عصام العطار كما عرفته
ورسائله لجيل الشباب
كلمة عن بعد في فعالية شبابية في إدلب بإدارة (Kitap kafe) في الشمال السوري
نظمت الجهة المضيفة البث المباشر عبر فيس بوك على هذا الرابط:
https://www.facebook.com/kitapkafe2022/videos/965028271731413
يمكن الوصول إليه من خلال منصة الجهة المضيفة (Kitap kafe) في فيس بوك:
https://www.facebook.com/kitapkafe2022
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله، أما بعد،
فكما رغب الإخوة المسؤولون عن الدعوة لهذا اللقاء وتنظيمه أتحدث إليكم تحت عنوان عصام العطار كما عرفته، من خلال ثلاث فقرات إن شاء الله:
الأولى عن نشأته وبعض جوانب حياته العامة والسياسية
الثانية عن علاقتي به على امتداد نصف قرن تقريبا
الثالثة عما كان يرجوه لجيل الشباب ومن الشباب من الإخوة والأخوات.
(١) من كان عصام العطار رحمه الله
هو من مواليد دمشق عام ١٩٢٧م.. عاش مائة عام هجري.. أو ٩٧ عاما ميلاديا.. وكانت له أدوار كبيرة، فكرية وثقافية ودعوية وحركية وسياسية وأدبية.
سؤال: هل يكفي للتعريف به حديث ساعة أو أكثر قليلا؟
كان أبوه محمد رضا العطار قاضيا وفقيها وأديبا وشاعرا، وعرفنا أمه كذلك وكانت تحدثنا يومذاك فتستشهد بنصوص نثرية وشعرية من عيون الأدب والشعر، وهي تناهز التسعين من العمر.. لا شك إذن أن هذه البيئة الأسروية ساهمت في نشأته المتميزة.
سؤال: هل يكفي ذلك لتفسير طاقته الكبيرة للحفظ، حفظ القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة والتراجم والشعر، ومن ذلك ما أعجب له، أنه لا يتعرف على شاب أو فتاة إلا ويسارع لذكر ذاك الاسم في بيت أو بيتين من الشعر مما يحفظ عن ظهر قلب، وقد كان في حدود العاشرة من عمره عندما حفظ ألفية بن مالك، الجامعة شعرا لقواعد النحو والصرف.
في عام ١٩٣٣م أسس الأديب الكبير أحمد حسن الزيات في مصر مجلة راقية باسم الرسالة فكانت تنشر لكبار الأدباء مثل مصطفى لطفي المنفلوطي، وعبد القادر المازني، وطه حسين، وأحمد أمين، وعباس محمود العقاد، وكان عصام العطار وهو في نشأته الأولى، يتابعها ويعجب بصورة خاصة بما يكتب علي الطنطاوي فيها وهو الملقب بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء.
في عام ١٩٤٥م تأسس المعهد العربي الإسلامي في دمشق، وفيه التقى العطار بعلي الطنطاوي مباشرة لأول مرة، إذ استضافه المعهد ليحاضر عن الأدب، فدخل معه في حوار، فتح الباب أمام علاقة أدبية ودعوية عميقة، وفي ذلك اللقاء -كما روى علي الطنطاوي نفسه ونقله فيمن نقله رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، د. علي القرداجي- أن الطنطاوي أعجب بعصام العطار، وأجلسه مكانه ليتحدث إلى الطلبة وقال فيما قال علام تطلبونني ولديكم هذا العالم الشاب، وكان ذلك عام ١٩٥٤م وكان عمر عصام العطار رحمه الله سبعة وعشرين عاما. كما انعقدت بينهما علاقة أسروية وثيقة، أفضت فيما بعد إلى زواجه بابنته بنان الطنطاوي رحمهم الله جميعا.
كان للعطار نشاطه في جمعية شباب محمد الدعوية، وتأسست جماعة الإخوان المسلمين في سورية عام ١٩٤٥م نتيجة اندماج عدد من الجمعيات الشبابية ومنها جمعية شباب محمد، وسرعان ما أصبح العطار وهو شاب، اليد اليمنى لمصطفى السباعي، المراقب العام الأول للإخوان في سورية.
في تلك الفترة أصبح العطار من أشهر الخطباء، يتناوب مع الطنطاوي والسباعي على خطبة الجمعة في مسجد الجامعة السورية في دمشق، فيستمع إليه عشرات الألوف، وهم يملؤون الشوارع والساحات في الجامعة وحولها، وذلك في حقبة خطيرة من تاريخ سورية، إذ وقعت خلالها سلسلة انقلابات عسكرية، وكان من أشدها استبدادا انقلاب أديب الشيشكلي، وقد وقف العطار عام ١٩٥١م خطيبا يعارضه معارضة شديدة، إنما نجا من تنفيذ أمر الاعتقال بحقه، بسفره إلى مصر، وهناك وجد الخطيبُ والأديب الشاب تكريما كبيرا من كبار الدعاة والعلماء والأدباء، أمثال سيد قطب وعبد القادر عودة ومحمد البشير الإبراهيمي وحسن الهضيبي ومحمود محمد شاكر وعبد الوهاب عزام وغيرهم.
عام ١٩٥٢م عاد إلى دمشق قبيل وفاة أبيه، ثم قامت دولة الوحدة المصرية-السورية عام ١٩٥٨م، وكان رئيسها جمال عبد الناصر، فكان العطار منفردا في المعارضة العلنية لممارساته الاستبدادية، ولكن عندما وقع سنة ١٩٦١م انقلاب عسكري عُرف بالانقلاب الانفصالي رفض العطار توقيع وثيقة الانفصال بين مصر وسورية، وعلل ذلك بأن الوحدة بحد ذاتها تتطلب موقفا مبدئيا، فهي مطلب شعبي عربي وإسلامي ولا ينبغي أن تخضع لمفعول الخلافات السياسية.
بعد الانفصال تألفت أول حكومة منتخبة وأصبح ناظم القدسي رئيسا للجمهورية، وبعد عدة أشهر وقع انقلاب عسكري آخر، واعتُقل رئيس الدولة القدسي، ورئيس الوزراء الدواليبي، ودعا الانقلابيون 13 شخصا من بينهم عصام العطار لاستلام الحكم في سورية، فرفض العطار وطالب بإعادة رئيس الجمهورية إلى مكانه، فأفرجوا عنه ورجع رئيسا للجمهورية. ولكنهم أجبروا نظام القدسي لاحقا على تكليف بشير العظمة بتشكيل الوزارة، فدعا عصام العطار إلى القصر الجمهوري وعرض عليه المشاركة في الوزارة، ورفض لأن بشير العظمة شيوعي ولا يصلح لتأليف الوزارة، وطالب بحكومة ائتلافية جماعية أو حيادية يطمئن إليها الجميع. فاتصل رئيس الدولة القدسي بالعطار وعرض عليه أن يشارك بأربعة وزراء يسميهم كما يريد ولكنه رفض أيضا وطالب الحكومة بالاستقالة في خطة جمعة مشهورة، فاضطرت حكومة بشير العظمة إلى الاستقالة بعد أيام معدودة.
هذه عناوين الأحداث قبل الانقلاب البعثي سنة ١٩٦٣م، وقد شهدت أوج شعبية العطار وممارساته السياسية عموما وعبر المجلس النيابي المنتخب الأول في تاريخ سورية تخصيصا، ويمكن التفصيل في فترة الحوار إن أردتم، إنما أختم هذه الفقرة الأولى بأبيات من الشعر تعبر عن جانب من شخصيته:
نَرْنو إلى اللهِ أَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً . . . اللّهُ غَايَتُنا واللهُ رَاعينا
وَمَا طَلَبْنا ثَواباً مِنْ سِواهُ وما . . . خِفْنا عِقاباً ولَمْ نُشْرِكْ بِهِ دِينا
العَيْشُ مِنْ أَجْلِهِ -إِنْ كانَ- بُغْيَتُنا ٠ ٠ ٠ والمَوْتُ مِنْ أَجْلِهِ أَحْلَى أَمانِينا
ما قَيَّدَ الفِكْرَ مِنَّا جَوْرُ طاغِيَةٍ ٠ ٠ ٠ أَوْ أَوْهَنَ العَزْمَ بَطْشُ المُسْتَبِدّينا
غَرامُنا الحَقُّ لَمْ نَقْبَلْ بِهِ بَدَلاً ٠ ٠ ٠ إِنْ غَيَّرَتْ غِيَرُ الدُّنْيا المُحِبِّينا
في الخَوْفِ والأَمْنِ مَا زَاغَتْ مَواقِفُنا ٠ ٠ ٠ وَالعُسْرِ واليُسْرِ قَدْ كُنَّا مَيامِينا
فَما رَآنَا الهُدَى إِلاَّ كَوَاكِبَهُ ٠ ٠ ٠ وما رَآنَا النَّدَى إِلاّ عَنَاوِينا
وما رَآنَا العِدَا إِلاّ جَبابِرَةً ٠ ٠ ٠ وما رَآنَا الفِدَا إِلاّ قَرَابِينا
نُفُوسُنَا السَّلْسَلُ الصَّافِي فَإِنْ غَضِبَتْ ٠ ٠ ٠ لِلْحَقِّ ثارَتْ على البَاغِي بَرَاكِينا
عِشْنَا أَبِيّينَ أَحْرَاراً فَإِنْ هَلَكَتْ ٠ ٠ ٠ في الحَقِّ أَنْفُسُنَا مِتْنَا أَبِيِّينا
* * *
الفقرة الثانية عن: (٢) علاقتي مع الراحل عصام العطار
في تلك الفترة ومع الانقلاب البعثي سنة ١٩٦٣م بدأت أعي لواقع بلادنا سياسيا، لا سيما وأن البلاد بدأت تغلي من أفاعيل الاستبداد البعثي والعسكري، كتنفيذ أحكام الإعدام العسكري لأول مرة بحق مجموعة ضباط حاولوا إسقاط النظام، ثم قصف جامع السلطان في حماة جوا عام ١٩٦٤م، واقتحام المسجد الأموي في دمشق بالمدرعات في العام نفسه، والاستيلاء على نقابات المحامين وهيئات القضاة وربطها بالسلطة، وغير ذلك من أفاعيل استبدادية دموية.
آنذاك كان محيى الدين القضماني رحمه الله، أستاذ اللغة العربية في مدرستي، وسمعت منه شيئا عن عصام العطار وخطبه وسياسته، وسمعت إحدى خطبه في مسجد الجامعة فتركت لدي أثرا عميقا.
* * *
غادر عصام العطار سورية عام ١٩٦٤م إلى الحج، وعند عودته ووصوله إلى حدود بلده، مُنع من الدخول، وكرر المحاولة مرة بعد أخرى مطالبا بإحالته إلى المحكمة إن اقترف ذنبا في نظرهم، ورفضوا ذلك أيضا، والواقع أنهم كانوا يخشون من شعبيته الكبيرة، الناشئة نتيجة اهتمامه المباشر بقضايا شعبية، واحتكاكه بالعامة والخاصة، كما كانوا يخشون من انفتاحه فكريا وسياسيا على أصحاب التوجهات الأخرى من فوق الانتماءات والعصبيات المختلفة.
عند منعه مرارا من عبور الحدود إلى وطنه أصبح ينتقل من بلد عربي إلى آخر، فكان المسؤولون يحتفون به بشرط ضمني أو صريح أن يعارض سياسات النظام في سورية كما يشاء، وقصدهم توظيف ذلك في الخصومات العربية-العربية، وكان يأبى أن يُستغلّ لهذا الدور كما يأبى شروطهم أن يتجنب الحديث عن ممارسات النظام في البلد المضيف، أي أن يمتنع عن الدفاع عن الحقوق والحريات العامة، وهكذا كان في ترحال متواصل. ومما قاله شعرا عن ذلك الترحال الذي تكرر في الأعوام التالية:
رَحَلْتُ عَنْكُمْ عَليلاً ناءَ بي سَقَمي ٠ ٠ ٠ وما تَنَازَلْتُ عَن نَهْجي وعَنْ شَمَمِي
أُتَابِعُ الدَّرْبَ لا شَكْوى ولا خَوَرٌ٠ ٠ ٠ ولَوْ نَزَفْتُ على دَرْبِ الإِباءِ دَمي
لا أَخْفِضُ الرّأْسَ ذُلاًّ أوْ مُصَانَعَةً ٠ ٠ ٠ هَيْهاتَ هَيْهاتَ تَأْبَى ذاكَ لي شِيَمي
وكيفَ أَخْفِضُ هامي -وَيْحَكُمْ- ضَرَعاً ٠ ٠ ٠ وقَدْ وَضَعْتُ على هامِ الدُّنَا قَدَمي
اللهُ حَسْبي إذا ما عَقَّني بَلَدٌ ٠ ٠ ٠ وضاقَتِ الأرضُ عن شَخْصي وعن قِيَمي
فما أُؤَمِّلُ غيرَ اللهِ مِنْ أَحَدٍ ٠ ٠ ٠ إنْ عزَّ أمرٌ ولا أَعْنو لِذِي نَسَمِ
وكان من محطات الترحال لبنان، بلدُ التعددية آنذاك، ولكن لم يجد استقبالا كريما بل تضييقا متصاعدا بلغ مداه عندما نشر عصام العطار مقالات صحفية عن سيد قطب يعدد مناقبه بعد صدور حكم الإعدام في مصر بحقه (نفذ الإعدام سنة ١٩٦٦م)، فتلاقت ضد عصام العطار القوى السياسية والمسلحة المتنفذة في لبنان، واعتقل ووضع في السجن، فأصابه المرض، وربما كان من أسباب شلله لاحقا في منفاه للعلاج بين جنيف السويسرية وبروكسل البلجيكية
* * *
في تلك الفترة انتهى بناء مسجد بلال في مدينة آخن الألمانية، وقد قام على بنائه عدد من الطلبة وهم على وشك العودة إلى بلدانهم، فأرادوا داعية مناسبا لإدارة الأنشطة فيه، فقبل عصام العطار بعرضهم ذلك، قبل أن يشفى تماما من الشلل، واستقر به المقام مديرا للمركز الإسلامي في مسجد بلال في مدينة آخن. وكان ذلك مقدمة توثيق العلاقة مع عصام العطار لمدة نصف قرن، وهو موضوع الحديث في هذه الفقرة. فآنذاك، وعلى وجه التحديد في عام ١٩٦٥م كنت قد خرجت من سورية إلى ألمانيا بقصد الدراسة واستقر بي المقام في مدينة بون على بعد حوالي مائة كيلو متر من مدينة آخن
لا أفصل مراعاة للوقت بل أكتفي ببعض المشاهد ومنها ما يعبر عن منهجه في رعاية الشباب وتوجيههم مع الحرص على التواضع والمحبة الأخوية.
في السبعينات من القرن الميلادي الماضي، لم تكن الصحوة الإسلامية قد انتشرت، فبدأ تأسيس العمل الإسلامي من نقطة الصفر، ومن ذلك إعلان المركز الإسلامي الثقافي في آخن عن ندوة شهرية، فكرية وثقافية، للتواصل والتوعية، وقد بدأت بالفعل بالعشرات من الطلبة في جامعة المدينة، بينما كان يوجد الألوف وعشرات الألوف من المسلمين في المنطقة، ولم تكن قد ظهرت وسائل التواصل الحديثة، وأراد عصام العطار استقطاب المزيد من المشاركين في الندوة الشهرية، فشرع في القيام بجولات على من يستطيع تحصيل عنوانه من المسلمين، وكنت بين أولئك على بعد مائة كيلو متر فكان أول لقاء مباشر مع عصام العطار رحمه الله، عبر زيارته لي وأنا طالب.
وكنت قد بدأت أمارس العمل الإعلامي منذ عام ١٩٦٨م، أي أثناء الدراسة، فطلب مني أن أشارك في الندوة الثقافية الشهرية التالية بحديث تحت عنوان “من شؤون المسلمين والعالم” ولبيت الطلب ولكن لم أكن على المستوى المطلوب فكان في تعقيبه يصحح لي معظم ما طرحت من أفكار وآراء، دون صرف النظر عن مشاركتي، فقد أتاني يؤكد تقديره لما سمع، وليطلب أن أعدّ زاوية من شؤون المسلمين والعالم بصورة دائمة للندوة الشهرية.
كذلك عندما أسس لصدور مجلة الرائد باسم المركز الإسلامي في آخن واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا، طلب مني أن أتولى إدارة تحريرها وهي مهمة استمرت سبعة عشر عاما، بدأت تحت توجيهه المباشر حتى أصبحت تدريجيا قادرا على أداء المهمة المطلوبة منفردا، إنما استمر في تقديم نصائحه منذ بدأت بنشر مقالات ودراسات، فكان مما قاله لي بأسلوب النصيحة:
يا أخ نبيل، لتكن عبارتك قوية مؤثرة، ولا يعني ذلك أن تكون شديدة قاسية.
يا أخ نبيل، لا تشغل لسانك وقلمك بالسفاسف والأمور الجانبية والصغيرة.
يا أخ نبيل، مراجعة ما تكتب قبل نشره أدعى إلى الإتقان.
يا أخ نبيل، الأفضل من كثرة الكتابة التركيز على ما تختار للكتابة فيه.
يا أخ نبيل، معرفتك بتاريخ قضية وكلياتها والقوى المؤثرة فيها من شروط استيعاب مستجداتها.
يا أخ نبيل، إذا كتبت في موضوع فعليك أن تقرأ بأقلام غيرك ما لا يقل عن عشرة أضعاف ما تكتب.
* * *
لم تقتصر العلاقة مع عصام العطار على ميادين عامة بل شملت من البداية العلاقة الأسروية بمشاركة أسر أخرى وعلى انفراد.
لا أزال أذكر كيف كان يقول لولديه هادية وأيمن وهما في المدرسة، إن احتجتم لشيء فاسألوا الأخ نبيل.
ولا أزال أذكر كيف كنت أسير معه في منطقة تسمى ملتقى البلدان الثلاثة، أي ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وهو يحدثني عن مسيرته الإسلامية وخلفياتها، أو يحاورني عن بعض ما ينبغي الحرص عليه في طريق الدعوة والحركة، ومن ذلك عندما أسأل عن بعض من كانت له صلة بهم رغم الخلاف على أمور دعوية وحركية، فكان يرفض الحديث عنهم سلبا ويؤكد أن الأهم من معرفة الخلافات وخلفياتها ومن المخطئ فيها، هو العمل الإيجابي لمعرفة الحق وإظهاره إيجابيا. وأشهد أنني باستثناء مرتن من باب التحذير الضروري في ظروف خاصة.. أشهد أنني لم أسمع منه كلمة سوء بحق أحد الخصوم، وفي بعض الحالات أسأله عن شخص ما فيقول لي: هو إنسان حبّاب، حتى أصبحت هذه العبارة عندي إشارة إلى عدم رغبته في الإفصاح بكلمة سلبية عنه بما يتجاوز التنويه العام.
بل كثيرا ما طلب مني بعض من ألتقيهم خارج ألمانيا وهم يعلمون علاقتي بعصام العطار، أن ألحّ عليه في كتابة مذكراته، وهو يكرر وجهة نظره مرة بعد أخرى، أن الغالبية يريدون أن يكشف عن أسرار ما، ويأبى ذلك فقد تكون فيه إساءة لآخرين.
* * *
كنا نتحدث باستفاضة في جولات مشتركة، أو خلال زيارات أسروية متبادلة، فيدور حديث أسروي جماعي في الوقت نفسه أو يدور حديث ثنائي يواكبه حوار ثنائي أيضا بين زوجتي وزوجه وهما تسيران أمامنا أو خلفنا، أو تجلسان على مقربة منا؛ وقد كانت زوجه بنان الطنطاوي حريصة على التواصل مع الأخوات الأخريات، لا سيما من تكون منهن في حاجة إلى الرعاية والمساعدة، فقد كانت أيضا من الداعيات العاملات، تلقي المحاضرات دوريا، وتنشر بعض ما تكتب، من كلمات ومقالات.
وأقتطف لكم مثلا بعض ما كتبت تحت عنوان كلمات صغيرة:
يسألونني: كيف تبتسمين رغم الدموع والآلام؟! وكيف تتفاءلين والآفاق في ظلام فوقه ظلام ومن دونه ظلام؟!
لا أدري! إن ابتسامتي قطعة من حياتي وطبيعتي، إن شيئا من طفولتي يعيش معي باستمرار، تتساقط دموعي بعفوية، وأبتسم بعفوية أيضا، دون تحليل ولا تفكير، كما يتعاقب المطر والصحو، والظلام والنور.
ولكن هناك في حياتنا ألوان أخرى من الابتسام، ألوان تعوّدناها وتأصلت عندنا على الأيام.
هناك -على سبيل المثال- ابتسام التحدي والشموخ؛ تحدي الطغيان والطاغوت، والشموخ على المخاوف والشدائد والمغريات، وعلى الحياة كل الحياة.
وهناك ابتسام الثقة بالله ونصر الله، رغم كل هزائم الحاضر وآلامه ومآسيه.
ولا أزال أذكر يوم السابع عشر من آذار / مارس عام ١٩٨١م عندما اتصل عصام العطار بي هاتفيا ليقول بصوت متهدج:
– قتلوها يا أخ نبيل، قتلوها.
وكانت سيارة الشرطة للحراسة تقف منذ زمن أمام باب العمارة لوجود معلومات عن محاولة اغتيال مرجّحة، ثم صدر قرار لأسباب غامضة بسحب السيارة في ذلك اليوم، فاحتال القتلة ليُفتح باب الشقة السكنية للعطار وأسرته، بأن أجبروا الجارة للوقوف أمام “عدسة” الباب، فاطمأنت بنان رحمها الله، وفتحت الباب، فقتلوها بخمس رصاصات، بينما كان زوجها في مراجعة صحية في المستشفى وكان ولداهما في المدرسة، وبعد اغتيالها اقتحموا المنزل ولم يجدوا أحدا من بقية الأسرة ليقتلوه، فلاذوا بالفرار.
وأكتفي بهذا القدر عن العلاقة مع عصام العطار رحمه الله، والمزيد في الحوار إن أردتم.
* * *
وأنتقل إلى الفقرة الثالثة بعنوان (٣) رسائل العطار لجيل الشباب.
وهذه أسهل الفقرات لأن حياته ودعوته وعمله.. جميع ذلك كان رسائل موجهة إلى جيل المستقبل، إلى الشباب والفتيات، بيانا لما يراه من واجبات مفروضة وأهداف كبيرة، وكان يغلب على تفكيره أن جيل المستقبل إذا استعد وتأهل كما ينبغي حقق المطلوب، وفي ذلك يقول:
نحن في حاجة إلى جيل يتفوق علينا في كل شيء وفي كل ميدان ليحقق ما لم نحققه من الأهداف الجليلة
ويقول:
ما أرهبَ يقظةَ الإنسان في نهاية حياته على ذنوبه وآثامه، وقد أَفْلَتَتْ من يديه حياتُه، وضاعت منه فُرصتُه في التصحيح والتقويم والعمل الصالح.. ولم يبقَ أمامه غير ما يخشاه من الحساب والعقاب.. إلاّ أنْ تَسَعَهُ رحمةُ الذي وسعتْ رحمتـُه كلَّ شيء
ويقول:
أَمُدُّ نظري عشراتِ السّنينَ فَقَطْ إِلى الأمام، فأرى طواغيتَ العالمِ والعصرِ جُثَثاً مُتَفَسّخَةً يأكلُها الدّود، أو هياكلَ عاريةً من العظام، أو تراباً عاديّاً من تراب الأرض
ويقول:
يجبُ أن نَمُدَّ أبصارَنا الحينَ بعد الحينِ في الزّمان والمكان، لتأخذَ الأشياءُ عندَنا حجمَها الحقيقيّ، ووزنَها الواقعيّ، ولِنُفَرّقَ بينَ الزّائلِ والخالد، والعَرَضِ والجوهر، ولنحرّرَ أنفسنا من كلِّ عبوديّةٍ لغيرِ الله الحيِّ الباقي الذي لا يزول، ولا نربِطَ قلوبَنا وعقولَنا بأحدٍ ولا بشيءٍ غيرِه عزَّ وجلَّ.
* * *
الرسالة الأكبر الموجهة إلى جيل الشباب تتمثل في حياته، ومن مصاحبته خلالها أقول: إنه ينتظر من جيل الشباب إلى جانب حماستهم ومضاعفة طاقاتهم، أن يؤهلوا أنفسهم للتفوق عبر العلم والمعرفة والوعي والرؤية البعيدة الثاقبة، واستيعاب الحاضر والواقع القائم والعالم المعاصر، حتى يكون الإعداد للتغير هادفا مدروسا، وفعّالا عبر تشبيك التخصصات وتكاملها؛ فآنذاك يمكن قطع الطريق بإبداع الوسائل ومضاعفة الإمكانات الذاتية للرؤية الشاملة والتخطيط المدروس والتحرك المشترك، والمواظبة على العمل حتى تتحقق الأهداف.
وأختم بأبيات كتبها في مقتبل شبابه، ويعبر فيها عما يرجوه لمن هم في عمر الشباب، فيقول:
طالَ المنامُ على الهوانِ فأينَ زَمْجَرَةُ الأُسودِ
واسْتَنْسَرَتْ عُصَبُ البُغاثِ ونحنُ في ذُلِّ العبيدِ
قَيْدُ العَبيدِ مِنَ الْخُنوعِ وليْسَ مِنْ زَرَدِ الحديدِ
فَمَتى نَثُورُ على القيودِ متى نَثورُ على القُيودِ؟
الليلُ طالَ وأُمَّتي لا تَسْتَفيقُ مِنَ الْهُجودِ
هَمَدَتْ على اليأْسِ الشّديدِ وَصَوْلَةِ الباغي الشّديدِ
وأنا الْمُؤَرَّقُ جَفْنُهُ يَرْنُو إلى الأُفُقِ البَعِيدِ
طَالَ اشْتِياقي لِلضياءِ ويَقْظَةِ البَطَلِ الشَّهيدِ
يا إخوةَ الهدَفِ العتيدِ وإخوةَ الدّرْبِ العتيدِ
يا صَرْخَةَ الإسْلامِ والإسْلامُ مَطْوِيُّ الْبُنُودِ
يا ثَوْرَةَ الحقِّ المبينِ على الضَّلالةِ والْجُحُودِ
هيَّا فَقَدْ آنَ الأوانُ لموْلِدِ الْفَجْرِ الْجَدِيدِ
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب