رؤية – مدخل للسؤال: كيف نعمل لإنقاذ سورية وثورتها
الوضع الجديد القادم حتما، طال الوقت أو قصر، ستستقر معالمه وفق نتائج صراع إرادات القوى العاملة من أجل صناعة هذه المعالم
هل يمكن إنقاذ سورية مما يراد أن يُصنع بها من خلال الجهود الدولية المتصاعدة لوأدها مع إجهاض ثورتها الشعبية؟
أي محاولة للإجابة تتطلب التخلّي مسبقا عن تصورات حول مسار الثورة والتغيير لم تثبت صحتها عمليا، وتتطلب استيعاب المرحلة الراهنة تخصيصا برؤية وتصورات أقرب إلى الواقع.
لقد بدأ تطبيق المطلوب دوليا لترسيخ تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ أو مناطق صراع طويل الأمد، وهذا ما تشهد عليه خلطة التحرك السياسي وكذلك الأحداث الجارية ما بين إدلب والزبداني، والرقة وحماة، والغوطة والجنوب، ولا قيمة هنا لتسليط الأضواء مجددا على "أحد جوانب القضية"، وهو مصير من بقي من نظام إجرامي، وهل يكون من خلال تقتيلهم في أوكارهم أم سيعقد مشهد مثير لمحاكمتهم مع خطف الأضواء عما يصنع بالبلد وشعبه وثورته.
ما يراد من خلال الجهود المبذولة منذ سنوات هو ألا تنشأ سورية محررة عبر الثورة في نطاق الحدود المتوارثة منذ سايكس بيكو، وألا يستعيد شعب سورية وحدته، بعد أن صنع الاستبداد الطويل أسباب تصديع وحدته الوطنية، ثم ساهمت في الاتجاه نفسه قوى "ثورية" انحرفت بوصلتها من حيث تعلم أو لا تعلم.
من يحصر رؤيته في المشهد المأساوي الناجم عن ذلك ينشر مقولة "انتهت سورية" ويقول بلسان حاله أو مقاله، فليلتفت كل فرد سوري إذن إلى وضعه الخاص، مشردا عن أرضه أو منكوبا داخل أرضه، أو باحثا عن سيد مستبد جديد، ولا يتوقف عند حقيقة أن هذا لا يعني سلامته من التطورات الجارية والقادمة -دون مشاركته- حتى وإن حشر نفسه في نطاق من لا يريدون من "الحياة" سوى طعام وشراب.
. . .
السؤال عن إنقاذ سورية وثورتها التغييرية لا يسمح باستمرار الأوهام بشأن وحدة الفصائل أو ارتفاع التجمعات السياسية الحالية إلى مستوى القضية، بغض النظر عن نسبة الملخصين والصادقين والعاملين قدر المستطاع هنا وهناك.
نحن في مرحلة "صناعة وضع جديد" بعد مرحلتي الثورة السلمية والثورة المسلحة.. ولا جواب على السؤال المطروح دون رؤية الثورة بداية حركة تاريخية للتغيير، صنعها إقدام منقطع النظير، وشقت طريقها عبر تضحيات غير مسبوقة، وأصبح مستحيلا الرجوع إلى ما قبل الثورة، وهذا تحديدا ما يدفع القوى المعادية لتركيز جهود المرحلة الحالية على صياغة ما تريده هي من مواصفات "الوضع الجديد الوليد"، ولا تغفل عن أن ذلك لا يتحقق بمجرد القضاء على فصائل وتجمعات سياسية أو تطويعها، ولا حتى بتوحيدها أو تمزيقها.
الوضع الجديد القادم حتما، طال الوقت أو قصر، ستستقر معالمه وفق نتائج صراع إرادات القوى العاملة من أجل صناعة هذه المعالم، إما أن نكون من هذه القوى في مواجهة القوى الخارجية وليس تحت عباءة من عباءاتها.. أو لا نكون.
. . .
حركة التغيير الحالي لسورية بأوضاعها وشعبها ونظامها وعلاقاتها الداخلية والخارجية بدأت مع ما ترمز إليه طل الملوحي تمردا على حقبة الخنوع، ثم حمزة الخطيب رمزا لاندلاع المقاومة السلمية، ثم عبد القادر صالح رمزا للمقاومة المسلحة النقية.. ولا تزال عملية التغيير مستمرة، ولم تتبدل في "صناعة مراحلها" محاور ثلاثة للقوى المؤثرة في اتجاهها، وإن تفاوتت درجات التأثير بين مرحلة وأخرى:
محور عطاء شعبي يتواصل عطاؤه بغض النظر كيف توظفه قيادات فاشلة ورايات متفرقة مفرقة.
محور انكسار ذاتي يقوّض حصيلة العطاء الشعبي في طاحونة انحرافات وأخطاء قيادية جسيمة سيان ما تسوقه من اجتهادات وتبريرات، وقد بدأ ينقرض وجوده بالمنظور الثوري وينمو حجم توظيفه لإجهاض الثورة.
محور عدائي خارجي يندر فيه وجود عمل في صالح التغيير الثوري المعبر عن إرادة الشعب الثائر نفسه، وهو ما يحتل في الوقت الحاضر مركز الصدارة في "أعيننا" وهي ترصد صناعة "وضع بديل".
. . .
حركة التاريخ ماضية.. سلبا أو إيجابا، إن قعدنا خلالها أو واصلنا المسير، إن انتصرنا أو انكسرنا.. فمن يقول "الثورة انتهت" يقول واقعيا "التاريخ توقف" وهذا مستحيل موضوعيا، فنحن قادمون على "واقع ما بعد الثورة"، ويمكن أن يكون سلبيا أو إيجابيا.. وهذا ما يجب أن يكون هو العنصر الثابت في منطق تساؤلنا: ماذا نفعل الآن، وليس ماذا نفعل بعد استفحال سلبيات وضع جديد قادم أو استفحال إيجابياته، إذا اكتفينا بمتابعة كيف يتكون ويستقر ونحن قاعدون.
ليس السؤال عن إنقاذ سورية وثورتها إذن سؤالا "أكاديميا" أو "خياليا" أو سفسطائيا، بل هو سؤال يواجهنا باستمرار، ويتجدد طرحه عبر مستجدات "واقع" يعنينا ويؤثر فينا، فهو يتغير حولنا ويغير ما بنا، يوميا، وهذا ما يحدد المقصود من السؤال -في اللحظة الآنية ومعطياتها- عن إنقاذ سورية وثورتها:
لن يكون جوهر الوضع البديل القادم ولا تفاصيله حصيلة عمل محور واحد من المحاور الثلاثة الآنفة الذكر، بل سيكون حصيلة التدافع المتواصل بينها منذ سنوات، مدّا وجزرا، تقدّما وتأخرا.
ولهذا فإن الإجابة على السؤال المطروح رهن أولا بتعديل رؤيتنا لما يُروّج له بأن ما تصنعه القوى الدولية وحده هو ما يصنع الواقع.. إن قدرتها على ذلك كبيرة ولكنها ليست محدودة، وسيان ما حجمها يبقى علينا نحن أن "نستوعب وأن نتصرف" على أساس أنّنا:
لا نملك من موقع الثورة الشعبية ولن نملك في المستقبل المنظور "أدوات" تغيير توجهات قوى المحور العدائي.. ولا نملك أيضا التأثير على نوعية توجهاتها من خلال الارتباط التبعي لها.. ولكن نملك "احتمال" التأثير الفعال عليها بالتواصل القائم معها على كل حال، إذا كان خارج طوق التبعية لها.. ويتناسب هذا التأثير طردا، نموا وضعفا، بقدر ما نعمل في الوقت نفسه لتطوير إمكاناتنا وتنميتها لتوظيف العطاء الشعبي توظيفا هادفا، ولتقليص الانكسار الذاتي انحرافا وأخطاء وخنقه دون تردّد.
. . .
الحديث هنا هو الحديث عن "مدخل" للجواب على السؤال كيف نعمل لإنقاذ سورية وثورتها، وليس الحديث عن الآليات، إنما يحسن التأكيد في الختام:
آن أوان أن نضع حدا لأوهام "صناعة آلية للعمل" عبر العالم الافتراضي، بالدعوة إلى اختيار قيادات أو إنشاء هيئات أو تعاون تجمعات.
أداة العمل لا تصنع إلا في العالم الواقعي ثم يأتي استخدام العالم الافتراضي من جانبها.. وليس العكس.
القيادات لا تتكون بالانتخاب، بل هو وسيلة لاختيار الأصلح بعد رؤية من تظهر كفاءاتهم فعلا عبر العمل.
التواصل الهادف من أجل هذا وذاك لا يعطي مفعولا كافيا دون أن يكون منظما وهادفا ووجها لوجه بين أصحاب القدرة على التفكير والتدبير.
(وللحديث تتمة)
نبيل شبيب