ع ع يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول

نقلا عن العدد الرابع من مجلة الرائد حزيران / يونيو ١٩٧٢م

مقالة – إنّ الجماعةَ منّا قد لا تملكُ أمرَ سواها، ولكنّها تملك أمرَ نفسِها، فلماذا لا تبدأُ بها؟

93
عصام العطار شابا وغلاف يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول

ع ع مقالة

يكثُر الحديثُ في هذه الأيّامِ، وقبلَ هذه الأيّامِ، عن أَدْواءِ المسلمينَ، وواجباتِ المسلمين.
ونكادُ نَسْمَعُ هذا الحديثَ في كلِّ لقاءِ صغيرٍ أو كبيرٍ يضمُّ أصحابَ الاتّجاه الإسلاميّ.
ويتحدّثُ المجتمعونَ عن العِلَلِ وكأنَّهم خالونَ منها، وعن الواجباتِ وكأنَّ غيرَهم هو المطالَبُ بها.
والحقيقةُ أنَّ أكثرَ هؤلاءِ الذينَ يعقِدونَ الاجتماعاتِ والمؤتمرات، ويتناقشونَ في المناسباتِ والسهرات، ويكتبونَ في الصحفِ والمجلاّت، وكأنَّهم -كما قلنا- خالونَ من العلل.. الحقيقةُ أنّهم جزءٌ من المسلمينَ الحالِيِّينَ المنتقدَين، فيهم من كلِّ العللِ التي تفتكُ بهم، والتي أوصلتهم إلى ما هم عليه الآن من هوانٍ وبلاءٍ شديد..

ويجبُ ألاّ يهربوا من هذه الحقيقة، ومن مواجهتِها بشجاعةٍ وإخلاص..
إنّنا نقولُ دوماً في لقاءاتِنا: المسلمون.. المسلمون.. ولا نَذْكُرُ أنفسَنا كأنّنا لسنا منهم..
عندما نعدِّدُ العللَ، لا نُدْخِل أنفسَنا فيمن تَفْتِكُ بهم هذه العلل.
وعندما نعدّدُ الواجبات، لا نُدْخِل أنفسنا فيمن يجب عليهم النهوضُ بهذه الواجبات.
أحاديثُنا في الغالب ثرثرات، وكلماتُنا مجرَّدُ كلمات، لا تضعُنا مباشرةً أمامَ أيِّ واجبٍ منَ الواجبات.. نطوفُ بأحاديثِنا الشرقَ والغرب، ونذهبُ بها إلى أبعدِ مكانٍ وأبعدِ إنسان، وننسى مكانَنا الذي نحنُ فيه، وأنفسَنا التي يجبُ أن نَبدأ بها، وننطلقَ منها.. وهكذا لا نجدُ أبداً نقطةَ البدء، ولا نُكَوِّنُ المنطلقَ المنشودَ للتغيير.

* * *

إنّ واقعَ المسلمينَ الراهنَ هو أسوأُ واقع، والانهيارَ المستمرَّ في حياتِهم يهدّدُ وجودَهم نفسَه، ولكنْ أينَ يُمكنُ أن يقفَ هذا الانهيار، ويبدأ التحوّل؟
جوابنا الحاسم: في أنفسنا.
يجب أن يقفَ في أنفُسِنا الانهيارُ، وأن يبدأَ في أنفسنا التحوُّل.. فإذا تَحَوَّلْنَا إلى مسلمينَ حقيقيّين كما يريدُ الإسلام، تحوَّلَ بنا مجتمعُنا، وتحوَّلُ بنا المسلمونَ في كلّ مكان، وتحوَّلَ بنا العالم..

أمّا إذا لم نتحوَّلْ نحنُ التحوُّلَ المطلوب، فلا يمكنُ أن نحوِّلَ مجتمعَنا وأمّتَنا وعالَمَنا مهما تكلّمنا وصحنا وكتبنا.. بل إنّ كلامَنا وكتابتَنا لَتَسْتَحيلُ إلى ضربٍ من العبثِ والنفاقِ والخداع.

* * *

لقد كانَ عمادُ التحوُّلِ العظيمِ الذي تمَّ بالإسلامِ في تاريخِ البشر أيّامِ الرسول صلى الله عليه وسلّم أمرين: الرسالةُ، ومَنْ حملوا الرسالة.
أمّا الرسالةُ فهي باقيةٌ بيننا في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم.. وقد تكفَّلَ الله لها بالحفظ:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]
إنّما تغيّرَ من حملوا الرسالة، أو لم يَعُدْ لها من يأخذُها بقوّة، ويحملُها بإخلاصٍ وَجِدٍّ إلاّ قليل.. فتغيّرتْ بنا الحال، وصِرنا إلى هذا الضعْفِ والهوانِ والبلاء.
ولن يتغيّر وضعُنا من جديد، ولن يحدثَ التحوّلُ الجذريُّ الحقيقيُّ المنشودُ في حياتنا، ولن نأخذَ مكانَنا في قيادةِ أمّتِنا وقيادةِ العالم.. إلاّ أن نصعدَ بأنفسِنا إلى مستوى من حملوا الرسالةَ أوّل مرّة.. إلى مستوى أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلّم، إيماناً وصدقاً، وعلماً ووعياً، وجهاداً وتضحية.. وإلاّ أن يكون لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ كما طلب الله عزَّ وجلَّ.. وعندها يقع التحوّل العظيم كرّة أخرى.
يجبُ أن نُجَسِّمَ في حياتِنا -لا في كلامِنا فقط- الإسلام، وأن نرتفعَ إلى مستواه، لا أن نتحدّثَ عنه في سمائِه العالية، ونحن في أرضَنا المنخفضة، وواقعِنا المنحطّ نتمرَّغُ في الوحول.

* * *

العلَّةُ الكبيرة إنّما هي فينا نحن الذين نسمي أنفسَنا «العاملين للإسلام»، ونتصدّى لقيادةِ المسلمين.. ونحن دونَ إسلامِنا ومهمّتِنا بما لا يقاس..
العلّةُ فينا أكبرُ منها في غيرنا، وأخطرُ منها في غيرنا، فَبِنَا يَصْلُحُ المسلمون -إلى حدٍّ كبير- أو يفسدون، وبنا يهتدونَ أو يضِلُّون، وبنا يَتَوَلَّدُ عندهم الثقةُ والأمل، أو اليأسُ القاتل..
لقد أصبحَ فينا حقيقةً من يُحسنون الحديثَ عن الإسلام، ولكنْ قلَّ فينا من يعيشون الإسلام، ويعيشون للإسلام.. ومن هنا كان المظهر أكبر كثيراً من الحقيقة، وكانت خيبات الأمل في كثيرٍ من المسلمين، وكان من المتحدّثين عن الإسلام أدواتٌ للاستغلال والتضليل.
نحنُ -أو أكثرنا- في واقِعنا الحاليّ، جزءٌ من الواقِع الفاسدِ المنحلِّ الذي نزعم أنّنا نريد تغييره بالإسلام..
نحنُ جزءٌ من هذا الواقعِ في دوافعِنا، ومطالِبنا، وأخلاقِنا، وكثيرٍ من مفاهيمِنا وأفكارِنا ووسائِلنا، فكيفَ نُغَيِّرُ هذا الواقعَ ونحن جزءٌ منه مرتبطٌ معه؟
إنّنا نتكلّم بألسنتِنا عن الإسلام، ونعيش بواقِعِنا الجاهليّة، فكيفَ يتحقّق بنا الإسلامُ العظيم؟

لا بدَّ لنا إذن -إن أردنا أن نكونَ حقيقةً نُقْطَةَ التحوُّلِ في حياةِ المسلمين، وحياةِ العالم- من أن نثورَ على واقعِنا، وواقع مجتمعِنا.. من أن نتحرّرَ من هذا الواقعِ بأفكارِنا ومشاعرِنا وسلوكِنا.. من أن نتحوّلَ إلى صورةٍ حقيقيّةٍ مجسِّمَةٍ للإسلام الذي نؤمنُ به وندعو إليه، حتى يمكن أن نحوّل مجتمعَنا إلى الإسلام، ونقودَ أمّتنا على طريقه، وننقذ به العالم من بَعْد.
لا بدّ لنا أن نُحَقِّقَ في أنفسِنا، وفي مجتمعاتِنا الصغيرة، منذ الآن، كلَّ ما نُريد أن نحقِّقَهُ في حياةِ المسلمينَ في المستقبل.. إن كنّا صادقين، وكنّا جادّين.
إنّ الفردَ مِنّا قد لا يَمْلِكُ أمرَ سواه، ولكنّه يملِكُ أمرَ نفسِه فلماذا لا يبدأُ بها؟ ولماذا لا يحقِّقُ فيها ما يدعو إلى تحقيقِه الناس؟
وإنّ الجماعةَ منّا قد لا تملكُ أمرَ سواها، ولكنّها تملك أمرَ نفسِها، فلماذا لا تبدأُ بها؟ ولماذا لا تحقّقُ في نطاقها ما تدعو إليه الناس، وهو السبيل الوحيد إلى مرضاة الله، وإلى خير الآخرة والدنيا؟

* * *

لقد استعاض المسلمون مع الأسف عن الواقع بالألفاظ، وعاشوا في عالم الكلمات والأسماء لا عالم الحقائق.. فلفظةُ الإيمان حلّت عندهم محلّ الإيمان، ولفظةُ الإخلاص حلّت محلّ الإخلاص، ولفظة الأخلاق والعمل والجهاد حلّت محلّ الأخلاق والعمل والجهاد.. فكانوا في واد وكلامهم في واد؛ بل إنّ من المتحدّثين عن الإسلام هذه الأيام مَنْ يعيشون حياةً مختلفةً كلَّ الاختلاف، أو متناقضةً كلَّ التناقض مع الإسلام، بل إنّ منهم من لا يزيد الإسلام عندهم عن وسيلة لمصالحهم الشخصيّة، أو أداةٍ لاستغلال المسلمين، وتسخيرهم لهذه الجهة أو تلك..

* * *

أيّها الإخوة
يجب أن تنتهي في حياة المسلمين هذه الحال.
يجب أن يزول في حياتهم هذا الانفصام الذي يرفضه الإسلام، وهذا التناقض الرهيب المزري.
يجب أن يعود الاقتران بين القول والعمل من جديد:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون <> كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:٢-٣]

والله تعالى يقول إخباراً عن شعيب عليه السلام:
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [الحجر: ٨٨]
ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبرنا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاريّ ومسلم عَنِ الرَّجُلِ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ (أمعاؤه) فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: «يَا فُلاَنُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».
وفي حديث آخر رواه الطبرانيّ في الكبير: «إنّ أُناساً من أهل الجنّة ينطلقون إلى أناس من أهل النار، فيقولون: بِمَ دخلتمُ النار؟ وما دخلنا الجنّة إلاّ بما تعلّمنا منكم. فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل».

* * *

يجب أيّها الإخوة -كما قلت- أن يعود الاقتران بين القول والعمل كما يفرض الإسلام، وأن تكون كلماتُنا الإسلاميّة تعبيراً صادقاً عن حياتِنا، وحياتُنا تجسيماً حيّاً لكلماتنا على كلّ صعيد.. وأن نقضي قضاءً مبرماً على الازدواجيّة والزيف، وأن يكون الطابع المميز لنا هو الصدق، والإخلاص، واستواء الباطن والظاهر، والقول والعمل.. وأن نبدأ جهادنا بأنفسنا، وأن نكون كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يأمرُ بخيرٍ إلاّ كان أوّل من يأتي به، ولا ينهى عن شرٍّ إلاّ كان أوّل تاركٍ له، فهذا هو الطريق.
ومن هنا كان حرصُنا في عملنا الإسلاميّ، في كل مكان ومجال، على أن نحقّق الإسلام في أنفسنا أوّلاً أفراداً وجماعة -مهما كان الجهد والثمن- وعلى أن نبدأ بأنفسنا كلّ ما ندعو إليه الناس

* * *

ونحن في هذه المرحلة التاريخيّة الحاسمة في حياة المسلمين، نشعر بواجبٍ خاصٍّ بالإضافة إلى كلّ الواجبات، وتَبِعَةٍ خاصّةٍ بالإضافة إلى كلّ التبعات في سائر الأوقات.. نشعر بأنّ علينا أن نوقف في أنفسنا الانهيار الذي يهدّد وجود المسلمين، وأنّ علينا أن نجعل من أنفسنا نقطة تحوّلٍ من الْجَزْرِ إلى الْمَدّ، ومنطلقاً حقيقيّاً لإقامة الحياة الإسلاميّة والحكم الإسلاميّ.. ولكلّ ما يريده الإسلام للمسلمين وللعالم في الحاضر والمستقبل.
إنّها مسؤوليّةٌ تاريخيّة خاصّة، كتب الله أن نحملها في هذه المرحلة الحاسمة.. وإنّها لأكبر مسؤوليّة يحملها إنسان أو مجموعة من الناس في هذا العصر.
وليس لنا أمام هذه المسؤوليّة خيار، إمّا أن ننهض بها بقوّة، فيكون لنا النصر أو الجنّة، وننقذ المسلمين والعالم.. وإمّا أن نرتدّ عنها فيكون لنا وبنا الهزيمة، والهوان، والهلاك.
أمّا الموقف بين موقفيْن في هذا الأمر، وفي هذا الوقت بالذات، فأخشى أن يكون خسارة الآخرة والدنيا.. ولا نضرُّ اللّهَ بعد ذلك شيئا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ <> إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون <> وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥٤-٥٦]

عصام العطار