عصام العطار رحمه الله – نفحات من حياته
تحت إشراف مكتب الإفتاء والتحكيم
بدعوة من رابطة طلاب العلم الشرعي في مرسين جنوب تركيا
يوم السبت ١١ / ٥ / ٢٠٢٤م كانت هذه الاستضافة من جانب رابطة طلاب العلم الشرعي في مرسين جنوب تركيا، للحديث تحت عنوان نفحات من حياة الراحل.
* * *
الحمد لله والصلاة على رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبعد،
أشكر رابطة طلاب العلم الشرعي في مرسين على هذه الدعوة الكريمة وأسأل الله التوفيق لما يحب ويرضى في هذا الحديث الموجز تحت عنوان نفحات من حياة الراحل عصام العطار، ويشير العنوان إلى أن الحديث لا يتبع أسلوب السرد التقليدي لطرح سيرة حياة الراحل حسب تسلسل الأحداث والأعوام، لا سيما وأن الكثير من ذلك مذكور في المراجع والمواقع الشبكية المعنية؛ إنما ألتزم في هذا الحديث: نفحات من حياة الراحل، بالوقوف عند مختارات مما ترك لدي أثرا مباشرا أثناء علاقتي به زهاء خمسين عاما.
* * *
كان اللقاء الأول مع عصام العطار رحمه الله عن بعد، وهو ابن بضعة وثلاثين عاما، إذ كنت أستمع إليه يومذاك يخطب الجمعة في مسجد جامعة دمشق، ويستمع إليه أيضا عشرات الألوف ممن انتشروا في أرجاء الكليات الجامعية، وفي طرقاتها، وفي حدائقها، وفي الشوارع الكبيرة المحيطة بها؛ كنت في المدرسة بعد، وسمعت من أستاذي باللغة العربية آنذاك، محيي الدين القضماني، رحمه الله، أن عصام العطار خطيب مفوّه، وأنه يخطب على التبادل مع آخرين من كبار العلماء والدعاة، مثل علي الطنطاوي ومصطفى السباعي في مسجد جامعة دمشق، فذهبت لأسمعه، وما تكوّن وعيي السياسي بعد، فأذكر أنها كانت خطبة عصماء، ولكن لا أذكر الآن، أي بعد ستين عاما، ما إذا كنت قد سمعت يومذاك تلك الخطبة الشهيرة التي أنذر فيها الخطيبُ الشاب حكومة بشير العظمة بأن يكشف للشعب أمرها، وكانت مرتبطة بانقلاب عسكري شيوعي الاتجاه، فاضطرت الحكومة بعد تلك الخطبة بأيام إلى الاستقالة، خشية من شعبيته التي شملت أنحاء سورية، وعلمت لاحقا أنهم سبق وحاولوا استرضاءه بمقاعد وزارية له ولمن يختاره، فرفض ذلك بصورة حاسمة.
وفي ذلك اليوم تكوين الانطباع الأول لدي عن جانب من جوانب تأثيره السياسي منذ شبابه، دون اقتران ذلك بالتطلع إلى منصب من المناصب.
* * *
أما اللقاء المباشر الأول مع عصام العطار رحمه الله فيكشف عن جانب من أسلوبه في بناء أركان الدعوة إلى الله وسط ظروف صعبة، ويوضح ذلك أكثر إدراك ما كانت له من مكانة بين العلماء والدعاة إلى الله، بقيت وتنامت إلى آخر أيام حياته، وكان قد استقر به المقام في مدينة آخن مديرا للمركز الإسلامي في مسجد بلال بعد الفراغ من بنائه بفترة وجيزة، ولم تكن الصحوة الإسلامية قد انتشرت بعد، فكان معظم المسلمين في ألمانيا لا سيما من أتوا من البلدان العربية منهم، يعيشون خارج نطاق التوجهات الإسلامية، ضمن ما ساد من دعوات يسارية وشيوعية وحزبية وقومية، فأراد عصام العطار التأسيس للعمل الدعوي بندوة ثقافية إسلامية شهرية، وكان عدد المستجيبين لدعوته في البداية في حدود العشرات من مدينة آخن، ولم تكن وسائل التواصل الشبكية معروفة بعد، فبدأ يبحث عن عناوين السكن للشباب العربي المسلم، ويزورهم في بيوتهم ليدعوهم إلى المشاركة في تلك النواة الأولي للعمل الدعوي والفكري والثقافي، وكان نصيبي من ذلك أن زارني في البيت في مدينة بون على بعد مائة كيلو متر من آخن، وقد أصابني الغرور كطالب في الجامعة لم يبلغ بعد الرابعة والعشرين من العمر، يزوره داعية كبير متواضع وسياسي إسلامي في المنفى ولكن له مكانته التي بدأت من قبل أن يبلغ سن الشباب، فعندما كان في السادسة والعشرين من عمره، كان له من المؤهلات أن يشارك في مؤتمر جمع كبار علماء الشام والساسة من ذوي الاتجاه الإسلامي، مثل محمد المبارك، ومعروف الدواليبي، ومصطفى الزرقا، وعلي الطنطاوي، بالإضافة إلى ممثلين عن تنظيمات إسلامية ثقافية عديدة، ثم عندما انبثقت عن المؤتمر هيئة من العلماء اختير عصام العطار وهو في مقتبل الشباب ليكون أمينا عاما لها.
* * *
لقد بدأ نبوغ عصام العطار علما ومعرفة وتواصلا مع سواه منذ نشأته الأولى وهو الذي ولد عام ١٩٢٧م في أسرة دمشقية عريقة، وكانت أسرة العلم والأدب والشعر والشريعة والقضاء، وكان أبوه رضا العطا، قاضيا وفقيها وشاعرا، فكان من الشخصيات المعروفة في الشام في تلك الحقبة من التاريخ، ولم تكن حقبة بسيطة، بل حافلة بالأحداث؛ فولادته كانت بعد عامين من اندلاع الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، حتى إذا ما بلغ نشاطُه الإسلامي مبلغه، كان قد رحل الاستعمار الفرنسي عسكريا ولكن خلّف من ورائه سورية ولبنان تحت سيطرة أصحاب الاتجاهات اليسارية والشيوعية والبعثية، فكان لا بد من الحذر مع الجرأة لكل من ينشط من العلماء والأدباء والدعاة والشعراء والخطباء من ذوي الاتجاه الإسلامي ومنهم عصام العطار.
من ذلك شدة اهتمامه بكل من يلتقي به، كبيرا كان أو صغيرا، رجلا أو امرأة، متعلما أو عاميا، وأكاد أضيف من ذوي المناصب الرسمية ومن لا يشغل منصبا رسميا، فكان في جميع ذلك يطبق المبادئ التي رآها ودعا إليها وتشبث بها حتى وفاته، وفي مقدمة ما ترك لدي أثرا عميقا من مبادئه ما يعبر عنه بالقول:
(لا يوجد أصغر من أن يعلّم ولا أكبر من أن يتعلم)
وقد عايشت تطبيق ذلك أثناء حياته بصورة مباشرة، ولم أكن أتردد عن الإعراب عن الإدلاء برأي يخالف رأيه، وهو يشجعني على ذلك، بل يسأل عن رأيي بصورة مباشرة، أما إن أراد أن يصحح لي شيئا من ذلك فكان يقترن الرفق بحواره، متكلما ومستمعا.
* * *
ومن النفحات المستمدة من تأثر شخصي بما طرحه عصام العطار، كان عقب استلامي إدارة تحرير مجلة الرائد الصادرة عن المركز الإسلامي في آخن واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا، ونشر عصام العطار من خلالها مقالة بعنوان (يجب أن يبدأ في أنفسنا التحول) وهي تتحدث عمن يدعو للإسلام ويعمل من أجله، فلا بد أن يبدأ المرء بنفسه وفق ما يمليه القرآن الكريم، وهو ما يمتد إلى المشاركة في عملية النهوض ببلادنا وبالأسرة البشرية على أسس قانونية إنسانية وحقوق الحرية والكرامة والمساواة والعدالة والتنمية. يقول في تلك المقالة:
(إننا نقول دوماً في لقاءاتنا: المسلمون.. المسلمون.. ولا نذكر أنفسنا كأننا لسنا منهم..
عندما نعدد العلل، لا ندخل أنفسنا فيمن تفتك بهم هذه العلل
وعندما نعدد الواجبات، لا ندخل أنفسنا فيمن يجب عليهم النهوض بهذه الواجبات
أحاديثنا في الغالب ثرثرات، وكلماتنا مجرّد كلمات، لا تضعنا مباشرة أمام أي واجب من الواجبات.. نطوف بأحاديثنا الشرق والغرب، ونذهب بها إلى أبعد مكان وأبعد إنسان، وننسى مكاننا الذي نحن فيه، وأنفسنا التي يجب أن نبدأ بها، وننطلق منها.. وهكذا لا نجد أبداً نقطة البدء، ولا نكوّن المنطلق المنشود للتغيير
إنّ واقع المسلمين الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار المستمر في حياتهم يهدد وجودهم نفسه ولكن أين يمكن أن يقف هذا الانهيار، ويبدأ التحول؟ جوابنا الحاسم: في أنفسنا
يجب أن يقف في أنفسنا الانهيار، وأن يبدأ في أنفسنا التحول.. فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام، تحوّل بنا مجتمعنا، وتحوّل بنا المسلمون في كل مكان، وتحول بنا العالم..)
عندما نشرت تلك المقالة في الرائد، عام ١٩٧٧م، كنت أظنها حديثة الكتابة بقلم عصام العطار واكتشفت لاحقا أنها من عمر الشباب أيضا وهذا نموذج لسواها، فقد كان ما يكتب يتجاوز بمعناه أطر الزمان والمكان، فنقرأه اليوم وكأنه كتب لتوه، وهو يجيب على أسئلة مطروحة بإلحاح، وتحتاج إلى إجابات جوهرية وعملية. ومن المقالات المشابهة ما حمل عنوان (الغياب الإسلامي المذهل) و(أزمة روحية). ومما جاء تحت عنوان أزمة روحية:
(إنَّنا نتحدّث كثيراً عن حاجة المسلمين إلى المال، أو القوّة الماديّة، أو الاختصاصات العلميّة المختلفة ، الفلسفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها.. لإقامة حكم الله عزَّ وجلَّ، ولا نتحدّث إلاّ قليلاً جدّاً عن حاجة المسلمين إلى صدق الإيمان بالله تعالى، وتمتين الصلة به، وخلع كل ما يُعْبد من دونه، وامتثال أمره ونهيه، وتحرّي مرضاته في كلِّ عمل ، وإرادة وجهه في كلّ قصد.. مع أنّنا إن لم نؤمن بالله حقّ الإيمان، ولم نربط قلوبنا به ، ولم ننظر من وراء كلّ عمل إلى مرضاته، لم ننتفع بكلّ ما سوى ذلك، ولم تفدنا الوسائل إنّ صارت في أيدينا الوسائل.. وكم رأينا المال في أيدي بعض المنعوتين بالإسلام مَفْسَدَةً لهم، ومَهْلَكَةً للدين والْخُلُق، وكم رأينا الفكرَ والعلمَ مطيّةً للأغراضِ والمنافعِ الحقيرة، بل كم رأينا من العلماء بالإسلام نفسه من يضعون أنفسهم في خدمة أعداء الإسلام، ويحاربون أولياءه، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ مكسباً أو منصباً أو مالاً أو جاهاً أو عَرَضاً زائلاً ومتاعاً فانياً من متاع هذه الدنيا
ولم يبدأ الإسلامُ دعوتَه بالفروع، لكن بدأها بالجَذْرِ وبالأساس
لم يطالبِ الناسَ أوّلَ ما طالبَ بالدعوة، ولا بالقتال، ولا بالزكاة، ولا بالصوم، ولا بترك الخمر والميسر.. وإنّما طالبهم أَوَّلَ ما طالبَ بالإيمانِ بالله، وتوحيدِه، وخلع ما يعبدونَ من دونه.. لقد بدأ بالعقيدةِ ولم يبدأ بغيرِها من التكاليف، لأنّها الأساسُ الذي يُبْنَى عليه كلُّ تكليف، وبدأَ بالباطنِ لا بالظاهر، بقلبِ الإنسانِ وفكرهِ قبلَ كلِّ شيء، لأنّه من هناك يبدأُ التغيير ويكونُ الانطلاق)..
* * *
من النفحات الأخرى:
في عصرنا هذا الذي تكثر فيه الاختلافات والعصبيات والنزاعات نحتاج إلى التواصل فيما بيننا، والتلاقي على قواسم مشتركة، وهذا ما يحتاج بدوره إلى قلب وعقل منفتحين تجاه الآخر، في عالم التعددية بمختلف أشكالها، ويعلمنا القرآن الكريم أن الأمور المشتركة تخص جنس الإنسان، ولهذا يأتي الخطاب بصدد الكرامة والحقوق والحريات تحت عنوان أيها الإنسان، يا بني آدم، يا أيها الناس، مع عدم التخلي عن رابطة الأخوّة والموالاة بين المؤمنين.
ولقد عايشت ما يعنيه ذلك في معايشة عصام العطار باستمرار، وهو ما تجلّى بصورة خاصة أثناء التواصل واللقاءات، قبل اندلاع الثورات الشعبية في سورية، وأخواتها من بعد، والتقيت عنده مرارا مع الآخر ديانة أو اتجاها، ومن هؤلاء ميشيل كيلو وبرهان غليون وعارف دليلة وغيرهم، ناهيك عن التلاقي بين أصحاب الاتجاهات المتعددة تحت العنوان الإسلامي الشامل؛ ولا يقتصر ذلك على ما نعبر عنه بقولنا إن الخلاف لا يفسد للود قضية، بل كان المنطلق عند عصام العطار رحمه الله أن ما يجمعنا ضروري لنسلك طريقا مشتركا، ولا غنى عن ذلك للنهوض ولتحقيق الأهداف الجليلة الأخرى أيضا.
* * *
وأختم بكلمات معدودة عن جوانب إنسانية تجسدت في حياة عصام العطار
لقد كان العامل الإنساني لديه أشبه بالعامل أو المفاعل المشترك في تشكيل المركبات الكيميائية، كان إنسانا يحزن ويسر، يألم ويحلم، ومن أكبر اللمسات المعبرة عن موقع الإنسان في تكوين شخصيته، ما أشهد عليه مباشرة أننا كنا نتابع الأحداث العاصفة في بلادنا مثل الحروب الهمجية ضد أهلنا في فلسطين وما يثير الألم بصدد ما يصيب الضحايا، فكنا نتأثر ونتألم ونحزن أما عصام العطار فأشهد أنه كان يمرض لعدة أيام أحيانا، لا سيما وهو يعايش ما أصبحنا عليه من عجز وهوان مقابل همجية الظلم والعدوان.
ومن أكبر الشواهد العميقة على موقع الإنسان في تكوينه ابتلاؤه بفقد زوجه بنان الطنطاوي، عندما اغتالتها المخابرات السورية في ألمانيا وهي دون الأربعين من العمر.
يقول:
«بنانُ» يا صُورَةَ الإخلاصِ رائِعَةً
ويا مِثَالَ الفِدَى والنُّبْلِ والكَرَمِ
«بنانُ» يا مُقْلَةً للبِرِّ ساهِرَةً
لأَبْؤُسِ النّاسِ قدْ ناموا ولم تَنَمِ
«بنانُ» يا أُنْسَ أَيّامي التي انْصَرَمَتْ
ولَيْسَ يومُكِ في قلبي بِمُنْصَرِمِ
ويا رفيقَةَ دَرْبي والدُّنا ظُلَمٌ
وبَلْسَمَ الجُرْحِ في نَفْسٍ وفي أَدَمِ
ويا وِقَائي إذا ما كُنْتُ في خَطَرٍ
نَبْعَ الحَنانِ وبَرْدَ السَّلْسَلِ الشَّبِمِ
عِشْنا شَريدَيْنِ عَنْ أَهْلٍ وعن وطَنٍ
أَنَّى اتَّجَهْنَا وَرَأْيٌ غَيْرُ مُنْقَسِمِ
وقَصْدُنا اللهُ لمْ نُشْرِكْ بهِ أَحَداً
ونَهْجُنا الحقُّ لَمْ نَرْتَبْ ولَمْ نَرِمِ
حتى سَقَطْتِ على دَرْبِ الجِهادِ، وقَدْ
عَزَّ النَّصيرُ ، بلا شكْوى ولا نَدَمِ
وَبِتُّ وَحْدي على الدَّرْبِ العَتيدِ، وقدْ
غابَ الرَّفيقُ، بجُرْحٍ غيرِ مُلْتَئِمِ
تَبَّ الجُنَاةُ لَقَدْ أَْصْمَوْا بِخِسَّتِهِمْ
قَلْبَ المُروءَةِ والأَخْلاقَ والذِّمَمِ
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته