سوريا والتغيير في خرائط الواقع والتحالفات

نشرت في منتصف عام ٢٠١٨م في مركز الحضارة في القاهرة

ورقة بحثية – محاور مسيرة التحالفات الخارجية ونماذج من تطور أدوارها

86
خارطة سورية - الأغلال


pdf

ورقة بحثية

المحتوى:

مسارات انفرادية في تحالفات متقلبة

من محاور مسيرة “التحالفات” الخارجية

نماذج من تطور أدوار “التحالفات” الخارجية

مراجع

سورية معروفة بحدودها السياسية الحالية منذ منتصف القرن الميلادي العشرين، وكانت نشأتها الأولى نتيجة مباشرة لاستهداف منطقة بلاد الشام وأرض الرافدين بالتقسيم كجزء أساسي من تقسيم الإرث الجغرافي للدولة العثمانية، ويمكن الرجوع بهذا الصدد إلى أسباب يعددها كثير من المتخصصين في العلوم السياسية والتاريخ، وتشمل بالنسبة إلى سورية عوامل تاريخية وجغرافية وبشرية ذاتية، كما تشمل دوافع خارجية دولية. سيان ما هي الأسباب يبقى أن أي تقسيم لأي منطقة حسب التنوع البشري أو بمقاييس المصالح المادية، وحتى بموجب معطيات جغرافية و”جيوسياسية”، يساهم في تكوين تربة خصبة لتقلبات التحالفات الخارجية أو المشتركة بين قوى خارجية ومحلية، تبعا لمنظور كل منها إلى مصالح مشروعة ومطامع تتجاوز حدود المشروعية.

لهذا ينبغي في الحديث هنا حول متغيرات ما بعد ٢٠١٦م، استحضار عناصر عديدة كامنة في البعد التاريخي لتقسيم المنطقة وتكوين الدولة السورية، من حقبة سايكس بيكو إلى ما بعد اكتمال الجلاء العسكري الفرنسي عن الأرض السورية (١٧/ ٤/ ١٩٤٦م) ثم البعد التاريخي وبذور الصراع في الحقبة التالية التي كانت -باستثناء فترة قصيرة للتجربة الديمقراطية- حقبة انقلابات عسكرية وتسلّط استبدادي.

مسارات انفرادية في تحالفات متقلبة

شهدت العقود الماضية ولادة عوامل محلية عديدة، منها الانتماءات القبلية والعقدية مثلا، فتركت أثرها على توجيه الارتباطات الخارجية، المتشعبة مع تشعب مسارات الثورة نفسها، بعد انطلاقتها الشعبية المحضة في آذار/ مارس ٢٠١١م. ومن ذلك الأثر ما ساهم في تقلب تحالفات أو شبه تحالفات، مما تشكل بدعوى “دعم” الثورة، أو بغرض العمل المضاد لها وللثورات الشعبية الأخرى في المنطقة.

ولكن العوامل الأشد تأثيرا في هذا التقلب تتجاوز ما يرتبط محليا بسورية وثورتها، إلى محاور تاريخية / سياسية أخرى بالنسبة إلى كل طرف مشارك في التحالفات من الأطراف الخارجية على حدة، سواء من حيث أوضاعه الذاتية أو ارتباطاته بمسرح الأحداث الدولية المتشابكة، وهذا ما يحتاج إلى دراسات متعمقة ليست مطلوبة في هذا البحث الموجز، ومن ذلك مثلا:

إيران..

الدولة التي ضاعفت ثورتها عام ١٩٧٩م الاهتمام المحلي والدولي بها، بعد دور شرطي الخليج في عهد الشاه، فتركز على “الملف النووي” وعلى تصعيد عنفوان سعيها للهيمنة إقليميا، وهو ما اختلط باستقطاب طائفي في “تصدير الثورة” من جهة، ومن جهة أخرى بتسويق الأهداف الإقليمية عبر العناوين الكبرى حول “المقاومة والممانعة”، التي اكتسبت مواقعها على خلفية التصادم الفعلي مع مشاريع الهيمنة الصهيوأمريكية.

وسورية تحت سلطة نظام (الأسديّين) أول دولة تحالفت تحالفا وثيقا مع إيران منذ السنة الأولى لثورتها سنة ١٩٧٩م، وهو التحالف المتنامي في سنوات ما عرف بأحداث الثمانينات الدامية في سورية وأثناء الحرب الإيرانية-العراقية والمنعكس في إحلال “المقاومة” المرتبطة بإيران بزعامة “منظمة حزب الله” في لبنان، مكان المقاومة الفلسطينية.

تركيا..

الدولة الصاعدة اقتصاديا وسياسيا منذ بضعة عشر عاما، بتوجه إسلامي حضاري تستهدفه قوى دولية ومحلية مضادة، داخل الحدود التركية وإقليميا، وكان من المؤشرات المبكرة لذلك موقف تركيا أثناء حرب الاحتلال الأمريكي للعراق، ثم التجاذبات المزمنة بين تركيا وغالب العواصم الأوروبية بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فضلا عن مساعي التطوير المتواصل للعلاقات الإقليمية التركية في اتجاه المنطقة الإسلامية قبل ما عرف بثورات الربيع العربي.

روسيا..

تزامن اندلاع الثورات الشعبية العربية مع خروج الاتحاد الروسي من حقبة سقوط  حلف وارسو بعد سقوط الشيوعية ببعدها “الامبراطوري” سوفييتيا، ثم حقبة إعادة بناء الاتحاد الروسي وإخماد تطلعات محلية للاستقلال وسط آسيا، وصولا إلى حقبة التطلع لمكانة دولية متقدمة جديدة في نطاق ما يوصف بالعالم المتعدد الأقطاب، وهذا ما تزامن بالمقابل مع تعثر مسار الزعامة الانفرادية الأمريكية لعالم ما بعد الحرب الباردة، لا سيما بعد حصاد سلبيات التحركات العسكرية الأمريكية ما بين بحر الصين وبحر العرب.

أوروبا..

لم تتمكن في الألفية الميلادية الثالثة من تكوين “قطب سياسي/ عسكري” ينهي حالة “التصدعات المتعددة” في مسيرة الاتحاد الأوروبي، وهذا رغم تجديد قوتها الاقتصادية والمالية بعد الأزمة النقدية الأوروبية، التي وجدت نهايتها بالتوافق على عملة اليورو الموحدة، ونظام تعامل مالي أوروبي جديد، وانعكس ذلك في ضعف القواسم المشتركة للجمع بين رؤى القوى الأوروبية الرئيسية للتعامل مع ما صنعته موجة الثورات الشعبية العربية المجاورة، لا سيما التي امتدت زمنيا في سورية أكثر من سواها.

يمكن تعداد المزيد من هذه المحاور بصدد تعدد منطلقات المسارات الانفرادية الخارجية المشاركة في تحالفات التعامل مع الثورة في سورية، وفي مقدمتها ما وصل إليه المشروع الصهيوأمريكي في فلسطين وما حولها، وما وصل إليه “تدمير” العراق كقوة إقليمية، ومن قبل مصر عبر “أغلال كامب ديفيد”، ثم ما طرأ من تصدّع على المسيرة الخليجية، مع متابعة تحجيم القدرات السعودية وهدرها مقابل تضخيم خطر مشروع الهيمنة الإيراني.. هذا ناهيك عما يرتبط مباشرة بضعف نسيج القوى السورية نفسها، داخليا على خلفية ما أفرزه ترسيخ استبداد قمعي فاسد لعدة عقود، وخارجيا عبر إنهاء الدور السابق للنظام في لبنان المجاور.

إن الأرضية التي تحركت عليها تحالفات وشبه تحالفات تشكلت أثناء الثورة الشعبية أوجدت بيئة تحتم تقلب التحالفات، وكان من انعكاساتها باختصار:

أولا- بغض النظر عن عوامل القصور الذاتي والأخطاء.. وكذلك بغض النظر عن “المطامع” التقليدية الأجنبية للهيمنة، لم تجد الثورة الشعبية في سورية من يمكن الاعتماد عليه حتى مصلحيا كحليف دولي أو إقليمي دائم، ربما باستثناء تركيا جزئيا، كذلك لم تتحرك القوى الوطنية السورية وسواها، بعد أن فاجأتها الثورات الشعبية العربية، في اتجاه تنسيق جماعي -ناهيك عن تحالف- لتدعم قوى التغيير الثورية العربية بعضها بعضا.

ثانيا- لم تتوافر للقوى الإقليمية والدولية المعادية للثورة عوامل فاعلة تجتمع عليها دون تقلب تحالفاتها، رغم هدف مزدوج يمثل قاسما مشتركا فيما بينها، وهو (١) منع تحرر الإرادة الشعبية تحررا يبدل موازين لعبة الهيمنة والتبعية في المنطقة و(٢) ترسيخ دعائم وضع بديل في سورية يتلاءم مع معطيات المنظومة الإقليمية والدولية القائمة.

ثالثا- لم يتحرر تشكيل التحالفات من ارتباط كل طرف بعوامل ذاتية خاصة به وباللحظة الآنية لتموضعه دوليا، ويسري ذلك على:

(١) تركيا بين الاستمرارية والانقلاب.

(٢) إيران بين قيود الاتفاق النووي وتخفيفها.

(٣) روسيا بين أوكرانيا والعلاقات بالغرب.

(٤) الولايات المتحدة الأمريكية بين عهدين رئاسيين متناقضين.

(٥) الاتحاد الأوروبي بين أزماته الداخلية، ومنها صعود اليمين المتطرف ونكسة الانسحاب البريطاني.

(٦) دول الخليج العربية بين جولات صراع الأدوار الإقليمية.

(٧) بلدان الربيع العربي على إيقاع نكسات المسارات الثورية.

ليس مفعول هذه العوامل الذاتية عند كل طرف أقل شأنا من مفعول الأسباب الذاتية في مسار الثورة في سورية، فكان لا بد أن تتقلب التحالفات الآنية، إذا صح وصفها بالتحالفات، والواقع أنها كانت دوما أقرب إلى التلاقي المؤقت على أهداف مرحلية متبدلة ومتطورة باستمرار.

من محاور مسيرة “التحالفات” الخارجية

سيان حول أي “تحالف” يدور الحديث أو حول أي مرحلة من المراحل الزمنية لمسار الثورة في سورية، فإن معظم ما انعقد وينعقد من “تحالفات” يلتقي عند محاور مشتركة، تساهم في استشراف حصيلة الممارسات المتقلبة الصادرة عن تلك التحالفات، ومن تلك المحاور كأمثلة:

المحور الأول: محدودية استفادة الثورة من “التحالفات”

نتجاوز ما كان من تحركات تحت عناوين أصدقاء سورية وأصدقاء الشعب السوري وما شابه ذلك، ونتساءل عمّا حصلت عليه الثورة من “التحالفات” ونعود إلى ما رسم توجهاتها قبل ٢٠١٦م:

(١) أول ما نشأ من “تفاهمات” أو ما أصبح “إطارا” لما تلاه من سياسات، هو “التفاهم الأمريكي-الروسي” سنة ٢٠١٢م على خلفية الإعداد لمسلسل لقاءات جنيف، والواقع أنه بقي ساري المفعول طوال السنوات التالية، وقد وضع حدودا لما سواه، وهو ما جعل تعامل الطرفين ومن يرتبط بهما في مسار الثورة في سورية تعاملا يتحرك بين تجنب التصعيد أو الانزلاق في مواجهة مباشرة، وبين توافق ضمني أو عملي واقعي على أسلوب الحرب الباردة القديم لاقتسام مناطق النفوذ إما توافقا ثنائيا، أو صراعا ولكن بصيغة الحروب بالنيابة، وإن لم يمنع ذلك من التدخل الروسي المباشر لعدم وجود قوة تعتمد “بالنيابة” عليها، وللاطمئنان إلى عدم توقع مواجهة مباشرة مع الطرف الأمريكي.  

في فترة ما بعد سنة ٢٠١٦م كان من شواهد المعادلة الثنائية تعامل الطرفين مع رسم حدود “النفوذ” في منطقة حوض الفرات الزراعية والنفطية، وفي المنطقة ذات الأهمية المتميزة استراتيجيا في جنوب سورية وجنوبها الشرقي.

(٢) أعلن رسميا في آب/ أغسطس ٢٠١٤م عن تشكيل التحالف “الدولي” (أو الأمريكي بمنظور صناعة القرار وتنفيذه).. وكان هذا التحالف مؤشرا تطبيقيا لبداية تراجع أمريكا وحلفائها عن وعود “رسمية” سابقة بدعم الثورة عبر دعم “الفصائل” لإسقاط النظام الأسدي، والتحول بدلا من ذلك إلى تأكيد استهداف “داعش” فحسب، وهذا ما بقي الحال عليه رسميا من بعد.

ولكن.. تبين من نشر القواعد العسكرية على الأرض، ومن توجيه ضربات محدودة لقوات النظام الأسدي إذا تجاوز “خطوطا حمراء” معينة، وجود أهداف ذاتية لذلك التحالف، وأنها أهداف أمريكية وإسرائيلية في الدرجة الأولى، أمنية واقتصادية و”جيوسياسية” من حيث المضمون.

لا يأتي ما سبق بجديد أو استنتاج مفاجئ في إطار الحديث عن أغراض قوى أجنبية، أمريكية أو روسية أو إسرائيلية تخصيصا، ولكن يأتي ذكره هنا للتأكيد أن الصيغة المذكورة تنطبق بدرجات متفاوتة على جميع ما نشأ من تحالفات أو شبه تحالفات في مسار سنوات الثورة، بمشاركة قوى إقليمية أيضا، وهذا من قبل المتغيرات ذات التأثير على التحالفات، بما فيها عامل الانتخابات الأمريكية الذي كثيرا ما تصدر التحليلات والتنبؤات بصدد أي تبدل سياسي أو أمني على المستوى العالمي. ولئن تحققت رغم ذلك فوائد جزئية ما لصالح الثورة الشعبية في سورية، فهي تتحقق كنتائج جانبية أو تداعيات “غير مقصودة” فحسب.

الحصيلة: لم تكن الثورة وتطورات مسارها عنصرا أساسيا لعقد التحالفات “حول سورية” ولسياساتها وممارساتها، بل كان المنطلق لذلك من البداية هو “التعامل” مع الثورة كواقع قائم فرض نفسه، وهو تعامل بأغراض ذاتية وبنتائج جانبية، هي -بمعيار تحقيق الأهداف الشعبية في سورية- مصدر ضرر كبير بها، وإن أفادتها أحيانا فبحدود ضيقة للغاية.

المحور الثاني: تناقضات بين المتحالفين

لا يخفى أن مفعول التحالف يتأثر بحجم ما يوجد من تناقضات بين المشاركين فيه، وهذا ما يسري على “التحالفات” ذات العلاقة بالثورة في سورية، ومنها تناقضات جذرية باقية في المستقبل المنظور، إضافة إلى تناقضات آنية، يتم تجاوزها أثناء التحالفات، فإن اتخذت الأحداث مسارا غير متوقع من جانب أحد الأطراف يمكن أن يتبدل تعامله مع التحالف المعني سلبا أو إيجابا.

هذا ما يسري على القوى الدولية عموما، ويسري أيضا على القوى الإقليمية بصورة ساهمت الثورات الشعبية لا سيما في سورية في الكشف عنه استعراضيا في غالب الأحيان.

من ذلك كأمثلة:

أولا- التناقض الجذري بين أطراف خليجية بزعامة سعودية وبين إيران، فهو تناقض قائم من قبل الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩م، وقد كشف التعامل مع الثورة في سورية (واليمن.. وسواهما) أنه أعمق تجذرا من إمكانية تجاوزه على المدى القريب والمتوسط بأي صيغة من صيغ التفاهم على “رؤية وسطية” فضلا عن استحالة التحالف وفق معايير المصالح المشتركة، بل ساهم هذا التناقض إلى حد كبير في انسياق الأطراف المذكورة إلى سياسات وتحالفات تصب في المصلحة الصهيونية، أي “العدو المشترك إقليميا” بمختلف المقاييس المنطقية المعتبرة سياسيا.

ثانيا- التناقض الجزئي (على الزعامة الإقليمية) بين أطراف خليجية بزعامة سعودية (ومشاركة مصرية منذ كامب ديفيد) وبين الدولة التركية الجديدة في عهد حزب العدالة والتنمية، ولم يمنع ذلك من “محاولات” التفاهم والتقارب على صعيد التعامل مع الثورة في سورية، لا سيما في مواجهة الدور الإيراني لتقويض الثورة، ولكن لم تنجح المحاولات، وأصبح احتمال تجديدها ضعيفا بعد ما سمي الأزمة الخليجية، والدور الأمريكي فيها مع ربطها بمساعي تصفية قضية فلسطين.

ثالثا- التناقض الجزئي (على الزعامة الإقليمية) بين تركيا وإيران، لم يمنع من المشاركة فيما يشبه التحالف على المحور الروسي تحت عنوان “آستانا”، وقد ساهم في ذلك وجود مصالح مادية حيوية وبالغة الأهمية للطرفين على الصعيد الاقتصادي وعلى صعيد تموضعهما على خارطة المنظور العالمي للمنطقة، وكذلك وجود مصالح “أمنية سياسية” في التعامل مع قضية الأكراد إقليميا.  ولكن هذا “التحالف الثلاثي”، أضعف من ضمان استمراريته، وإن لعبت عودة السياسة الأمريكية إلى التصعيد مع إيران، دورا “غير مقصود” في تعزيزه، هذا مع عدم إغفال حجم المساعي الأمريكية، سلبا وإيجابا، للحيلولة دون استمرار تركيا على هذا الطريق.

الحصيلة:

إن هشاشة التحالفات ناجمة عن تناقض أغراض المتحالفين، وهذا ممّا يلغي وجود تحالفات فعلية ومستدامة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، والشواهد على ذلك قائمة ومن أبرزها للعيان ما يدور من مساومات أمريكية مع تركيا على حساب التحالف الأمريكي مع الأكراد (أو فريق من الأكراد) ومن الشواهد أيضا تكرار التفاهمات الروسية الإسرائيلية على حساب الحليف الإيراني لموسكو، وكذلك على حساب عودة التوتر بشدة للعلاقات التركية الإسرائيلية الموروثة من عقود ماضية، هذا فضلا عن انهيار محاولات التحالف أو التعاون التركية الخليجية، فضلا عن بوادر تفاهم أمريكي-روسي لا يقف عند ما يتعلق بالثورة في سورية فقط.

المحور الثالث: أرضية جديدة تخدم العمل المضاد للثورات

يمكن التمييز بوضوح بين مرحلتين في مواقف الدول الإقليمية والعالمية من الثورات الشعبية العربية:

المرحلة الأولى: امتصاص صدمة المفاجأة إزاء صعود قوة الثورات الشعبية على غير انتظار، وأول ما عبر عنه الموقف المتسرع من جانب وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك من انطلاق الثورة في تونس.

المرحلة الثانية: علنية التحرك المضاد للثورات بعد تواريه مؤقتا خلف صيغ متعددة لوعودٍ كان محورها دعم حق التحرر من الاستبداد.

إنما تفاوتت في بلدان ما سمي الربيع العربي الفترة الزمنية لوقوع أحداث تصلح كذرائع من أجل الانتقال من مرحلة التورية إلى مرحلة العلنية، فكانت هي الأطول في سورية بالمقارنة مع سواها، وقد كانت البداية سنة ٢٠١٦، وبلغت العلنية أوجها سنة ٢٠١٨م.

في هذا الإطار كان تطور ممارسات التحالفات وما يشابهها يزداد سوءا بمنظور الثورة وأهدافها، وهو ما اتخذ ثلاثة مرتكزات محليا وإقليما ودوليا:

أولا- على الصعيد المحلي:

مع نهاية ٢٠١٦م وصل استنزاف الطاقة الثورية الشعبية في سورية إلى أقصى مداه في عدة اتجاهات، في مقدمتها:

(١) وصول حجم المأساة الإنسانية إلى أشد درجاته قسوة، ومن رموزه تشريد الملايين، وقد بلغ حجما غير مسبوق في اتجاه الدول الأوروبية خلال سنة ٢٠١٥م، وتزامن ذلك مع “استعراض” العجز الدولي، الحقيقي أو المزعوم، عن التعامل الواجب مع ما يتم الكشف عنه رسميا من جرائم كبرى علاوة على التشريد، كما كان بشأن قتل الألوف تحت التعذيب، واستخدام الأسلحة المحرمة والفتاكة وإن لم تكن محرمة دوليا.

(٢) إغراق الوجه الشعبي للحدث الثوري وأهدافه المشروعة في مساوئ مشاهد النزاعات الفصائلية (لا سيما في ريف حلب وغوطة دمشق) وبالتالي تغييب البوصلة الشعبية نفسها عن مسار الثورة ميدانيا وسياسيا، رغم حجم التضحيات الشعبية الكبير في مسار الثورة.

(٣) وصول ضغوط جهات التمويل والدعم للفصائل المسلحة إلى أقصى غاياتها، بعد أن استحوذت عبر السنوات السابقة على مفاتيح المتطلبات المعيشية لعائلات المسلحين والحاضنة الشعبية، ولم تقف عند حدود السيطرة على مفاتيح نوعية التسليح وتأمين الذخائر.

(٤) تشويه مسارات الحدث الثوري الأصلي بشأن تحرير الإرادة الشعبية في مسارات التعامل مع ممارسات إرهابية دخيلة وطارئة انتحلت اسم الثورة أو اسم الإسلام تزويرا، هذا بغض النظر عن حجم القسط الدولي والإقليمي، الاستخباراتي وغيره، في صناعة هذه الظاهرة أو دعمها لتصبح خطرا طاغيا على المشهد الثوري، عموما وليس في سورية فقط.

ثانيا- على الصعيد الإقليمي:

مع نهاية سنة ٢٠١٦م تهيأت أيضا المعطيات الإقليمية الأساسية للانتقال من مرحلة إلى أخرى في التعامل مع الثورة الشعبية في سورية، ومن ذلك:

(١) الوصول إلى الهدف الأول من التحرك المضاد للثورات في البلدان الأخرى التي عرفت ببلدان الربيع العربي، فبعد إطالة أمد نزيف الطاقة الشعبية المتفجرة واستنزافها، لا سيما في مصر واليمن بعد تونس وليبيا، بدأت تظهر للعيان المعالم الكبرى للانحراف بالمسار السياسي والعسكري إقليميا، بعيدا عن تحقيق أهداف ثورية مشروعة، جنبا إلى جنب مع التركيز على مرحلة جديدة في جهود تصفية قضية فلسطين المحورية.

(٢) محاولة الانقلاب العسكري في تركيا، وبالتالي ظهور حجم ما يبذل لتحجيم الدور المتميز لتركيا، وقد ظهرت معالم ما يمكن أن ينبني عليه مستقبلا حضاريا وليس على الصعيد الاقتصادي والسياسي داخليا وإقليميا فقط، وهذا ما قوبل بمضاعفة جهود العمل للحدّ من تأثير تركيا إقليميا، وانطوى على ما يتعلق بمسار الثورة في سورية المجاورة تخصيصا.

(٣) من المعطيات المتغيرة إقليميا أيضا ما ارتبط بإيران، فتحركاتها ضد الثورات الشعبية، لا سيما في سورية واليمن (وكذلك في ساحة العراق من قبل) لم تكن تجد عوائق “غربية”، بل وجدت التسهيل واقعيا ومن ذلك الدعم المالي غير المباشر عبر بنود “الاتفاق النووي”، وهو ما بدأ باستعداد أمريكي (٢٠١٢م بعد انطلاق الثورات الشعبية بعام) للمشاركة في المفاوضات حول الملف النووي.

وقد تحقق حتى سنة ٢٠١٦م أهم الأغراض الأساسية المطلوبة “غربيا” من التحركات الإيرانية إقليميا، وساهمت إيران واقعيا في نشر ما يوصف أمريكيا بالفوضى الخلاقة في البلدان العربية، لا سيما مواطن الثورات الشعبية، وعادت الأولوية الغربية، لا سيما الأمريكية أو الصهيوأمريكية إلى التركيز على تحجيم الدور الإيراني الإقليمي مجددا قبل أن يتجاوز الخطوط الحمراء المتعلقة بالتنافس أو الصراع بين مشروع الهيمنة الإيراني ومشروع الهيمنة الإسرائيلي.. ولا يخفى أن الساحة الأولى لهذه النقلة هي الساحة السورية.

(٤) من المعطيات المتغيرة إقليميا، والتي لا تنفصل عن الدور الإيراني وعن قضية فلسطين، ما شهدته منطقة الخليج لاحقا تحت عنوان الأزمة مع قطر أو حصار قطر، وهو ما أضاف مزيدا من الشروط  لتقديم “دعم” خليجي لفصائل الثورة في سورية، بعيدا عن تحقيق هدف تحرير الإرادة الشعبية.

ثالثا- على الصعيد الدولي:

علاوة على التبدل الكبير في المعطيات المحلية والإقليمية بمنظور الثورة الشعبية في سورية، طرأت على الساحة الدولية تطورات أساسية أعطت سنة ٢٠١٦م أهمية خاصة في تبدل التحالفات وما يشابهها رسميا، أو من خلال ما تمارسه ميدانيا. ومن أهم المعطيات المتبدلة في الساحة الدولية وبالتالي أهم عناصر التأثير على التحالفات المتعلقة بسورية:

(١) انتقال السلطة في الولايات المتحدة إلى ترامب في صناعة القرار الأمريكي وإخراجه، والواقع أن ما تغير هو الأسلوب وليس جوهر التعامل مع أحداث المنطقة عموما:

– تحت عنوان الفوضى الخلاقة مع إثارة نزاعات قطرية وإقليمية، وقد استأنف ذلك أوباما وترامب ما بدأ في عهد بوش الابن..

– والحروب بالنيابة، وهو ما تراجع في عهد بوش الابن ليستأنفه أوباما ثم تضاعف في عهد ترامب..

– واستخدام الأسلحة الموجّهة عن بعد (البداية مع بوش الابن والذروة في عهد أوباما..

– وانتزاع تمويل محلي لتحركات أمريكية، وقد بدأ بحرب العراق منذ عهد بوش الأب، وبلغ درجة استعراضية في عهد ترامب..

جميع ذلك لا يستثني ميادين التحرك المضاد للثورات الشعبية بطبيعة الحال لا سيما في سورية.

(٢) الصعود الحزبي والسياسي لما يسمّى اليمين المتطرف في أكثر من دولة أوروبية رئيسية، وربط ذلك بصورة مباشرة بحركة التشريد واللجوء الكبرى من سورية في اتجاه أوروبا سنة ٢٠١٥م بعد أن اقتصرت أعباؤها الكبرى من قبل على الدول المجاورة، لا سيما تركيا.

(٣) تجدد أسباب النزاعات / المنافسات الأوروبية-الأمريكية، وما يرتبط بذلك من حجم التأثير الأمريكي على مسارات أحداث يمكن أن تعرقل المسيرة الأوروبية أو تزيد مشكلات الدول الأوروبية مع قوى ذات علاقة بالحدث الثوري في سورية، لا سيما روسيا وتركيا وإيران.

الحصيلة:

إن ما تبدّل بين مطلع الثورات عام ٢٠١١م، وبين ما وصل إليه مسار الثورة في سورية تخصيصا سنة ٢٠١٦م، لم يبدّل التوجهات الكبرى للقوى الدولية والإقليمية، بل كان نقلة من مرحلة تنفيذية إلى أخرى، ومن ذلك الانتقال من التمويه بدعم “ثورات شعبية” إلى الجهر بممارسات عسكرية وسياسية لإعادة أوضاع شبيهة بما كان قبل الثورات ولكن بصيغ جديدة، وهو ما تحقق أو بدأ تحقيقه في بلدان الربيع العربي، ولا يزال متعثرا في سورية وإن بدأت مقدمات المرحلة الأخيرة منه بالظهور، فما تبدل عموما وعلى صعيد التحالفات بين ٢٠١٦ و٢٠١٨م أقرب إلى مواصلة العمل لتحقيق أغراض ثابتة بوسائل أخرى أو حتى بإخراج آخر فحسب، ولا أهمية هنا إن حصل بعض ذلك اضطراريا أو كان مدروسا وموجها من البداية، فالأهم هو الحصيلة على صعيد تموضع النفوذ على الساحة السياسية وميدانيا.

 

نماذج من تطور أدوار “التحالفات” الخارجية

إن الحديث عن “تقلب التحالفات” في الساحة السورية هو واقعيا الحديث عن “تطور أدوار” تقوم بها، فتختلف الوسائل والأساليب بين مرحلة وأخرى، ولا يختلف جوهر تلك الأدوار، وأوجب بيان ذلك طرح الخلفيات أعلاه لعدة أسباب، أهمها:

١- استحالة فصل ما جرى ويجري في سورية وبالتالي استحالة استيعاب ما يتعلق بالتحالفات في التعامل مع قضية سورية تحديدا عن رؤية أشمل لما يرتبط بتلك التحالفات محليا وإقليميا ودوليا.

٢- انتشار استخدام تعبير “التحالفات” في وصف تشكيلات سياسية وعسكرية ما، دون الاعتماد على نهج علمي لتحديد المقصود بهذا التعبير اصطلاحيا، من أجل انتقاء “منهجي” لما ينطبق اصطلاحا على تلك “التشكيلات”، هذا مع ملاحظة نشأتها في ظرف تاريخي صنعته ثورات شعبية وهو استثنائي وجديد، منطلقا ومآلا، فلا تسري عليه بالضرورة جميع القواعد المنهجية السارية المفعول قبل وقوعه، للبحث في شؤون الثورات والتغييرات الكبرى، وقد استنبطت عبر النظر في ظروف تاريخية سابقة، واستقرت لدى الباحثين بعد انقضاء وقوع أحداث تلك الظروف، أي عند توافر إمكانات التأمل التاريخي العلمي فيها وقد استقرت مآلاتها ونتائجها فعلا، مما لا يمكن القول به بالنسبة رلى ما شاع وصفه بالربيع العربي.

وبالعودة إلى تعبير “تحالف” يكفي للدلالة على ما سبق استحضار صورة حلف شمال الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم أو حلف وارسو سابقا، ليظهر مدى ما تعنيه كلمة “مجازا” عندما نتحدث عن “تحالف عربي” في اليمن وما أصبح عليه، أو “تحالف إسلامي ضد الإرهاب” وهو لا يقوم بدور عملي يستحق الذكر، فضلا عن تحالفات جزئية أخرى مثل تحالف بعض دول الخليج مع بعض الفصائل الثورية في سورية، فنتجاوز جميع ذلك لنصل إلى أبرز ما يمكن الوقوف عنده من تحالفات “مجازا”، وبمقياس التأثير على مسار الأحداث ميدانيا.

ونتجاوز ابتداء ما نرصده من بذور تغيرات جديدة (أبرزها تشكيلة المجموعة الرباعية: السعودية والإمارات والبحرين ومصر) وبالتالي تطور التعامل مع قضية فلسطين المحورية وتأثير ذلك المتبادل مع قضية سورية، ولم يعد مناسبا وصف هذه التغيرات بالجذرية، فالواقع أنها نتيجة تلقائية لإرث تاريخي بدأ في كامب ديفيد، على محور التعامل مع المشروع الصهيوأمريكي، إنما تأتي الإشارة لها على خلفية ما ينتظر من تأثير على قضية سورية لا سيما على حدودها الجنوبية.

ونخلص إلى تعداد:

١- التحالف الدولي ضد داعش بزعامته الأمريكية.

٢- تحالف فريق من أكراد سورية مع واشنطون وطرحه كتفرع عن التحالف الدولي.

٣- التحالف الثلاثي الواقعي من وراء النظام الأسدي.

٤- تحالف أو مسار آستانا / سوتشي الثلاثي بزعامته الروسية.

وتغني الفقرات السابقة حول الخلفيات عن التفصيل في الفقرات الموجزة التالية حول ما تبدل بعد سنة ٢٠١٦م أو ما وصلت إليه التحالفات الأربعة المذكورة آنفا، مع حصر ذلك في نطاق قضية سورية.

١- التحالف الدولي ضد داعش بزعامته الأمريكية

المفروض أنه أدى المهمة الرسمية المعلنة لتشكيله وهو داعش، ولكن استمرار وجوده ومتابعة ممارساته، شمال شرقي سورية وارتباط ذلك بالدور الأمريكي في الجنوب، يؤكد ما تقول به التحليلات عموما أن داعش مهما كانت حقيقة نشأتها قد استخدمت أو استخدمت الحرب ضدها ذريعة لتحقيق أهداف هي ما يعمل التحالف الدولي على حصاده في الوقت الحاضر، في إطار ما يوصف بتقاسم النفوذ.

ومع ترجيح القول بأن السيطرة على أهم مواطن الثروة النفطية والمائية وبالتالي الزراعية في سورية ليس “هدفا اقتصاديا أمريكيا”، تصبح تلك المناطق أقرب إلى ورقة ضغوط ومساومات، لعل أهم عناصرها هو مستقبل جنوب سورية، أي المنطقة المحاذية لمرتفعات الجولان المحتلة منذ ١٩٦٧م، وما يجاورها شرقا حيث يراد استعادة التواصل بين “النظام” الذي يستقر في دمشق وبين المملكة الأردنية الهاشمية وبالتالي شبه الجزيرة العربية جنوبا.

إن الدور المرجح لهذا التحالف في ٢٠١٨م ومن بعد هو دور انتزاع المزيد من المواقع السياسية والعسكرية على حساب وحدة الأراضي السورية، لا سيما في الجنوب، مع ما يشمل تحجيم الوجود الإيراني والتمكين للمشروع الصهيوأمريكي أكثر مما مضى.

٢- تحالف فريق من أكراد سورية مع واشنطون وطرحه كتفرع عن التحالف الدولي

لعل هذا التحالف هو النموذج الأوضح من سواها على إخفاق تحقيق أهدافه، التي كانت صياغتها في عهد أوباما ولم يبدأ ترامب في التخلي عنها إلا تدريجيا وبعد أن لعبت تركيا دورا حاسما على هذا الصعيد.

صحيح أن عنوان هذا التحالف كان تأمين الحرب البرية ضد داعش، ولكن لا يصمد ذلك التعليل طويلا عند النظر في خارطة القوى الثورية والإقليمية، وقابلية تشكيل تحالف بري أقرب إلى تحقيق الهدف المذكور لولا التركيز على توظيف قضية الأكراد وبالتالي اختيار فريق منهم ليكون في الصدارة في تنفيذ المهمة المطلوبة “رسميا”.

المرجح وجود أهداف أخرى لهذا التحالف، تتناقض مباشرة مع أهداف الثورة في سورية، بما في ذلك رفض الإرهاب والتطرف.. وهذا ما تعززه:

– الممارسات الفعلية على الأرض جغرافيا على حساب القرى ذات الغالبية العربية في الشمال السوري، بغرض تحقيق أهداف سياسية / جغرافية كردية (بغض النظر هنا عن تقويمها وتقويم مشروعيتها أو مشروعية وسائل تحقيقها).

– عند ربط ذلك بالتعامل الغربي مع “تركيا الناهضة” يمكن ترجيح أن الهدف من هذا التحالف من البداية كان “قضية تركيا” أكثر من “قضية سورية”.

إن الرد التركي على ذلك بالتقارب مع إيران وروسيا، والتنسيق معهما في الساحة السورية، وازدياد مظاهر رفض الارتباط المطلق بالسياسات الغربية، أدّى إلى بدء التراجع في اعتماد واشنطون على هذا التحالف، والتخلي تدريجيا عن “الفريق” المعتمد عليه من الأكراد، وهو ما عجل به غياب الحاجة إليه في المواجهة البرية مع داعش، كما عجل به أيضا الخطأ الذي وقع فيه الأكراد في شمال العراق باختيار توقيت خاطئ إلى حد كبير من أجل الاستفتاء على هدف “الدولة الكردية”.

المرجح هو غياب هذا التحالف بشكله الراهن عن الساحة السورية والإقليمية، مع عدم انقطاع خيوط التواصل الأمريكي والغربي مع الأكراد وتوظيف “قضيتهم المشروعة” لتحقيق أغراض أجنبية، كما كان عبر العقود الماضية.

٣- التحالف الثلاثي الواقعي من وراء النظام الأسدي

ما يوصف بالتحالف هنا أصبح بعد سنوات من نشأته تطبيقا صارخا لاحتلال أجنبي روسي إيراني مزدوج، يحوّل أي نظام قائم في دمشق أو يقوم عبر المساومات باسم مفاوضات سياسية، إلى أداة تنفيذية في الدرجة الأولى، بينما تمارس القوات الأجنبية ضد “السكان” أو الشعب عموما أشد ما تمارسه قوات أي احتلال أجنبي تقليدي.

وقد كانت مراحل تشكيل هذا التحالف من البداية حصيلة ردود أفعال متتابعة على عجز النظام المحلي عن استرجاع سيطرته على سورية وترنحه في اتجاه السقوط أكثر من مرة، جنبا إلى جنب مع عدم رغبة القوى “الصديقة” للثورة أن تبلغ هدفها المحوري الأول بإسقاط النظام. بتعبير آخر إن هذه القوى ساهمت في التمكين للتحالف الثلاثي من ممارسة دوره لقمع الثورة بقوة السلاح.

هنا نعود إلى التفاهم الأمريكي-الروسي في جنيف من سنة ٢٠١٢م، إذ بدأ مفعوله بالظهور بعد انحسار سيطرة الفصائل بغض النظر عن مسمياتها إلى حدود تواجدها في الشمال الغربي وفي الجنوب من سورية، ولم يعد مستبعدا انتقال التواصل الثنائي إلى مرحلة حسم الوضع سياسيا في سورية، بعد تثبيت مناطق النفوذ، مع إضعاف الوجود الإيراني دون تغييبه الكامل، ومع تعزيز الهيمنة الإسرائيلية دون وجودها المباشر، ومع مواصلة الاعتماد على بقايا النظام المحلي تحت سيطرة الأسد إلى أن يتم إيجاد بديل ملائم بالمنظور الدولي، الروسي الأمريكي، وهو ما تعززه مؤشرات عديدة للتقارب في الشأن السوري وغيره، رغم استعراض مظاهر المواجهة العدائية، وقد يكون تقاربا على حساب المجموعة الأوروبية.

إن الحديث عن تناقضات روسية-إيرانية إلى جانب تكامل أشكال التعاون العسكري جوا وبرا، لا يعكس حقيقة العلاقات الروسية الإيرانية التي لم تصل يوما إلى مستوى التحالف، وهذا ما يسري على سورية، ولكنها لم تصل أيضا إلى مستوى العداء المفتوح، لحاجة روسيا إلى الورقة الإيرانية دوليا، وحاج إيران إلى الدعم الخارجي في التعامل مع السياسات الأميركية تخصيصا.

المرجح أن ينتهي دور هذا التحالف الثلاثي، الروسي – الإيراني – الأسدي، مرحليا كما بدأ، وقد يستغرق ذلك سنوات، يزيد من طولها استمرار العجز عن إيجاد بديل عن النظام الأسدي في سورية، ويختصرها التمكن من ذلك أو من عودة الحياة إلى الثورة الشعبية بعد أن أضعفها في السنوات الماضية لاسيما بعد ٢٠١٦م، تضخم الاتجاهات الفصائلية داخليا، والتفرقة السياسية والنخبوية خارجيا.

٤- تحالف أو مسار آستانا / سوتشي الثلاثي بزعامته الروسية

نشأ هذا المسار بعد التدخل العسكري الروسي المباشر لقمع الثورة في سورية، ونجدة الطرفين الأسدي والإيراني، فكان مسارا جمع روسيا وإيران وتركيا نتيجة تلاقي “الضرورات رغم المحظورات” إذا صح التعبير، دون أن يتجاوز عموما استمرار هيمنة الاتفاق الأمريكي-الروسي المتحكم منذ سنة ٢٠١٢م في رسم الخطوط العامة للتعامل الدولي مع قضية سورية.

سنة ٢٠١٦م لم يعد يوجد مجال للشك في أن الدول الصديقة، لا سيما الغربية، لن تنتقل من مستوى الوعود والتصريحات الكلامية إلى مستوى الدعم الفعلي، عسكريا وسياسيا، ينطوي على التخلي الفعلي عن “نظام الأسد” لصالح الثورة الشعبية.

بالمقابل كان واضحا أن حجم الدعم بالمال والسلاح، مباشرة أو عبر القنوات الإقليمية، كان مدروسا، وأصبح من وسائل الحيلولة دون حدوث هذا التغيير.

على هذه الخلفية كانت ولادة مسار آستانا أقرب إلى ملء الفراغ الميداني عسكريا وسياسيا، تمليه الضرورة على روسيا وإيران حرصا على استمرار النفوذ المتراكم منذ ١٩٧٠ و١٩٧٩م في سورية، وتمليه الضرورة على تركيا بعد أن أصبحت مستهدفة غربيا بصورة مباشرة، مثل ثورات “الربيع العربي” التي دعمتها رسميا وعلى أرض الواقع.

بالمقابل كانت إيران عبر أوضاع الميليشيات التابعة لها في سورية، مضطرة إلى القبول بالمحظور ليس بشأن السيطرة الجوية الروسية وخطرها المستقبلي على الوجود الإيراني في سورية فحسب، بل كذلك على مستوى القبول بالشراكة التركية في الشمال السوري، رغم ما يقال عن المنافسة الإقليمية الشديدة بين التوجهات الإيرانية القديمة الجديدة، والتوجهات التركية الحديثة.

حتى سنة ٢٠١٨م أمكن تحقيق الغرض المطلوب من هذا التحالف عبر ما ابتكرت له تسمية “مناطق خفض التصعيد”، للسيطرة الميدانية التدريجية على أنحاء سورية، باستثناء ما بقي وراء الخطوط الحمراء الأمريكية، في الشمال الشرقي وفي الجنوب.

بمنظور الهيمنة الصهيوأمريكية إقليميا اضمحل في نطاق قضية سورية الخطر المستقبلي المحتمل أو المرجح من تحقيق هدف الثورة عبر الفصائل الثورية مع حاضنتها الشعبية، وكان ذلك في مقدمة نتائج المسار الروسي ميدانيا باسم “مسار آستانا”.

هذا ما يفسر التحرك المكثف إسرائيليا وأمريكيا منذ بداية ٢٠١٨م لتحقيق هدفين: تحجيم الوجود الإيراني الإقليمي مجددا بما يشمل الساحة السورية، والتفاهم مقابل ذلك مع الطرف الروسي على النفوذ في سورية.

مسار آستانا أشرف على نهايته واقعيا، ولا يؤخر ذلك التحرك تحت عنوان سوتشي أو “الحل الدستوري” لتحقيق الثمرة السياسية المطلوبة عبر التحرك الميداني، بل الأرجح هو التحول مجددا إلى مسار جنيف، لإعطاء صبغة المشروعية الدولية لما يراد صنعه من وضع جديد في سورية، ولا ينفي ذلك أن الورقة الأصعب الباقية على هذا الطريق هي الورقة التركية ومدى ما يمكن أن يتجدد من توجه شعبي في مسار ثورات سورية وأخواتها، والتي لم تحقق أهدافها التغييرية حتى الآن.

نبيل شبيب

من المراجع التي اعتمدت في إعداد التقرير:

(١) – د. ثائر أبو صالح: صراع الاستراتيجيات في سوريا / المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية

(٢) – مروان قبلان: الثورة والصراع على سورية: تداعيات الفشل في إدارة لعبة التوازنات الإقليمية / مجلة سياسات عربية العدد ١٨

(٣) – دورية التقرير الاستراتيجي السوري / المرصد الاستراتيجي- لندن/ وخاصة الأعداد ٣٦ + ٣٩ + ٤٣ + ٥٦+

(٤) – من تقارير المرصد الاستراتيجي:

– واشنطون تخصص مكانا للخصوم في شرق سوريا

– معركة حلب وتأثيرها على الصراع القائم في سوريا

– أمريكا تعمل لبناء دولة لأكراد سوريا بهدوء

– حملة إسرائيل الهادئة لتوطيد قدمها في جنوب سوريا

(٥) – من تقارير معهد واشنطون لسياسة الشرق الأدنى

– دينيس روس: الانفجار القادم في الشرق الأوسط (نقلا عن نيويورك ديلي نيوز)

– سونر جاتابتاي: الولايات المتحدة قادرة على منع تركيا من الإذعان لروسيا قبل أن تصبح حليفتها (نقلا عن ذي هيل)

– مايكل سينج وجيمس جفري: تحالف الولايات المتحدة مع تركيا جدير بالمحافظة عليه (نقلا عن فورين بوليسي)

(٦) – من تقارير مركز الجزيرة للدراسات:

١- العمليات العسكرية في تركيا: الخلفيات والسياق والتوقعات

٢- الدور الأردني في سوريا: المناطق الآمنة ومستقبل الأزمة

٣- العلاقات الإسرائيلية-الروسية في سياق الأزمة السورية

٤- خيارات الأكراد في سوريا وسط التجاذبات الإقليمية والدولية

٥- روسيا وإيران: حدود التعاون والتنسيق في سوريا

(٧) – قراءة في التحالفات الإقليمية الجديدة – أورينت نت

(٨) – العلاقات الأميركية الإيرانية / بين الاحتواء والفوضى الخلاقة – مركز حرمون للدراسات المعاصرة

(٩) – ملف خاص: تقسيم سوريا.. مئة عام من الخطط والمحاولات / مركز إدراك للدراسات