قافية – سـتون عاما

قد لا يُقدّر لي أن أراها وأعيش فيها من جديد.. إنّما ستبقى تعيش فيّ حتى الرمق الأخير بإذن الله

57

 

رحيل – دنيا – هناء – حرمان – غربة – عصام – ضياع – فواجع – نُخبة – قلم

 

عندما نشرت هذه الأبيات مع بلوغ الستين من العمر، لم أكن أقدّر أنني سأنشرها في مداد القلم مرة أخرى بعد مرور عشرة أعوام، وكنت أود لو كان ذلك في دمشق بأرض الشام أو في عكا بفلسطين.. ولكن قد لا يُقدّر لي أن أراها وأعيش فيها من جديد.. إنّما ستبقى تعيش فيّ حتى الرمق الأخير بإذن الله.

 

رحيـل

غابَ النَّهـارُ وَجُـلُّ اللَيْـلِ وَالسَّـحَرِ
فَاهْجُـرْ فِراشَـكَ هـذا مَوْعِدُ السَّـفَرِ

وَرْدِيُّ حُلْمِـكَ لَـوْنُ الوَرْدِ فـارَقَــهُ
مِنْ بَعْدِ وَمْضٍ مَضى مِنْ سـالِفِ العُمُـرِ

فَاثَّـاقَلَ الخَطْـوُ وَالأَعْضـاءُ أَجْهَدَهـا
فَصْـلٌ يُـوَدِّعُ فَصْـلاً غَيْـرَ مُعْتَـذِرِ

وَفـي الحَيـاةِ رَبـيـعٌ لا يَـؤوبُ وَلَمْ
يَتْـرُكْ بِدَوْحِـكَ إِلاَّ مُتْعَـبَ الشَّـجَرِ

وَكَمْ لَبِسْـتَ جَـديـداً سَـرَّ مَلْبَسُـهُ
وَالنَّسْـجُ نَسْـجُ عَتيـقِ الخَيْطِ وَالإِبَـرِ

فَهَـلْ رَأَيْـتَ خُطـى الأَيَّـامِ تُلْبِسُـنا
ثَـوْبَ الخُلودِ نَعيمـاً أَوْ لَظى صَـقَـرِ

وَمـا أَراكَ إِذا اسْـتَقْبَلْتَ يَـوْمَ غَـدٍ
إِلاَّ مُـوَدِّعَ هـذا اليَـوْمِ فَـاعْتَـبِـرِ

سِـتُّونَ عاماً عَلى صَـدْغَيْـكَ راقِـدَةٌ
في رَحْـمِ يَـوْمٍ بِحُجْبِ الغَيْبِ مُسْـتَتِرِ

وَلَسْـتَ تَأْمَـنُ هـذا اليَـوْمَ مُنْقَلَبـاً
وَلا تُعَـمَّـرُ إِلاَّ فـي فَـمِ الخَـطَــرِ

ما شِـئْتَ مِنْ أَمَلٍ أَوْ خِـفْتَ مِنْ أَلَـمٍ
هَيْهاتَ يُبْدِلُ ما فـي جُـعْبَـةِ القَـدَرِ

وَمَنْ رَأى المَوْتَ مِفْتـاحَ الحَيـاةِ سَـعى
حَتَّـى المَماتِ فَلَمْ يَقَـعُـدْ وَيَنْتَـظِـرِ

وَمَـنْ يَجِـدُّ يَـرَ المَـأْمـولَ في غَـدِهِ
وَما جَنـى طالِبُ الدُّنْيا سِـوى الخُسُـرِ

قَـدْ لا يَكونُ غَـدٌ لِلنَّاظِـريـنَ غَـداً
وَمـا عَرَفْـتُ جَديـداً غَيْـرَ مُنْدَثِـرِ

فَلُؤْلُـؤُ الفَجْـرِ وَالآفـاقُ تَحْضُـنُـهُ
مِنْ دَمْـعِ لَيْـلٍ عَلى الآفـاقِ مُحْتَضَـرِ

وَحُمْـرَةُ الشَّمْسِ وَالإِشْـراقُ يَتْبَعُـهـا
رَمادُ جَمْـرَتِهـا في مَغْـزَلِ القَـتَـرِ(1)

وَمـا الجَـديـدانِ وَالأَيَّـامُ مُقْبِـلَـةٌ
بِكلِّ ما يَسْـلِبُ الأَلْبـابَ مِـنْ وَطَـرِ

إِلاّ عَتيـقَـيْـنِ وَالأَيَّـامُ راحِـلَــةٌ
بِما تَلاشـى مَعَ الأَوْهـامِ وَالسَّـدَرِ(2)

فَـلا يَـغُـرَّكَ يَـومٌ هَـلَّ مُبْتَسِـمـاً
وَفـي مَآقيـهِ لاحَـتْ دَمْعَـةُ المَطَـرِ

وَلا تَخَـفْ مِـنْ دُجى الظَّلْماءِ في أُفُـقٍ
وَالْجَـأْ إِلى الخالِـقِ الباري بِهِ اسْـتَجِرِ

لَمْ يَبْـقَ غَيْـرُ لَيـالٍ أَوْ أَقَـلَّ فَخُـذْ
مِنْها التَّبَـتُّـلَ فـي اسْـتِغْفارِ مُقْتَـدِرِ

كَمـا حَلِلْـتَ عَلـى الدُّنْيـا تُفارِقهـا
فَـرْداً عَلى مَوْعِدٍ في الغَيْـبِ مُسْـتَطَرِ

هُـوَ الرَّحـيـلُ بِـلا زادٍ وَلا أَمَــلٍ
أَوِ الرَّحيـلُ مَـعَ التَّقْـوى لِمُـدَّخِـرِ

هوامش

1- القَتَر: جمع قَتَرَة، وهي الغبرة يعلوها سواد كالدّخان.

2- السَّـدَر: ضعف البصر وحيرته.

 

دنيـا

يا أَنْتَ.. ما أَنْتَ في تَعْـدادِ مَنْ رَحَلـوا
وَراحِليـنَ عَـنِ الدُّنْيـا مِـنَ البَشَـرِ

يا أَنْتَ.. ما أَنْتَ في تَعْـدادِ مَنْ قَدِمـوا
وَقادِميـنَ عَلـى الدُّنْيـا مِـنَ الأُخَـرِ

وَما كَسَـبْتَ إِذا مـا كُنْـتَ خادِمَهـا
إِلاَّ بَـقـايـا مِنَ الأَسْـمـالِ وَالوَذَرِ(3)

سَـحابَةُ الصَّـيْفِ لا غَيْثـاً بِصُحْبَتِهـا
سِوى رَذاذٍ كَدَمْـعِ القَيْـظِ مُنْـتَـثِـرِ

دُنْيـا.. كَبَـرْقٍ بِلا نـورٍ يُخَـلِّـفُـهُ
كَالرَّعْدِ دونَ صَدىً فـي مَسْمَعِ القَفَـرِ

دُنْيـا.. إِذا أَقْبَلَـتْ تُغْريـكَ فِتْنَتُـهـا
بِبـارِقٍ مِـنْ وِصـالٍ دائِـمٍ نَضِــرِ

لا تَأْمَـنِ الهَجْـرَ فـي أَحْضانِ غانِيَـةٍ
تَأْتي وَتَمْضي.. فَلَـمْ تَمْكُثْ وَلَـمْ تَـزُرِ

دُنْيـاكَ إِنْ تَخْـدِمِ الدَّيَّـانَ خـادِمَـةٌ
وَإِنْ عَصَـيْتَ عَنـاءٌ غَيْـرُ مُؤْتَـجَـرِ

وَأَنْتَ لَوْ تَمْلِكِ الدُّنْيـا وَما جَمَـعَـتْ
كَقابِضِ المـاءِ.. لَمْ تُمْسِـكْ وَلَمْ تَـذَرِ

سَـكينَةُ النَّفْسِ كَنْـزٌ لِلْقَنـوعِ وَكَـمْ
يُسْـتَعْبَـدُ العَبْـدُ في أَطْماعِـهِ الكُثُـرِ

أَيْنَ الأَمانـي.. مَـدارُ الفُـلْكِ مَرْكَبُهـا
أَيْـنَ الرُّكـونُ لِعَيْـشٍ راغِـدٍ غَضِـرِ

أَيْنَ الشَّـبابُ.. وَهَلْ أَبْقى سِـوى زَبَـدٍ
عَلى مَدامِـعَ مِـنْ ذِكْـرى بِمُنْحَـدَرِ

أَيْنَ الصِّحابُ.. دُروبُ الجِـدِّ تَجْمَعُهُـمْ
طَوْراً.. وَطَوْراً ضُـروبُ الهَـزْلِ وَالهَـذَرِ

قَـدْ فَرَّقَـتْنـا بِدُنْيـانـا مَسـالِكُهـا
وَالكُلُّ مـاضٍ عَنِ الدُّنْيـا إِلـى الحُفَـرِ

وَلَسْتَ تَجْنـي سِـوى ما أَنْتَ زارِعُـهُ
فَأَحْسِـنِ البَذْرَ تَحْصِـدْ طَيِّـبَ الثَّمَـرِ

وَلا يَطيبُ سِـوى ما صَـحَّ مِنْ عَمَـلٍ
إِذا تَطَـهَّـرَ بِالإيـمـانِ مِـنْ وَضَـرِ

هوامش

3- الأسمال: جمع سَمَل، وهو الثوب البالي العتيق. الوَذَر: جمع وَذْرة، وهي قطعة اللحم الصغيرة

 

هنـاء

وَأَنْـعُـمُ اللهِ فَـوْقَ الحَصْـرِ سـابِغَـةٌ
وَالفَضْـلُ فَضْلُـهُ مَـنْ يَطْلُـبْـهُ يُغْتَمَـرِ

إِنْ أَوْحَشَتْ غُرْبَتـي بِالحُـبِّ نَـوَّرَهـا
ربٌّ يُنـيـرُ دُجـى الظَّـلْمـاءِ بِالقَمَـرِ

وَالحُـبُّ تِـرْيـاقُ قَلْبـي مِنْ مَواجِعِـهِ
وَفـي حَياتـي "هَـنـاءٌ" دونَمـا كَـدَرِ

هِيَ الرَّفيـقَـةُ في الحِرْمـانِ مِنْ بَلَـدي
كَنـورِ بَـدْرٍ بِجَـوْفِ اللَيْـلِ مُنْتَشِــرِ

تُثَبِّـتُ الخَطْـوَ فـي دَرْبٍ بِلا أُفُــقٍ
في رِحْلَـةِ العُمْـرِ عَبْرَ السَّـهْلِ وَالوَعِـرِ

أَهْـدَتْ إِلَيَّ مِنَ الإيـمـانِ مُعْـجِـزَةً
كَوابِلٍ فَـجَّـرَ الأَمْـواهَ فـي الصَّـحَرِ

وَمِـنْ طُمَأْنينَـةٍ فـي النّفْسِ عـامِـرَةٍ
بَـرْدَ السَّـكينَةِ نَبْـعـاً عابِـقَ الزَّخَـرِ

وَأَرْغَمَتْ مِحْنَـةَ التَّشْريـدِ صـابِـرَةً
عَلـى العَـوادي بِلا مَـنٍّ وَلا ضَـجَـرِ

فَأَتْعَبَـتْ عَاشِـقاً تَعْـصيـهِ ريشَـتُـهُ
مَهْمـا تَلأْلأَ صِدْقُ العِشْـقِ في الصُّـوَرِ

وَلا يَفـي حَقَّـهـا إِبْـداعُ ذي قَلَـمٍ
وَلَوْ وَشـى حَـرْفَـهُ بِالتِّـِبْـرِ وَالدُّرَرِ

إِنْ تَطْلُبِ الهَـدْيَ تَطْرُقْ بابَ رَحْمَـتِـهِ
أَوْ تَطْـلُبِ الحَـقَّ بِالقُرْآنِ تَسْـتَـنِـرِ

وَزادُهـا العِلْـمُ بِالتَّقْـوى تُحَصِّنُــهُ
ذِكْـراً وَشُكْراً وَتَسْبيحاً بِلا خَـتَـرِ(4)

فَأَيْـنَ أَنْـتَ وَمـا تَرْوي بِقـافِيَــةٍ
مِنْ نَبْعَـةٍ يَرْتَـوي مِنْها شَـذى الزَّهَـرِ

تَسْـقي البُذورَ حَناناً سـاغَ مَشْـرَبُـهُ
مِـنْ قَـلْـبِ أُمٍّ رِواءً غَـيْـرَ مُعْتَكِـرِ

وَقَـدْ رَأَيْـتُ مَعَ الأَحْفـادِ ما وَصَلَتْ
بِـهِ المَـحَـبَّـةَ لِلأَوْلادِ في الصِّـغَـرِ

وَأُشْـهِـدُ اللهَ أَنِّـي فـي أُمومَتِـهـا
عايَشْتُ ما ثَبَّـتَ المَعْصومُ فـي الأَثَـرِ

جَنَّـاتُ عَدْنٍ لَدى أَقْدامِهـا وُضِعَـتْ
وَفـي العُقـوقِ فَحيـحُ النَّارِ فَاحْتَـذِرِ

هوامش

4- خَتَر: متعدّد المعاني، وهو هنا الفتور والخَدَر.

 

حـرمـان

وَلا أُمَـيِّـزُ إِنْسـانـاً بِمَـرْتَـبَــةٍ
مِثْلَ الأُمومَـةِ تاجـاً عِنْـدَ ذي نَظَـرِ

وَقَـدْ حُـرِمْتُ جِوارَ الأُمِّ مُغْـتَـرِبـاً
وَأَحْمَدُ اللهَ حَمْـدَ العَبْـدِ لا الضَّجِـرِ(5)

حُرِمْتُ مِنْ حَمْلِ جُثْمـانٍ عَلى كَتِـفٍ
وَمِـنْ مُواسـاةِ مَحْـزونٍ وَمُصْطَـبِـرِ

وَمِـنْ تِـلاوَةِ ذِكْـرٍ يَـوْمَ وَدَّعَـهـا
ما انْهَـلَّ مُنْبَثِـقـاً مِنْ أَعْيُـنِ الصُّبُـرِ

أَنَّـى يَفيهـا دُعـاءٌ كُلَّمـا ذُكِـرَتْ
بَعْضَ السَّـخاءِ عَطـاءً غَيْـرَ مُنْبَـتِـرِ

تُعْطيكَ إِنْ أخَـذَتْ تُعْطيكَ إِنْ حُرِمَـتْ
تُعْطيـكَ في الصِّغَـرِ تُعْطيكَ في الكِبَـرِ

فَاغْنَـمْ مِنَ العَيْشِ بِـرَّاً لا تُعَـوِّضُـهُ
دُنْيـا التُّـرابِ وَلَيْسَ التِّبْـرُ كَالعَـفَـرِ

وَقَدْ حَمَلْتُ أَبـي في القَلْبِ أُسْـمِعُـهُ
تِـلاوَةَ القَلْـبِ بَعْـضَ الآيِ وَالسُّـوَرِ

إِذْ وَدَّعَ الأَهْـلَ إِلاَّ عَيْـنَ مُغْـتَـرِبٍ
زاغَتْ إِلـى أُفُـقٍ بِالدَّمْعِ مُخْتَـمِـرِ(6)

إِنْ يَنْبَجِسْ أَغْـرَقَ الأَجْفـانَ في حِمَـمٍ
أَوْ يَنْحَبِسْ أَلْهَـبَ الأَجْفـانَ بِالشَّـرَرِ

أَرادَ دَمْعـي عَزيـزاً في النَّوائِـبِ مَـنْ
يَبْكيـهِ صَـبْري بِمَسْـفوحٍ وَمُنْهَمِـرِ

فَما سَـمِعْـتُ وَصايـا غالَبَـتْ فَمَـهُ
بِالشُّكْرِ وَالصَّبْرِ في النُّعْمى وَفي الغُمَـرِ(7)

وَما لَثِـمْـتُ يَـداً بِالدَّاءِ مُثْـقَـلَـةً
وَلا حَضَنْـتُـهُ في الأَكْـفـانِ بِالبَصَـرِ

وفـي يَـدَيَّ رُعـاشٌ لَـنْ يُفارِقَهـا
إِلاّ لَـدى راقِـدٍ في اللَحْـدِ مُنْتَـظِـرِ

غـابَ الأَحِبَّـةُ.. في جَنْبَـيَّ مَرْقَـدُهُمْ
وَفي الشَّـآمِ وَفي الأَحْـزانِ وَالحَسَـرِ(8)

وَفـي تَبـاريـحِ جُرْحٍ لا أُضّـمِّـدُهُ
مَهْمـا تَقـادَمَ إِنْ تَنْـكَـأْهُ يَنْفَـجِـرِ

وَالشَّامُ -كَالجُرْحِ وَالأَحْبابِ- شـاهِدَةٌ
عَلى دُعـائِيَ فَـوْقَ الحُجْـبِ والسُّـتُرِ

وَقَـدْ رَأَيْـتُ طُغاةَ الأَرْضِ قَدْ حُجِبـوا
عَـنْ وَجْـهِ رَبِّكَ.. وَالنِّيـرانُ في سَـعَرِ

هوامش

5- الضَّجِر: مَن أصابه الضيق والانزعاج.

6- بالدمع مُخْتَمِر: يواريه الدمع كما لو اختمر بخمار.

7- الغُمَر: جمع غُمْرة، وهي الشدّة.

8- الحَسَر: التعب والإعياء.

 

غربـة

وَرُبَّ طِفْـلٍ غَـدا فـي غَيْبَتـي رَجُلاً
وَفـي حَنيـنٍ مِـنَ العَيْنَيْـنِ مُنْحَـدِرِ

وَرُبَّ بِنْـتٍ غَـدَتْ أُمّـاً أُعانِـقُـهـا
في نَبْـضِ قَلْـبٍ بِطولِ البُعْـدِ مُنْفَطِـرِ

وَالعَيْشُ في غُرْبَـةٍ قَـدْ مَزَّقَـتْ أُسَـراً
كَالعَيْشِ مِنْ غُرْبَـةِ الأَحْرارِ في الأُسُـرِ(9)

وَقَدْ تَوالَـتْ جِـراحُ الغُرْبَتَيْـنِ مَعـاً
في مَهْجَعي ما غَفَتْ عَيْنـي وَفي سَـهَري

وَجُرْحُ "عَكَّـا" عَلى الأَهْدابِ أَحْمِلُـهُ
مُذْ مَزَّقَ الأَرْضَ ذو الأَنْيابِ وَالظُّفُـرِ(10)

وَلِلرَّضيـعِ شَـريـداً عَنْ مَرابِعِـهـا
قَـلْـبٌ تَفَطَّـرَ إِنْ تَلْمَسْـهُ تَنْصَهِـرِ

سِـتُّونَ عامـاً.. عَروسُ البَحْرِ سـاهِرَةٌ
في جُنْـحٍ لَيْـلٍ ثَقيـلٍ غَيْـرِ مُنْحَسِـرِ

وَالشَّمْسُ غارِقَـةٌ في رَمْـلِ سـاحِلِهـا
كَدَمْـعِ بَحْـرٍ مِنَ الأَحْـزانِ مُعْتَصَـرِ

إِلاَّ الشُّموخُ عَلـى أَسْـوارِ قَلْعَتِـهـا
إِلاَّ وَصـايـا صَـلاحِ الدِّيـنِ كَالدُّرَرِ

أَرْضٌ سَـبى عِفَّـةَ التَّاريخِ غـاصِبُهـا
وَالحَقَّ وَالأَمْـنَ حَـوْلَ البَحْـرِ وَالنَّهَـرِ

وَكُلَّمـا أَشْـرَقَـتْ آمـالُ عَوْدَتِنــا
تَغْـتالُهـا ذِلَّـةُ التَّسْـليمِ فـي صَغَـرِ

نادَتْـكَ مَكَّـةُ وَالبَيْـتُ العَتيـقُ بِهـا
وَحِـبُّ طِيبَـةَ نادى كُلَّ معْتَـمِـرِ(11)

مَتـى سَـتَنْصُـرُ أولى القِبْلَتَيْـنِ مَتـى
وَأَنْتَ إِنْ تَـرْجُـمِ الشَّـيْطانَ يَنْدَحِـرِ

وَالشَّـامُ في دَمْعَتي وَالشَّـامُ في كَبِـدي
وَفي اشْـتِياقٍ كَجُـرْحِ الشَّـامِ مُسْـتَعِرِ

وَالشَّـامُ في بُؤْبُؤِ العَـيْنَيْـنِ سـاكِنُهـا
وَالأَهْلُ في القَلْبِ مَهْما طالَ بي سَـفَري

فَعِشْـتُ أَعْزِفُ لَحْنَ الشَّـوْقِ مُصْطَبِراً
حَتَّى بَكى الصَّـبْرُ كَالأَشْـواقِ في وَتَري

وَغاصِـبُ الأَرْضِ شَـيْطانٌ تُقاتِـلُـهُ
في كُلِّ عُـرْفٍ مِـنَ الأَعْـرافِ مُعْتَبَـرِ

وَلا يُجـاهِـدُ طـاغـوتٌ بِلا رَشَــدٍ
فَحَـطِّـمِ السِّـجْنَ وَالأَغْلالَ تَنْتَصِـرِ

وَأَرْجِعِ الطُّهْـرَ لِلأَمْـواهِ فـي بَـرَدى
وَفي فِلَسْـطيـنَ لِلْكُثْبـانِ وَالغُـدُرِ(12)

هوامش

9- الأُسُر: جمع إسار، وهو القيد.

10- عكّا: على ساحل فلسطين، وهي مسقط رأس صاحب هذه الأبيات. الظُّفُر: هو الظُّفْر بسكون الفاء أيضا، وذو الأنياب والظّفُر، هو غاصب الأرض بوحشيةِ ذواتِ الأنياب والمخالب.

11- حِبّ طيبة: حبيب المدينة المنوّرة صلى الله عليه وسلّم.

12- الغُدُر: جمع غدير، وهي تجمّعات الماء التي تجفّ في الصيف.

 

عصـام

وَإِنْ رَأَيْـتَ دُعـاةَ الحَقِّ كُـنْ مَعَهُـمْ
وَإِنْ رَأَيْـتَ رُعـاةَ البَغْـيِ فَازْدَجِــرِ

وَقَدْ صَحِبْتُ كَريـمَ النَّفْسِ فـي زَمَـنٍ
بَكُلِّ صِـنْـفٍ مِـنَ الآثـامِ مُعْتَفِــرِ

"عِصـامُ" كانَ هُوَ الرَّبَّـانَ مَنْهَـجُـهُ
في لُجَّـةِ المَـوْجِ كَالأَلْواحِ وَالدُّسُـرِ(13)

للهِ شُـكْري عَلى ما عِشْـتُ أَشْـهَـدُهُ
دَرْبـاً سَـديداً وَيَنْبوعـاً مِنَ العِـبَـرِ

مَـنْ عَـزَّ بِاللهِ كـانَ العِـزُّ شـيمَتَـهُ
وَفي رِعايَـةِ رَبَ العَـرْشِ لَمْ يُضَـرِ(14)

وَمَـنْ تَواضَـعَ كانَ العِلْـمُ مَـرْكَبَـهُ
وَالجَهْلُ مَرْكَبُ ذي كِبْـرٍ وَذي صَـعَـرِ

وَذو الجَهـالَـةِ لَمْ تُؤْمَـنْ إِسـاءَتُـهُ
وَذو البَصيـرَةِ إِنْ تَنْـصَـحْهُ يَعْـتَبِـرِ

وَالدّيـنُ يَحْضُنُ دُنْيـا المُـؤْمِنيـنَ وَفي
عَمـارَةِ الأَرْضِ تَقْـوى اللهِ فَاعْتَـمِـرِ

وَإِنْ زَهِـدْتَ فَلا تَـزْهَـدْ بِتَـقْـنِيَـةٍ
وَارْفَـعْ أَذانَـكَ في حَقْـلٍ وَمُخْتَـبَـرِ

وَكَـمْ فَقـيـرٍ عَفيفِ النَّفْـسِ تَغْبِطُـهُ
وَكَـمْ ثَـرِيٍّ لِعِـزِّ النَّفْسِ مُفْـتَـقِـرِ

وَلَسْـتَ تُمْسِكُ مِنْ دُنْيـاكَ مِقْوَدَهـا
إِلاَّ بِحَـبْـلٍ مِـنَ الرَّحْمـنِ لا البَشَـرِ

وَعَدْلُ ربِّـكَ يَجْـزي كُلَّ مُجْـتَـرِمٍ
مُسْتَنْسِرٍ مِنْ بُغاثِ الأَرْضِ ذي أَشَـرِ(15)

إِنْ ماتَ صـارَ لِخِـزْيٍ غَيْـرِ مُحْتَـذَرِ
أَوْ عاشَ عانـى عَذابَ الخِـزْيِ وَالحَذَرِ

وَلا تَسـامُحَ وَالإِنْسـانُ مُضْـطَـهَـدٌ
وَلا مُغيـثَ سِـوى الإِسْـلامِ فَانْتَصِـرِ

وَفيـهِ ما رُمْـتَ مِنْ عَـدْلٍ وَمِنْ قِيَـمٍ
فيـهِ الجِهـادُ وَفيـهِ الأمْنُ في وَزَرِ(16)

فَدَعْ سَـفيهاً يَرى في الجُبْـنِ حِكْمَتَـهُ
وَاطْلُبْ حَكيماً جَريءَ القَلْبِ وَاسْتَشِـرِ

وَاعْمَـلْ وَكُنْ شـامِخـاً في كُلِّ مُقْتَحَمٍ
وَالجِسْرَ بَيْنَ يَدَيْ جيلِ الهُدى الجَسِـرِ(17)

وَذاكَ مِنْ بَعْـضِ مـا الأُسْـتاذُ عَلَّمَنـي
تَـرْويـهِ لي سـيرَةٌ مِنْ أَطْهَـرِ السِّـيَرِ

وَما سَـمِعْـتُ مَـقـالاً لا يُجَـسِّـدُهُ
صِدْقُ الفِعـالِ يُـرَبِّـي خيـرَةَ الزُّمَـرِ

مُذْ كُنْتُ أُكْبِـرُهُ فـي الشَّـامِ يَخْطُبُهـا
فَالحَـقُّ يَصْـدَعُ وَالطَّاغـوتُ في قَهَـرِ

ما هـانَ يَـوْماً وَلا هانَـتْ عَريكَـتُـهُ
لِمـا تَتـالـى مِـنَ الأَحْقـادِ وَالنُّـذُرِ

وَفـي النَّوائِـبِ قَدْ حارَ الحَكيـمُ بِهـا
تَـراهُ يَشْـمَخُ مِثْلَ الطَّـوْدِ لَـمْ يَحَـرِ

وَذي "الشَّهيدَةُ" في العَلْيـاءِ راضِـيَـةٌ
عَنْ قَلْبِ زَوْجٍ عَظيمِ الحُزْنِ لَمْ يَخُـرِ(18)

جَريـمَـةٌ هَزَّتِ الدُّنْيـا بَشـاعَتُـهـا
وَفي المَدامِـعِ لَـمْ يَجْـزَعْ مِنَ الغِيَـرِ(19)

وَفـي الثَّمـانيـنَ حَوْلاً لا يُطاوِعُـهـا
إِنْ تَشْـكُ مِنْ ثِقَـلِ الأَعْبـاءِ يَنْتَـهِـرِ

وَما ذَكَـرْتُ كَثـيـراً مِـنْ خَلائِقِــهِ
أَخـاً كَبـيـراً وَإِنْسـانـاً بِلا كِـبِـرِ

وَلِلْكِـرامِ سَـجايـا لا يُحـاطُ بِـهـا
فـي مُسْـهَبٍ جـادَ بنيـاناً وَمُخْتَصَـرِ

مُعَلِّـمُ الجيـلِ فَاسْـتَبْشِـرْ بِصَحْوَتِـهِ
وَلِلْمُعَـلِّـمِ فَضْـلٌ ظاهِــرُ الأَثَــرِ

هوامش

13- عصام: عصام العطار

14- لم يُضَرِ: لم يصب بضرر، من ضارَ، يُضير، يُضار.

15- مُسْتَنْسِر: صار كالنسر أو ذاك مطلبه، بُغاث: جمع أبغث، وهو الطير الضعيف، أَشَر: بطر.

16- في وَزَر: في منعة، والوَزَر: الجبل المنيع، وكلّ ما يصلح للتحصّن به.

17- مُقْتَحَم: الأمر الجليل إذا اقتحمته، الجَسِر: الجسور الشجاع.

18- الشهيدة: بنان الطنطاوي العطار، اغتيلت في منزلها في مدينة آخن الألمانية يوم 17/3/1981م، لم يَخُر: من يخور، أي لم يضعف.

19- الغِيَر: التغيّر من حال إلى حال، وغالبه من صلاح إلى فساد.

 

ضيـاع

جيـلُ الجِهـادِ أَتى صُـهْيونَ فَارْتَعَدَتْ
كَعَـرْشِ مُنْتَسِـبٍ زوراً إِلـى مُـضَـرِ

جيـلٌ يُنـادي مِنَ الأَقْصـى وَرَوَّعَـهُ
صَـدى اسْـتِغاثاتِ أَهْلِ البَدْوِ وَالحَضَـرِ

مِنْ كُلِّ قَـوْمٍ هُـدى الإِسْلامِ حَرَّرَهُـمْ
مِنْ كُلِّ شَـعْبٍ عَلى التَّاريـخِ مُفْتَخِـرِ

غَـدَوْا مُشـاعاً لِمُحْتَـلٍّ وَطـاغِيَـةٍ
فَأَصْـبَحَتْ ذِمَّـةُ التَّـاريـخِ في هَـدَرِ

وَالأَرْضُ في قَبْضَـةِ الطُّغْيـانِ يَحْرِقُهـا
أَحْفادُ "نيـرو" بِحُمْـقٍ أَسْوَدٍ نَغِـرِ(20)

ما بَيْنَ عـادٍ عَلى الإِنْسـانِ في صَـلَفٍ
وَعاقِـرٍ مِنْ جُـذورِ الأَرْضِ مُنْقَعِـرِ(21)

بَـيْـنَ السَّـجيـنِ وَشَـيْطانٍ يُعَذِّبُـهُ
فَلا تُضـاهيـهِ أَفْـعـى مَرْتَـعٍ قَـذِرِ

بَيْـنَ المَواجِـعِ أَشْـباحاً بِمَخْمَـصَـةٍ
والعُمْيِ وَالصُّمِّ صَرْعى اللَهْـوِ وَالبَطَـرِ

بَيْـنَ القُصـورِ وَقَـدْ ضَجَّت بَعَرْبَـدَةٍ
تَزْهو بِمَن يَمْنَـحُ الأَسْمالَ لِلضُّمُـرِ(22)

وَرَقْصَـةِ المَـوْتِ في أَكْـواخِ مَنْ مُنِحوا
تَخيطُ أكفانَهُـمْ مِنْ مِنْحَـةِ المَـعِـرِ(23)

نَـرى الطُّفولَـةَ عَيْنـاً دونَ مَحْجِرِهـا
وَغائِـرَ العَيْـنِ مِنْ سُكْرٍ وَمِنْ دَعَـرِ(24)

نَـرى العِظـامَ مِـنَ الأَجْسـادِ ناتِئَـةً
نَـرى التَّعَـرِّيَ نَهْـجاً غَيْـرَ مُنْزَجِـرِ

وذا التَّحَـلُّلُ مِـنْ دينٍ وَمِنْ خُـلُـقٍ
يُحَـرّرِ الفِسْـقَ مِنْ عَقْـلٍ وَمِنْ خَفَـرِ

يُلْغي الحَيـاءَ.. فُجـوراً لا يَميـدُ بِـهِ
تَكْبيـرُ طُهْـرٍ مَعَ الحَسْـناءِ مُنْفَـجِـرِ

يُلْغي الضَّميـرَ.. فَلا إِبْـداعَ أَشْـعَلَـهُ
لِيُشْـعِـلَ الثَّـأْرَ في قَلْـبٍ مِنَ الحَجَـرِ

وَمـا التَّنَكُّـرُ لِلإِبـداعِ إِنْ حَفِظَـتْ
دُروبَـهُ قِـيَـمٌ تَسْـمو بِمُبْـتَـكِـرِ

سِـوى الشُّـذوذِ عَنِ الأَذْواقِ في أَدَبٍ
لَـوْ يَعْقِـلِ الذَّوْقُ مـا قالـوهُ يَنْتَحِـرِ

وَالفَـنُّ يُذْبَـحُ ذَبْحـاً في مَسـارِحِهِمْ
في اللَحْنِ لِلْبُجَـرِ وَالرَّقْصِ لِلْعُجَـرِ(25)

بِئْسَ التَّـبَـجُّحُ بِالإِغْـواءِ مَفْسَـدَةً
في لَوْثَةِ الفِسْـقِ أَوْ في سَكْرَةِ الخَمِـرِ(26)

تَحـارُ في عُصْـبَةِ الإِفْسـادِ فَلْسَـفَةٌ
فيهـا الكَثيـرُ عَدا الإِلْحـادِ وَالعَهَـرِ

فَفيـمَ يُمْسَـخُ إِرْثُ الأَقْـدَميـنَ إِلى
كُفْرٍ وَعَهْـرٍ لَدى مُسْـتَكْبِرٍ نَـمِـرِ(27)

هُـوَ التَّفَـلْسُـفِ هَزْلاً دونَ فَلْسَـفَةٍ
في عُرْفِـهِ حَوَلُ العَيْـنَـيْـنِ كَالحَـوَرِ

حَبـا "الحَداثَـةَ وَالتَّنْـويـرَ" عِلَّـتَـهُ
مِنْ عُقْـمِ فِكْـرٍ عَلى التَّغْريبِ مُقْتَصِـرِ

وَمـا تَّشَـبَّثَ بِالتَّغْـريـبِ ذو نَظَـرٍ
يَـرى عَـواقِبَ بانَتْ عِنْدَ مُخْتَبِــرِ

ذاكَ التَّحَـجُّـرُ لا تَـأْمَـنْ بوائِـقَـهُ
مِنْ صُنْعِ عَقْلٍ صَريعِ العَجْزِ مُقْتَسَـرِ(28)

ذاكَ التَّخَلُّفُ عَـنْ عِلْـمٍ وَتَقْـنِـيَـةٍ
وَكُلِّ فَـنٍّ أَصـيلٍ غَيْرِ مُبْتَسَــرِ(29)

وَعَـنْ تُـراثٍ عَـريقٍ غَيْـرِ مُتَّـهَـمٍ
مِنْ جُهْدِ مُجْتَهِـدٍ أَوْ نَقْـدِ ذي نَظَـرِ

وَعَـنْ ثَوابِـتِ وَحْـيٍ لا يُـزَعْزِعُهـا
صُراخُ عَبْدٍ يُغَطِّي الشَّمْسَ بِالخُمُـرِ(30)

هوامش

20- نيرو: القيصر الروماني الذي اشتهر بحرقه روما، نَغِر: غاضب يغلي قلبه غيظا.

21- عاقِر: العاقر من لا ينجب ولدا، والأرض العاقر هي التي لا تُعطي زرعا، كناية عن الحاكم العاقر الذي لا يعطي البلد والشعب خيرا، مُنْقَعِر: منقطع منقلع من جذوره.

22- الضُّمُر: جمع ضامر وهو النحيل.

23- المَعِر: البخيل القليل الخير.

24- دَعَر: الفساد.

25- البُجَر: جمع بَجِر، متعدّدة المعاني، تشمل بروز البطن وظهور العيوب، العُجَر: شبيهة بها، ويُقال: أظهر عجره وبجره أي كافّة مساوئه، وأصل العجرة العقدة والانتفاخ في الظهر أو عموم الجسم، والبجرة إن كانت في السرّة والبطن خاصّة.

26- الخَمِر: من أفقدته الخمرة عقله.

27- إرث الأقدمين: إشارة إلى ما خلّفه الفلاسفة القدماء وفيه ما يُقبل ويُرفض، نَمِر: سيّئ الخلق، متشبّه بالنّمر، الذي يوصف بأنّه أخبث السباع.

28- مُقْتَسَر: مغلوب على أمره قسرا.

29- مُبْتَسَر: مقتطع مأخوذ من غير موضعه.

30- الخُمُر: جمع خمار، وهو غطاء الرأس أو الوجه.

 

فـواجع

مَنْ يَهْجُـرِ العُرْوَةَ الوُثْقـى وَمَنْهَجَـهـا
يَعِشْ عَلى حَرْفِ جُـرْفٍ واهِنٍ خَطِـرِ

وَمَـنْ يُدَنِّسْ عَـزيـزاً عِنْـدَ أُمَّـتِـهِ
يَقْطَـعْ وَشـائِجَـهُ عَنْهـا وَيَنْبَـتِـرِ

وَمَنْ يُمَزِّقْ عُرى المـاضـي بِحاضِـرِهِ
يَطْعَـنْ بِمُسْـتَقْبَـلٍ حُـرٍّ وَمُزْدَهِـرِ

وَالأَرْضُ كَالأَهْلِ بَيْنَ المَشْـرِقَيْنِ غَـدَتْ
أَشْـلاءَ مِنْ جَسَـدٍ دامٍ وَمُنْشَـطِـرِ

فيهـا ضَـحايـا عَـدُوٍّ غادِرٍ شَـرِسٍ
فيهـا الجِهـادُ سَـجينٌ دونَمـا عُـذُرِ

فيهـا الكَريـمُ لَدى الأَشْـرارِ مُرْتَهَـنٌ
وَلَيْسَ فيهِـمْ كَـريـمٌ غَيـرُ مُحْتَقَـرِ

فيهـا سِـياطٌ دَمُ الأَحْـرارِ يُثْـمِلُهـا
نَخْـبَ التَّذَلُّـلِ لِلأَعْـداءِ فـي خَـوَرِ

فيهـا الصِّـغارُ طَواغيـتٌ كَسَـيِّدِهِمْ
وَما تَسـاوَتْ نُيـوبُ الذِّئْـبِ وَالهِـرَرِ

فيهـا فِلَسْـطينُ تَنْعى بِانْتِفـاضَـتِهـا
مُـتـاجِـراً بِـدَمِ الثُّـوَّارِ وَالحَـجَـرِ

يَـبَـيْـعُ مُخْتَلِسـاً ما لَيْسَ يَمْلِـكُـهُ
وَالسُّوقُ سوقُ سَـفيهٍ بَيِّـنِ العَـرَرِ(31)

فيهـا "الهَـوانُ مَعَ التَّطْويعِ" مَكْـرُمَـةٌ
تُهْدي "السَّـلامَ مَعَ التَّطْبيعِ" لِلْغُـدَرِ(32)

وَالسِّـلْمُ يُطْلَـبُ بِاسْـتِجْداءِ قاتِلِهِـمْ
فَلا "خِيـارَ" سِـوى اسْتِسْلامِ مُنْدَحِـرِ

فيهـا البُطولَـةُ في شـاشـانَ ثائِـرَةٌ
وَفي العَداءِ تَنـادَتْ عُصْـبَةُ المِـئَـرِ(33)

فيهـا مَغـاوِرُ بِالأَفْـغـانِ سـامِقَـةٌ
تَحَدَّتِ القَصْـفَ لِلإِنْسـانِ وَالصَّخَـرِ

فيهـا العِراقُ نَخيـلٌ شـامِـخٌ أَبَـداً
وَالهـونُ ضاجَعَ حُـكَّاماً عَلى السُّـرُرِ

وأَرْزُ لُبْـنـانَ تَحْتَ القَصْفِ مُحْتَـرِقٌ
ما بَيْـنَ لِصٍّ وَسِـمْسـارٍ وَمُتَّـجِـرِ

وَشِـرْعَةُ الغـابِ لِلْعُـدوانِ حاضِنَـةٌ
بِمَجْلِسٍ لِضُـروبِ الفَـتْـكِ مُحْتَكِـرِ

إِنْ يُغْمِضِ العَيْـنَ يُغْمِضْهـا بِمَذبَحَـةٍ
وَالنَّـابُ يَغْرِسُـهُ في جُـرْحِ مُحْتَضِـرِ

قَـدِ انْتَضَتْ دَوْلَةُ الإِجْرامِ أَسْـلِحَـةً
إِنْ تُلْـقِ سَـيْفَكَ لَمْ تُنْصَفْ وَلَمْ تُجَـرِ

فَبِئْسَ رَهْطٌ غَدَوْا في ذَيْلِـهـا خَدَمـاً
عَوْنـاً عَلى قَوْمِهِمْ عَوْناً عَلى الذَّمِـرِ(34)

مَن يَمْشِ في رَكْبِ أَمْريكا عَلى دَخَـنٍ
هَيْهاتَ يَحْمي حِمى الصِّـدِّيقِ أَوْ عُمَـرِ

يَسـيرُ في الفِتْنَـةِ الكُبْرى "مُقـامَـرَةً"
وَلِلدِّفـاعِ عَنِ الأَهْـليـنَ لَـمْ يَسِـرِ

يَرى البَسـالَـةَ طَيْشـاً أَوْ "مُغامَـرَةً"
وَمِشْـعَلاً كاشِـفاً سَـوْءاتِ مُؤْتَمِـرِ

يَـرى المُقـاوِمَ "إِرْهـابـاً" تُحارِبُـهُ
مَحـاوِرُ الشَّـرِّ وَالأَتْبـاعُ مِـنْ دُبُـرِ

يَقودُهُمْ نَفَـرٌ "بيـضٌ" غَـدَوْا هَمَجـاً
وَخَلْفَ أَذْيالِهِـمْ سِـرْبٌ مِنَ "السُّـمُرِ"

شـادوا "حَضارَةَ حُفَّـارِ القُبـورِ" فَهُمْ
عارٌ عَلى قَوْمِهِـمْ عارٌ عَلى البَشَـرِ(35)

فَلا حَضـارَةَ وَالإِنْسـانُ فـي ضَـرَمٍ
وَلا تَقَانَـةَ إِنْ تُطْفِـئ سَـنى السَّـحَرِ

وَلا تَقـدُّمَ وَالآهــاتُ شــاكِيَـةٌ
فَدونَكَ الغـابُ إِنْ يَقْبَلْ بِذي دَخَـرِ(36)

فَـواجِـعٌ تُنْـزِلُ الإِنْسـانَ مَنْـزِلَـةً
دونَ الخَفـافيشِ وَالحِيتـانِ وَالحُـمُـرِ

فَواجِـعٌ زادَهـا اسْـتِمْراءُ عَلْقَمِهـا
وَلا سَـلامَـةَ إِنْ نَرْكُـنْ وَلَـمْ نَثُـرِ

هوامش

31- العَرَر: المرض، وأصله الجَرَب.

32- الغُدَر: الغادر الذي اشتهر بغدره فهو ينادى به.

33- شاشان، هكذا اسمها في كتب التاريخ العربية، وشاع في تسميتها اسم الشيشان حديثا، المِئَر: جمع مِئْرَة وهي العداوة الحاقدة.

34- الذّمِر: الشجاع الذي يغضب لهتك الذَّمار من حرمات وأهل.

35- "حضارة حفّار القبور": عنوان أحد كتب رجاء روجيه جارودي رحمه الله، عن الحضارة الغربية.

36- بذي دَخَر: بذليل صاغر.

 

نخـبة

هَيْهاتَ تَصْنَـعُ حُكَّامـاً عُروشُـهُـمُ
عَلـى جَماجِـمِ مَفْجـوعٍ وَمُنْكَسِـرِ

قَـوْمٌ رَأَوْا هامِشَ التَّـاريـخِ يَلْفِظُهُـمْ
وَوَصْمَةَ العـارِ تَغْشـاهُمْ مَدى العُصُـرِ

في السِّلْمِ أَمْسَـوْا بِلا هـامٍ وَلا هِمَـمٍ
إِلاَّ عَلى العُزْلِ وَالأَحْرارِ والخُـفَـرِ(37)

في الحَـرْبِ صاروا طَراطيـراً بِمَهْزَلَـةٍ
وَمَنْ يُقَبِّـلْ يَدَ الجَـلاَّدِ يُحْتَـقَـرِ(38)

لا تَحْسَـبَنَّ رَقيـقَ الذُّلِّ قَدْ أَمِـنـوا
مِنْ سُـخْطِ ذي الجَبَروتِ الحَقِّ وَانْتَظِـرِ

وَكَـمْ شَـكَوْنا شُـعوباً لا يُحَرِّكُهـا
فَتْـكُ العَـدُوِّ فَلَمْ تَصْرُخْ وَلَمْ تَـثُـرِ

وَما شَـكَوْنا صُنوفَ الفَتْـكِ تَقْمَعُهـا
وَاليَأْسَ مِنْ نُخَبٍ أَمْسَتْ عَلى دَجَـرِ(39)

كَأَنَّ نُخْبَتَـنـا مِـنْ غَيْـرِ أُمَّـتِـنـا
وَلَوْ صَدَقْنـا فَقَـدْ نَشْـكو مِنَ العَـوَرِ

تَخْتـالُ في بُرْجِهـا العاجِـيِّ عَجْرَفَـةً
وَالبُـرْجُ مِـنْ خَشَـبٍ بِالوَحْلِ مُتَّـزِرِ

فَيَفْخَـرُ العَجْـزُ في حُكْمٍ وَفي نُخَـبٍ
فَخْرَ الطَّواويسِ وَالأَثْـوابُ مِـنْ وَبَـرِ

أَيْنَ الزَّعاماتُ فـي الأَرْزاءِ تُرْشِـدُنـا
لا فـي احْتِفالٍ وَتَصْريـحٍ وَمُؤْتَـمَـرِ

أَيْـنَ المَهـاراتُ في تَخْطيـطِ نَهْضَتِنـا
لا في مَـزاعِـمِ دَجَّـالٍ وَمُبْتَـهِـرِ(40)

أَيْـنَ التَّفَـوُّقُ فـي فَـنٍّ وَتَقْنِيَــةٍ
وَثَـوْرَةُ العِـلْـمِ وَالآدابِ وَالفِـكَـرِ

قَـوْمٌ غَـدَوْا عالَةً لا نُخْبَـةً سَـبَقَتْ
رَغْـمَ الجَـوائِـزِ وَالتَّصْفيـقِ وَالفَخَـرِ

إِلاَّ لَفيـفـاً مِـنَ الرُّوَّادِ فَـرَّقَـهُـمْ
"تَهْجيـرُ أَدْمِـغَـةٍ" وَالبَطْـشُ بِالخِيَـرِ

وَإِنْ تُسَـوِّغْ لَهُمْ إِثْـمـاً وَمَظْلِـمَـةً
فَالزَّيـفُ بـادٍ عَلى الأَقْـلامِ وَالزُّبُـرِ

هوامش

37- العُزْل: جمع أعزل، من لا سلاح لديه يدفع به عن نفسه، الخُفَر: جمع خَفْرة، وهي الذمّة وعموم ما يجار ويحمى ويُحرس.

38- طَراطير: جمع طَرطور: الضعيف الوغد.

39- الدَّجَر: الحيرة والحماقة.

40- مُبْتَهِر: هو المدّعي الكاذب، من الابتهار.

 

قـلـم

فَواجِـعٌ أَحْـرَقَـتْ مَنْ عاشَ في خَـدَرٍ
وَأَلْهَبَـتْ قَلَمـاً لا عـاشَ فـي خَـدَرِ

فَواجِـعٌ مَزَّقَـتْ قَلْـبـي وَأَضْـلُعَـهُ
وَكَـلَّ يَـوْمٍ مِنَ الأَيَّـامِ مِنْ عُمُـري

أَرى الطَّـواغيـتَ أَجْسـاداً مُحَنَّطَـةً
أَرى التَّماثيلَ مِنْ شَـمْعٍ وَمِنْ مَـدَرِ(41)

أَرى المَقـابِـرَ وَالدِّيـدانَ عابِـثَــةً
فيهـا بِكَوْمَـةِ عَظْـمٍ فاسِـدٍ نَـخِـرِ

فَلا أُهـادِنُ طـاغـوتـاً إِلـى أَمَـدٍ
وَلا أُسـاوِمُ طاغوتـاً عَلـى مَـذَرِ(42)

وَلَنْ يَزيـغَ مَـعَ الأَهْـوالِ بـي بَصَـرٌ
في مِحْنَـةِ المُرْهِبـاتِ السُّـودِ وَالحُمُـرِ

وَلن تَميـلَ مَـعَ الإِغْـراءِ بـي قَـدَمٌ
وَإِنْ تَسابَقَتِ الأَقْـدامُ فـي غَـرَرِ(43)

وَعِشْـتُ أَنْشُـرُ مـا يَنْصَبُّ مِنْ قَلَـمٍ
بِالصِّـدْقِ مُلْتَـزِمٍ بِالحَـقِّ مُـؤْتَــزِرِ

فَلا أُزَيِّـنُ أَشْــعـاراً بِمَـلْحَـمَـةٍ
بِالوَهْـمِ في أَمَـلٍ وَالإِفْـكِ في خَـبَـرِ

وَلا أُزَيِّـفُ نَصْـراً فـي القُعـودِ بِلا
عَـزْمٍ وَلا عَـمَـلٍ كَالواهِـمِ السَّـكِرِ

وَلا يُجـاهِـدُ حَقَّـاً في شَـريعَتِـنـا
إِلاَّ صَدوقٌ فَلَـمْ يَشْـطُـطْ وَلَمْ يَـذَرِ

وَلَسْـتُ أَطْلُـبُ زُلْـفى مِثْلَ مُنْتَـفِـعٍ
كَفـاهُ لَعْـقُ صُـحونِ الحاكِمِ البَطِـرِ

فَكَـمْ كِتـابٍ وَفيـهِ الوِزْرُ مَحْـبَـرَةٌ
وَكَمْ لِسانٍ يُرائـي باطِلَ الفُـجُـرِ(44)

وَلا يَـقيـكَ الأَذى ذُلٌّ لِطـاغِـيَـةٍ
وَعِـزَّةُ النَّفْسِ لا تُغْنـيكَ عَـنْ حَـذَرِ

وَلَسْـتُ أَقْبَـلُ بِالإِحْبـاطِ في قَـلَـمٍ
وَلا بِتـَثْبيـطِ مَكَّـارٍ ومُهْتَـصَـرِ(45)

وَكَـمْ تَبَـدَّلَ حـالٌ كُنْـتُ أَحْسَـبُهُ
كَالرَّاسِـيـاتِ مِـنَ الأَوْتـادِ وَالجُـدُرِ

إِلاَّ اليَقـينُ.. فَلا يَنْفَـكُّ يَعْـصِـمُنـي
في كُلِّ مُنْـزَلَـقٍ مِـنْ كُلِّ ذي ضَـررِ

مَنْ خاطَبَ الأَهْـلَ فَلْتَصْدُقْ سَـريرَتُـهُ
وَكُلُّ ذي قَلَمٍ لَـمْ يَـنْـجُ مِـنْ عَثَـرِ

وَقَـدْ تَدَفَّـقَ نَـزْفٌ مِنْ مَـواجِعِـنـا
عَبْرَ المِدادِ نَعـى الأَمْواتَ في الخُـدُرِ(46)

كَمـا تَدَفَّـقَـتِ الآمـالُ مُشْـرِقَـةً
بُشْـرى بِجـيـلٍ بِعَـوْنِ اللهِ مُنْتَصِـرِ

وَعِـزَّةُ النَّـفْسِ بِالإِسْـلامِ راسِـخَـةٌ
كَنِعْمَـةِ الشُّـكْرِ في يُسْـرٍ وَفي عُسُـرِ

وَهـاكَ سِـتُّونَ عامـاً بَعْدَ مَغْـرِبِهـا
كَأَنَّهـا وَمْضَـةٌ في مُنْتَـهـى القِصَـرِ

إِنْ كُنْتَ تَذْكُرُ نَـزْراً مِنْ مَشـاهِدِهـا
فَفي تَقَلُّـبِـهـا ذِكْـرى لِمُـدَّكِـرِ

فَاطْلُبْ بِرَحْمَتِـهِ اِلرِّضْـوانَ مُبْـتَهِـلاً
ما مِنْ ذُنـوبِكَ ذَنْـبٌ غَيْـرُ مُغْتَـفَـرِ

آمَـنْـتَ بِاللهِ لَـمْ تُشْـرِكُ بِـهِ أَبَـداً
وَإِنْ زَلَلْـتَ هُوَ التَّـوَّابُ فَـاعْـتَـذَرِ

وَذا رَجـاؤُكَ رَبُّ العَـرْشِ يَعْـرِفُـهُ
فَالعَفْـوُ إِنْ نِلْـتَ عَفْواً غايَـةُ الظَّفَـرِ

هوامش

41- أجساد محنّطة: إشارة إلى من حُفظت أجسادهم من الطغاة الأقدمين تحنيطا كفراعنة مصر، مَدَر: جمع مَدَرة، وهي قطعة الطين اليابس، إشارة إلى بعض ما تصنع منه التماثيل والنصب.

42- مَذَر: الفساد، وأصله الفساد في البيض، وتمذّرُ النفسِ خبثُها.

43- غَرَر: هو الخطر والخداع والاغترار بظاهر الأمور، ومنه بيع الغَرَر.

44- الفُجُر: جمع فاجر.

45- مُهْتَصَر: المنحني كالعود تشدّه من طرفيه فيتقوّس وسطه.

46- الخُدُر: مخففة من الخدور، جمع خِدْر، وهو مهجع النساء.

نبيل شبيب

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

بعد نشر هذه الأبيات في ملتقى واحة الفكر والأدب كتب الأخ الشاعر محمد إبراهيم الحريري (٣٠ /١ /٢٠٠٧م) كلمات وأبيات أنشرها في هذا الموضع شاكرا صاحبها لطيب مشاعره. يقول:

(أهلا بك أخي الشاعر في بلاد أذن الله أن نلتقي على بساط أدبها متعاضدين بدموع الغربة، نشكو الصبر قتار الحنين لوطن ترك على قارعة العمر يمضي بنا فراقه إلى حيث نهاية رحلة الأيام.

مرحبا بك شاعرا نضح الزمن بمداد الحرقة، وسكب رحيق الذكريات بكؤوس الحروف تسكر السطور ببيان الصدق).

 

جُرِّعْتَ كأسَ اغْتِرابِ العُمْرِ فَاصْطَبِرِ
مِنْ ذِكْرَياتٍ بِهـا أُسْطـورَةُ الخَفَـرِ

مـا بَيْـنَ رِحْلَـةِ أَيَّـامٍ تُعاقِـرُهـا
بِنْتُ الخَيالِ عَلـى دَوَّامَـةِ السَّفَـرِ

تَحْتـارُ أَيَّـةُ أَحْـداثٍ تُناصِـرُهـا
بِالبَوْحِ، فَانْطَلَقَـتْ تَنْهيـدَةُ القَـدَرِ

ما زِلْتَ في شُرُفاتِ الضَّيْـمِ مُنْتَظِـراً
فَاكْتُبْ إِلى الشَّامِ سِفْرَ الشَّوْقِ بِالبَصَرِ

سِتُّونَ عاماً غَشاها الهَـمُّ مُعْتَصِـراً
سَطْراً تُعَلِّقُـهُ فـي دَوْحَـةِ الأَثَـرِ

وَالحَرْفُ يُبْهِرُ عَيْنَ الْلَيْلِ ما الْتَحَمَتْ
بِالدَّمْعِ حُنْجُـرَةُ التَّغْريـبِ بِالوَتَـرِ

كَأَنَّـهُ وَهَـديـلُ الشَّـام غـارِقَـةٌ
في لُجَّةِ العِشْقِ، بَيْنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ