رؤية – مفهوم العودة

لا يصلح أي تعريف لحق عودة المشردين ما لم يتضمن استعادة الوطن

43

 
حذار ثم حذار أيها السوريون، لقد أصبحت قضية سورية في الدرجة الأولى قضية احتلال استعماري واستيطاني وقضية تشريد لا يمكن أن تجد "حلا" إلا بمتابعة طريق التغيير، للتحرر، والتحرير، واستعادة الوطن.
إن ما تشهده قضية سورية، شهدته قضية فلسطين، فأكدت أن "بلاد الشام" وعموم بلادنا مستهدفة وطنا وتاريخا وحاضرا ومستقبلا، ومن أخطر ما تتعرض له قضايانا تزييف المفاهيم في الوعي الفردي والجماعي وفي أروقة "السياسة" وحتى في ميادين المواجهة.
من ذلك تزييف مفهوم "حق العودة" عبر تجريده من الارتباط الوثيق بتحرير الوطن، فهذا ما أصبح في فلسطين (ويمكن أن يصبح في سورية) مدخلا إلى طرح أسئلة "محرمة" من قبيل السؤال: ما هو عدد من "يُسمح" بعودتهم من المشردين؟ إلى أين يعود المشردون؟ ألا يمكن التوطين حيث أوصل التشريد بديلا عن العودة؟

 

العودة.. في مسار التصفية – العودة.. واغتصاب الوطن – العودة.. والشرعية الدولية – العودة هي استعادة الوطن

 

عاد الحديث عن هدف العودة في إطار قضية فلسطين إلى الصدارة لسبب رئيسي، وهو استشعار أهل فلسطين أنّ التركيز على استهدافه الآن يعني الدخول في مرحلة متقدمة على طريق من يعملون لتصفية القضية، ويعطونها تحت عنوان التسوية الأولوية على المقاومة والتحرير.

 

العودة.. في مسار التصفية

الحديث عن "العودة" بعد عقود من التشريد الأول ومن التشريد الثاني، وما وقع من مظالم تاريخية كبرى قبل ذلك ومن بعد، اختلف مضمونه في الأذهان وفيما تخط الأقلام اختلافا ملحوظا عمّا كان عليه عقب النكبة الكبرى مباشرة، أي عندما كان مفهوم الكلمة مرتبطا بأصل القضية، وليس بمسارات الانحراف بقضية فلسطين نفسها، والانحراف بالمفاهيم المنبثقة عنها، عبر تشويه مصطلحاتها في الوعي الذاتي، على المستوى الفردي والجماعي، وما ترتب على ذلك من طرح شعارات وأهداف ومناهج للتوعية والتربية والعمل، وحتى تشكيل المنظمات وصياغة الأناشيد ورسم اللوحات الفنية، بمضامين لا تنطوي على "العودة" كما هي في الأصل: حق أصيل مشروع بمختلف المعايير، يتضمن استعادة الأرض والممتلكات المادية والحقوق الوطنية وما ينبثق عن ذلك على صعيد الحرية والسيادة والاستقلال ووحدة الأرض والشعب.

 

كان من أولى خطوات مسيرة التشويه ربط حق العودة بما يعرف بالقرار رقم ١٩٤ الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد ترسيخ اغتصاب أرض فلسطين بالقوة، وهو "ربط" يسمح بالحديث – العبثي دوما – في المحافل الدولية، ولكن يفصل العودة عن أصل القضية: تشريد للشعب، نشأ عن اغتصاب غير مشروع لأرضه فلا ينتهي التشريد بالعودة، إلا عبر تحرير أرض المشردين عنها بمختلف الوسائل المشروعة.

وأصبح تشويه مفهوم "العودة" مدخلا رئيسيا لتشويه مفاهيم أخرى في القضية المصيرية، وعنصرا حاسما من عناصر الترويج لحلول جائرة على طريق تصفيتها.

لا يمكن فصل عودة الشعب عن استعادة الوطن.. وإلا فما الذي "يستعيده" المشرد وإن عاد إلى بيته وقريته، ووجد نفسه في "وطن غيره"؟

ما هو الفارق آنذاك بين هذه "العودة" – على افتراض تحقيقها – وبين حياة التشريد عن الوطن؟

 

العودة.. واغتصاب الوطن

لقد أدّى تزييف المفاهيم إلى استخدام كلمات كبيرة.. جوفاء، فاقدة لقيمتها الأصلية، فتحولت إلى أداة لترويج مضامين أخرى، والعمل لها مع سيطرة الوهم بأن هذا هو "الهدف المشروع"، أو رغم إدراك حقيقة التزييف.

هذا ما تضمّن تصوير حق العودة إلى الوطن وعودة الوطن لأهله، وكأنّه مشكلة خسارة "ممتلكات" مادية ما، ففتح أبواب تزييف العمل تحت عنوان "العودة"، وبالتالي طرح "بدائل عن ممتلكات ما"، بالتوطين في أرض التشريد أو التعويض بمال زهيد أو ما شابه ذلك، وهذا من محتوى القرار ١٩٤، الذي يغيّب مفهوم العودة إلى الوطن، مع ما تنطوي الكلمة عليه من معنى في الأصل، أي السيادة على أرض الوطن، واستعادة تاريخه وحضارته، وحق صناعة القرار فيه.. مع استعادة سائر الممتلكات دون استثناء.

 

داخل حدود الوطن.. يمكن للمواطن الانتقال من مسكن إلى آخر، ولكن لا يخسر بذلك وطنه، حتى وإن خسر مسكنه، أما التشريد خارج الوطن عند اغتصابه، فلا يكون تشريدا عن السكن فحسب ليمكن تعويضه بسكن آخر، بل هو تشريد عن الوطن، فيفرض العمل لاستعادة الوطن.. حتى لو عاش المواطن لسبب ما مغتربا خارج حدوده.

 

يبدأ تزييف حق العودة عبر ربطه بحرب وقعت أو تقع، فنتائج أي حرب تغيّر الوقائع المادية على الأرض، ولكن لا تغيّر الحقوق المنبثقة عن المبادئ الثابتة، ليس في الأذهان فقط، بل في نصوص مواثيق دولية أيضا. هذه المبادئ الأساسية هي المصدر "الأم" لما تعنيه كلمة الشرعية الدولية، فهي ما يحمل عنوان القانون الدولي العام، المصدر الأول لسواه، والحَكَم على كل بند من البنود واتفاق من الاتفاقات وقرار من القرارات وحدث من الأحداث ممّا انتشر تعبير القانون الدولي التطبيقي لوصف "الحصيلة المفروضة بالقوة والغلبة على أرض الواقع"، فكلمة قانون في هذه الحالة مجازية، للتمكين من "التعامل" مع ما أصبح واقعا قائما لا بد من التعامل معه، ولكن دون أن يكتسب الجزء القائم منه، الذي يخالف المبادئ الأساسية الأم، صفة المشروعية، وهذا – مثلا – ما مارسته الدول الغربية في تعاملها مع الاتحاد السوفييتي طوال عشرات الأعوام التي مضت على سيطرته على دول البلطيق، فلم ينقطع التعامل مع واقع قائم، ولكن لم يتضمن قطّ اعترافا بمشروعية "اغتصاب" تلك "الأوطان".

 

العودة.. والشرعية الدولية

لقد كان الانحراف بمفهوم العودة انحرافا يخالف "الشرعية الدولية" بمقتضى القانون الدولي العام، جزءا خطيرا – لا سيما من حيث عدم الالتفات الواعي إلى التزييف فيه – من حملة تزييف مصطلحات قضيتنا، عبر عملية غسيل دماغ جماعي، متتابعة الحلقات، مواكبة للتراجع على منحدر التنازلات، ولتحويل قضية فلسطين التاريخية المحورية إلى مجرد أزمة من أزمات صراع، يمكن حلها باتفاقات ما (وهذا ما يطبق على قضايا أخرى في هذه الأثناء، كقضية سورية) ولهذا أصبحت كلمة "الشرعية الدولية" نفسها تُطلق في الأدبيات السياسية "العربية فقط"، على قرارات تصدر عن هيئة من الهيئات التنظيمية التنفيذية كمجلس الأمن الدولي، سواء خالفت مبادئ القاون الدولي العام وانتهكتها أم لم تفعل.

ولهذا بات السياسيون الماضون على طريق التصفية ومن نهج نهجهم، يستخدمون كلمة "السلام العادل" ولا يربطونها بمبدأ العدل، وقد يقولون في أفضل الأحوال: ما جرى عبر النكبة كان ظلما.. ولكن مضى وانقضى وأصبح من الضروري التعامل بالسياسة الواقعية مع وقائع جديدة على الأرض! والسياسة الواقعية مطلوبة، ولكن الخلل الاكبر كامن في إعطاء ما تصنعه وتقتضيه صفة المشروعية دون أن تكون مشروعة فعلا.

 

هذا ما يتجلّى في تقييد استيعاب "المبدأ" وما يعنيه بقيود "ألفاظ قرار من القرارات" لمجرد صدوره عن مجلس الأمن الدولي أو إرادة من يهيمن على صناعة القرار فيه، سيان كم ظهر انتهاكه لمبدأ العدل وسواه من المبادئ.

في هذا الإطار أيضا أصبحوا يستخدمون كلمة "العودة" ولا يربطونها بالمبادئ "الأساسية الأم" لكل مشروعية دولية، كمبدأ عدم جواز اغتصاب الأراضي بالقوة، ومبدأ تقرير المصير، ولهذا سيطرت العبثية – بالضرورة – على ما تصنعه المفاوضات والمساومات، لا سيما عندما يخوض فيها فريق يفتقر إلى مشروعية انتخاب حر نزيه شامل لجميع من يملكون الوطن من ساكنين فيه – وهم مشردون واقعيا – ومن مشردين عن أرضه، بل لا تسقط صفة العبثية عن تلك المفاوضات والمساومات، بشأن العودة أو أي شأن آخر من مستواها، حتى ولو كان المتفاوضون "منتخبين" انتخابا حرا نزيها، فالانتخاب يخوّل من يفوز فيه بأداء مهمة يحددها موقعه التنفيذي باسم الناخب والصلاحيات التي "يسمح" له بها، ولا يخوّله الانتخاب بالتخلي عن حق إنساني أساسي وقانوني دولي من حقوق الناخب الذي لم يفوضه بالتخلي عنه، ولو صنع ذلك لارتكب جريمة بحق الأجيال التالية من بعده، فالوطن وطنهم وليس وطنه وحده، ولهذا يمكن أن ترتبط الجنسية بمكان الولادة، ولكن لا يرتبط الانتماء للوطن بذلك!

 

العودة هي استعادة الوطن

إن تزييف مفهوم كلمة "العودة" عبر تجريدها من الارتباط الوثيق بتحرير الوطن، هو المدخل في الوقت الحاضر إلى طرح أسئلة "محرمة" من قبيل:

ما هو عدد من "يُسمح" بعودتهم من المشردين؟

إلى أين يعود المشردون؟ إلى أرض اغتصبت عام 1948م أم أرض اغتصبت عام 1967م، ويحتمل أن تقوم فيها دولة دون سيادة كاملة حقيقية؟

ألا يمكن التوطين حيث أوصل التشريد بديلا عن العودة؟

 

في جميع هذه الأسئلة وأمثالها يغيب حق استعادة الوطن والسيادة عليه، وهو الذي اغتصب، والسيادة عليه وهي التي انتهكت، وليس البيت المسكون والحقل المزروع فحسب!

لقد شمل التشريد الوطن.. قبل أهله، والعودة هي عودة الوطن إلى أهله وعودة أهله إليه.. معا، دون تمييز بين هذا وذاك.

 

إنّ الملكية المادية يمكن أن تباع.. أو تصادر.. أو تُسرق، فتسري على ذلك أحكام قانون ما، وتنتهي القضية بتنفيذ أحكام القانون.. أما ملكية الوطن فمرتبطة بالانتماء إليه، ولهذا فهي -مع الوطن- حق أصيل ثابت لا يضيع أو يُنتقص منه أو يُلغى من خلال بيع أو مصادرة أو سرقة، بل تسري الأحكام على من باع واشترى وصادر واغتصب، وتنفذ أو لا تنفذ، ولكن يبقى الوطن وطنا، من قبل ومن بعد، ويبقى حق الوطن تابعا لأهله، من قبل ومن بعد، وهذا ما تعنيه كلمة العودة في الأصل: استعادة الوطن.

نبيل شبيب