رؤية – مراجعات بين الاختلاف وجلد الذات
هل وجد الشعب الثائر قيادات واعية وجماعية وذات كفاءات أو منجزات كبيرة.. ثم خالفها؟
مراجعات التراجع – مراجعة أنفسنا – المهم من المراجعة
يقال: كما تنحني شجرة عالية أمام عاصفة عاتية، يحسن الانحناء أمام عواصف عدائية حتى تنقضي!
والسؤال: من جعل ذلك السلوك قاعدة اجتماعية وسياسية وثورية، دون الاستناد إلى بحث ودراسة أو منطق، مكتفيا باستعارة تشبيه لغوية في قالب صياغة أدبية مغرية؟
ألا نرصد على أرض الواقع كيف أن العاصفة العدائية التي تشهدها مسارات الشعوب الثائرة، عاصفة همجية، تكبر ولا تنقضي، تتوحّش ولا ترعوي، لا في انطلاقتها ولا في استمراريتها، ولا في تعدّد أغراض من ينفخون فيها معا، من قوى دولية وإقليمية ومحلية؟
بل يوجد بين من جعلوا الإسلام عنوانا لعملهم – وسواهم – من يستشهدون بما فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة، ويتغافلون عن أن القائد العسكري المحنك كان في معركة غزو للعدو في عرينه، أما وقد أصبح العدو في عمق دارنا يتصرف بمصائرنا من خلال بعض أهل الدار، فإلى أين يناور المخلصون فرّا وكرّا؟
مراجعات التراجع
لا ريب أن المراجعات مطلوبة دوما ومن ذلك في قضية الثورات التغييرية.
الهدف الأصلي: تصحيح المسار وتحسين المنجزات وإضافة الإبداعات..
الوسيلة القويمة: التعامل مع الأخطاء الذاتية تصحيحا لا تجاهلا ولا تبريرا..
المطبّ الخطير: هو الانزلاق للدفاع عن الذات (أنا) الوطنية، ومضاعفة جلد الذات (الآخر) الوطنية، ثم التمادي في تبرير الأخطاء الذاتية، عبر النيل من جوهر الهدف الكبير المشروع. أي الزعم:
لم أكن مخطئا ولكن الخطأ في حجم الهدف الكبير، فهو لا يلائم واقع الظروف الدولية! فلنتراجع قليلا، ثم قد يلوم الشعوب التي ثارت، وليس من تصدّروا مواقع قيادتها بعد أن ثارت، ثم لم ينجحوا!
كلما قال أحدنا: التراجع مرفوض، قال آخر: هذا كلام من خارج الميدان، أمّا من يعايش المعاناة يوميا في الميدان فيدرك أن التراجع انكفاء اضطراري لتجنب المخاطر.
هذا صحيح بشروطه، ولكن الحديث هنا عن "المراجعات" والسؤال:
أليس من يدعو للتراجع تحت عنوان مراجعات، يصنع ذلك وهو خارج الميدان؟
ثم هل أصبح تجنب المخاطر محصورا فيما يهدّد أطرافا تمارس المراجعات، فبات التراجع عندها مطلوبا، بينما نرصد كيف تزداد أثقال المعاناة على الشعوب من المشردين وغير المشردين، وتتضاعف المآسي بمختلف ألوانها وأشكالها، مع كل خطوة تراجع ثورية أو تنظيرية؟
قد لا نقدّر عواقب أوسع نطاقا وأبعد مدى، للتراجع بذريعة المراجعات، لعدم وضوح الرؤية ضمن مفعول المعايشة المباشرة لأهوال اللحظة التاريخية الحالية، فيكفي ما نراه رأي العين من تطورات معاصرة الآن في مسارات قضية فلسطين كمثال، وهي حصيلة ما مضى من "مراجعات مقلوبة" وتراجع بعد تراجع.
هذا علاوة على انزلاقنا للتشرذم شعوبا وفرقا، في مطبات "التجزئة" الشعورية والتاريخية والجغرافية والفكرية والنضالية، حتى فصلنا ذهنيا وعملياتيا، بين قضايا تحرير إرادة الشعوب وقضايا تحرير الأوطان.
مراجعة أنفسنا
إن مراجعات التراجع عن أهداف مشروعة أو تمييعها لا يمكن أن تسفر عن إضاءات جديدة تعالج الأخطاء بما يحقق النجاة دون مضاعفات، وأخطر المضاعفات: القضاء على عملية التغيير المطلوب نفسها، أي القضاء على جوهر الثورات، والأصل بقاء الجوهر متوقدا حتى تحلّ عبر تراكم الجهود والإنجازات لحظة تغيير مستقبلية لمنعطف انتصارها، ولو بعد جيل أو أكثر، وآنذاك يرسخ تسجيل لحظة تاريخية من جانب معاصريها، مثل ما نقرأ عنه في سجل مضى من تاريخ البشرية عن منعطفات التغيير الجذري الكبرى.
في نطاق الثورة الشعبية في سورية – وهي مثال لا ينفصل عن سواه في أخوات سورية – عندما نراجع ما مضى من الأعوام مراجعة صادقة ومتعمقة نجد فيما نجد:
1- انطلقت الثورة بهتافين وشعارين محوريين منذ بداياتها الأولى وكانا يعبران – ويوجد كثير سواهما – عن مستوى رفيع لوعي الشعب الثائر (رغم ظلمات عقود مضت) بصدد "جوهر" المسار، الشعار الأول: الشعب السوري واحد.. واحد واحد واحد، والثاني: يا ألله ما لنا غيرك يا ألله.
2- صحيح أن عدوانية التحرك المضاد للثورات الشعبية وتحريرها للإرادة الذاتية كان لها دور كبير وخطير في سورية أيضا، والنتائج مشهودة في تقلبات مسار أعوام المواجهات الثورية الأولى، وهي واقعيا مرحلة الانطلاق الصعبة والدامية على طريق تغيير تاريخي طويل..
3- ولكن التحرك الخارجي المضاد بكل جحافله وشراسته وهمجيته ودمويته وخداعه، اعتمد في تحقيق مفعوله على "مرتكزات" صنعتها أخطاؤنا الذاتية، وكانت تدور دوما على محورين يتناقضان مع الوعي الشعبي وتعبيره عن نفسه في الشعارين المذكورين آنفا كمثال:
محور التناقض الأول هو الفرقة بكل أنواعها ودرجاتها وأشكالها الاقتتالية المحرمة والتخوينية الانتحارية.. وكذلك بكل دوافعها وذرائعها الانتمائية المتعددة والعداوات الحقيقية والوهمية.
والمحور الثاني ما صنعته بنا الارتباطات بقوى خارجية، ذهنيا وتصورا وواقعا وتأثرا، وسيان بعد ذلك هل صنفها بعضنا بالصديقة وبعضنا بالمعادية وبعضنا بالمصلحية.. فالحصيلة واحدة.
يضاف المزيد إلى هذين المحورين من محاور التناقض مع منطلق الثورة، ومن ذلك مثلا تمرير انزلاق من انزلق في حضيض ممارسات تنتهك عرى قيمنا عموما. إنما يكفي هنا التركيز على أهمية المراجعة من خلال المحورين المذكورين، فقد ظهر لمعظمنا ما يعنيه التناقض مع ما كانت الشعارات الشعبية الثورية الأولى تعبر عنه نتيجة وعي شعبي ذاتي.
المقصود بمعظمنا: معظم من هم في مواقع مسؤولية نخبوية ما، عسكرية.. سياسية.. فكرية.. إعلامية.. بحثية.. إغاثية.. سيان، فجميعها مسؤوليات كانت خلال الأعوام الماضية ضحية نزعات ذاتية جعلت منها في كثير من الأحيان والحالات: ميزات مفاضلة وأوسمة غرور ووسائل كسب.. وسوى ذلك.
رغم هذا يوجد فريق منا يقول: إن هذا الشعب لم يصل إلى مستوى كاف من الوعي!
عجبا.. فهذا كما لو أن القائل يزعم أن الشعب وجد قيادات جماعية، ناجحة رغم العقبات، بفضل وعيها وتعاونها وتكاملها وكفاءاتها فأنجزت الكثير للشعب الثائر.. ثم خالفها!
المهم من المراجعة
يبدو للمتأمل والمتابع ارتفاع نسبة من أصبحوا في نطاق حملة المسؤوليات النخبوية يستشعرون حجم الأخطار التي تحيط بمسار الثورة التغييرية من كل جانب، بل بدأ بعضهم بالمراجعة والتفكير والبحث عن وسيلة ناجعة لاستعادة زمام المبادرة.
والأهم من ذلك هو مواكبة هذا التحول، لتنامي الحرص على العودة للتشبث بما يتلاقى مع ما يقول به الشعاران الشعبيان الثوريان المذكوران آنفا:
1- وحدة المسار على قواسم مشتركة ووسائل عمل تتجاوز الاختلافات البينية الذاتية
2- الانطلاق من الاعتماد على الذات أساسا لتقويم جدوى أي تواصل خارجي مع أي طرف
وبقدر ما يستمر تعاطي هذا الدواء ويتم دعمه بما يشابهه، بقدر ما نرجو أن يتعافى المسار الثوري التغييري لنتابع تعبيد طريق بناء المستقبل أمام أولادنا وأحفادنا.
نبيل شبيب