منظمة حزب المجاهدين، التي نزلت الساحة بهدف ضم كشمير وجامو إلى باكستان، فوقعت جبهة التحرير بين نيران القوات الهندية ومقاتلي حزب المجاهدين، مما أضعفها وأفقدها دورها التحريري التاريخي، وظهرت في الوقت نفسه عشرات المنظمات الصغيرة الأخرى، وجمع اتحادُ منظمات باسم مؤتمر حرية كشمير الذي أسسه عمر فاروقي عام ١٩٩٣م بضع عشرة منظمة، كانت كبراها منظمة حزب المجاهدين.

ويبدو أن إعلانه في الربع الأول من عام ٢٠٠٠م عن هدنة لثلاثة شهور، قد جاء في حينه بإيعاز من الجانب الباكستاني، وعلى وجه التحديد بعد استلام برويز مشرف للسلطة بانقلاب عسكري، وتعامله من البداية مع كل ما هو إسلامي تعاملا عدائيا، اقترن بالتجاوب مع المطالب الأمريكية، التي رافقت في حينه زيارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون للهند وباكستان، وتركزت على الأخذ بما يعرف بخطة ديكسون، التي تقضي بإقرار حكم ذاتي في كشمير وضمان حرية التنقل بين سائر أجزائها التابعة للهند وباكستان.

وصحيح أن قادة حزب المجاهدين أكدوا أن المحادثات التي دخلوا فيها لبعض الوقت طرفا مع الحكومة الهندية، مشروطة بمشاركة باكستان من جهة، وبهدف التوصل إلى تقرير المصير بناء على قرارات الأمم المتحدة من جهة أخرى، إنما كان واضحا الاستعدادُ لقبول حل وسطي، ولكن المحادثات أخفقت في حينه بسبب اشتراط الهند أن تتم في إطار الدستور الهندي، وهو التعبير الذي تستخدمه الهند لتأكيد رفض التخلي عن الجزء الذي تحتله من كشمير، سواء باستقلاله أو بانضمامه إلى باكستان، وترفض بالتالي تنفيذ القرارات الدولية بشأن الاستفتاء على تقرير المصير.

ومنذ ذلك الحين كانت الهند تتحين الفرص للتحرك في ظروف مواتية ضد المجاهدين في كشمير وأنصارهم على المستوى الإسلامي داخل باكستان، بعد إخفاقها طوال الفترة الماضية عن تحقيق أهدافها العسكرية، وكسر شوكة المجاهدين، وهذا رغم عدم تعرضها لأي قدر يذكر من الضغوط الدولية -ولا من جانب الدول الإسلامية- بعد أن سبب بطشها العسكري في كشمير خلال بضعة عشرة عاما الأولى من عمر ثورة التحرير الأخيرة، سقوط أكثر من ثلاثين ألف ضحية من السكان المدنيين في الدرجة الأولى في كشمير.

وفي حقبة بوش الابن ومشرف كان يلفت النظر في التصريحات الأمريكية الرسمية توجيه الحديث إلى باكستان عند المطالبة بالتهدئة واتخاذ الخطوات اللازمة لمنع نشوب الحرب، رغم أن الحشود العسكرية بدأت من جانب الهند، وأن التهديدات بالحرب تصدر عنها، وأن التصعيد الأخير عبر سلاح البحرية كان من جانبها، وأنها على النقيض من باكستان ترفض الوساطات المعروضة من جانب الأمم المتحدة؛ إنما لا ينبغي الفصل بين هذا الموقف الأمريكي المنحاز بوضوح، وبين الإطار الذي تتحرك فيه السياسة الأمريكية في المنطقة تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب، فمنذ بدأت هذه الحملة وبدأت معها الاتصالات بباكستان للوصول إلى الأجواء والأراضي الأفغانية، كان التلويح بورقتين رئيسيتين للضغوط هما السلاح النووي مما يعني الوقوف إلى جانب الهند لإعادة الخلل في التوازن العسكري بين الطرفين، وقضية كشمير. وقد استجابت حكومة برويز مشرف للرغبات الأمريكية رغم المخاطر الداخلية والإقليمية، ولكن بقي تصعيد المطالب -على صعيد كشمير- باسم مكافحة الإرهاب من جذوره مستمرة، حتى لاحت في الأفق معالم وصول حكومة مشرف إلى خطر السقوط، فانعكس ذلك في بعض المواقف السياسية والعسكرية، لعل أبرزها رفض عبور القوات البريطانية للأراضي الباكستانية حتى اضطرت إلى استخدام طريق الجو في الحشد العسكري للحملات الأخيرة في شرق أفغانستان، وهو ما استمر بعد برويز مشرف.

ويبقى من الضروري ألا يغيب عن الأذهان، أن قضية كشمير ليست قضية ورقة ضغوط في الحرب الأمريكية الحالية، إنما كانت وما تزال قضية أرض إسلامية وشعب مسلم واحتلال عسكري ومقاومة، وأن لها جذورها التاريخية وواقعها المعاصر، وهذا ما ينبغي التأكيد عليه، من خارج المنظور الأمريكي، لا سيما وأن الانحياز الأمريكي إلى جانب الهند في قضية كشمير سواء وضع له عنوان مكافحة الإرهاب أم لم يوضع، لم يكن وليد عمليات التفجير في نيويورك وواشنطون وتداعياتها، وإنما كان وما يزال معلما رئيسيا من معالم ثابتة في تطور العلاقات الأمريكية بشبه القارة الهندية لصالح الهند باستمرار، وهو ما ازداد وضوحا للعيان بعد سقوط المعسكر الشرقي.


ثوابت انتفاضة كشمير

إذا استثنينا الاستعمار الاستيطاني القائم في تركستان الشرقية والغربية، لا نكاد نجد سوى فلسطين بلدا آخر يمكن مقارنته بالوضع في كشمير (التي تعادل مساحتها الإجمالية تسعة أضعاف مساحة فلسطين التاريخية)، ليس من حيث الوحشية الهندوسية المشابهة للوحشية الصهيونية فحسب، بل ومن حيث العمل على فرض احتلال أجنبي بالقوة العسكرية المحضة وبصورة متواصلة على مدى عشرات السنين دون انقطاع، مع تزييف ما تقتضيه الشرعية الدولية سواء في صيغة مبادئ وقواعد ثابتة في المصادر الأصلية للقانون الدولي، وحتى في قرارات مجلس الأمن الدولي التي تلتزم بها أحيانا ولا تلتزم أحيانا أخرى على حسب مدى التوافق أو التعارض بين تلك الثوابت القانونية الدولية وبين لعبة موازين القوى صانعة القرار في المجلس.

وكما يجري التعامل مع قضية فلسطين بالتركيز على الخلاف بين منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية من جهة وبين منظمات الجهاد للتحرير من جهة أخرى، والتركيز على اعتبار قضية فلسطين مشكلة إقليمية (شرق أوسطية) يجب حلها بحلول وسطية على الحدود والعلاقات المستقبلية، كذلك كان التعامل مع قضية كشمير عبر التركيز على الخلافات بين المنظمات العاملة فيها، والتركيز على اعتبار القضية مجرد مشكلة هندية-باكستانية يجب حلها عن طريق الحلول الوسطية ودون الالتفات إلى حق تقرير المصير الذي ثبتته المواثيق الدولية بل وقرارات مجلس الأمن الدولي أيضا.

وهنا يلعب الإعلام -بما في ذلك العربي والإسلامي- دوره في الترويج لتسوية سياسية على أساس بعيد عن التحرير، وسط ادعاء الشفقة بسبب معاناة أهل كشمير، والقول إنهم قد سئموا استمرار القتال زمنا طويلا، أو ادعاء أن الظروف الدولية الجديدة تحتم التراجع، وهو ما صنعه برويز مشرف بشكل واضح، ولا يبدو أن خلفه سيسلك طريقا آخر، مما يستدعي تثبيت عدد من المنطلقات والمعالم الرئيسية لهذه القضية المصيرية جنوب آسيا كقضية فلسطين المصيرية في المنطقة العربية، ومن ذلك:

١- قضية كشمير لا تختلف في جوهرها عن مشكلات معظم المناطق الإسلامية التي خلف الاستعمار الغربي فيها وضع احتلال استيطاني، وأن هذا الاحتلال قائم منذ عشرات السنين، وأنه مستمر اعتمادا على القوة العسكرية المحضة.

٢- الوضع الراهن وضع مخالف لمبادئ الشرعية الدولية بصورة مباشرة لا غموض فيها، وهذه الصفة لا تزول عن هذا الوضع بتقادم الزمن، ولا بفرض حلول وسطية بعيدة عن ممارسة حق تقرير المصير ممارسة حرة غير مشروطة وغير خاضعة للضغوط الدولية والإقليمية.

٣- المطالبة بحل وسطي في كشمير كبديل عن الاستقلال وحق تقرير المصير، كالمطالبة بحلول وسطية في فلسطين بعيدة عن التحرير الكامل، أو حلول وسطية في الشاشان وجنوب الفيليبين وسواها من المناطق التي تلتقي عند قاسم مشترك، هو التقاء القوى الدولية على انتهاك الحقوق الثابتة تاريخيا، والمشروعة دوليا في هذه المناطق، وهو ما يتبين سريعا عند المقارنة مع التعامل الدولي المعاكس في مثل قضية تيمور الشرقية وفصلها عن إندونيسيا، مع عدم إغفال حالة كوسوفا الاستثنائية، ولا مجال للتفصيل في ذلك.

٤- لا يمكن اعتبار التحريك المفاجئ لهذه القضايا في اتجاه التصفية في محاولة بعد أخرى، من قبيل المصادفات السياسية، إنما هو نتيجة مباشرة للصيغة الدولية الناجمة عن نهاية الحرب الباردة، والماضية في اتجاه ترسيخ نظام عالمي جديد، لم يعد يخفى فيه طوق الحصار وتضييق نطاقه حول المنطقة الإسلامية، والمساعي المتزايدة كثافة وعمقا للهيمنة على دولها وشعوبها، سواء اتخذت صيغة انفرادية أو متعددة الأقطاب.

٥- من أكبر الأخطاء التي نرتكبها في بلادنا هو الفصل ما بين هذه القضايا، والتعامل مع كل منها بمعزل عن الأخرى، وربط العلاقات بالقوى الدولية بأرضية مصالح ثنائية بدلا من المصلحة العليا المشتركة، وبظروف إقليمية أو محلية بدلا من النظرة الاستراتيجية الشاملة، ناهيك عن المضي في سياسات التفرقة والنزاعات والخلافات، المانعة من تحقيق الأهداف الجزئية والأهداف المشتركة على السواء.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب