رؤية – ماهية الثورات ومرتكزات مشروعيتها

محور المشروعية الثورية هو إزالة مظالم وإيجاد وضع خال من المظالم

41

(نشر هذا الموضوع تحت عنوان "مشروعية الثورات" في موقع إسلام أون لاين عام 2009م، قبل انطلاق ثورات ما سمي "الربيع العربي"، إنما بعد أن بلغ الغليان مبلغه على مسار قضايا فلسطين وأفغانستان والعراق والبلقان والشاشان وغيرها، كما نشر في إصدارة سابقة من مداد القلم، وينشر مجددا في هذه الإصدارة بعد أن تابعت شعوب عربية ثوراتها لاستعادة ما صادرته الأنظمة الاستبدادية من حقوقها وفي مقدمتها حق تقرير المصير)

 

فقرات الموضوع:

– "الثورة" مفهوم هلامي فضفاض؟

– الثورة والانقلاب وصبغة المشروعية

– الثورات عبر التاريخ

– اضمحلال مشروعية الثورات وتضييعها

– أمثلة من الواقع وضوابط

 

يلفت النظر في أحداث انتخابات الرئاسة الإيرانية لعام 2009م (قبيل تحرير هذه السطور) أن الذين أخذوا لأنفسهم حق الثورة على الاستبداد في إيران واعتبروا ثورتهم مشروعة، وأعطوها لاحقا سلطة "ولاية الفقيه"، هم أنفسهم لا ينكرون مشروعية التمرد ضد استبدادهم فحسب، بل ينكرون مشروعية مجرد وجود معارضة لممارساتهم وسياساتهم.

السؤال عن مشروعية الثورة من حيث الأصل ليس غائبا فحسب بل أصبح مغيّبا، نتيجة التعامل مع الاستبداد تعاملا يتراوح بين الرهبة من الثورة، والغفلة عن الواقع، والانحراف القيمي.

ومن التساؤلات على خلفية ربط الثورة في إيران باجتهاد ديني تحت عنوان "ولاية الفقيه":

1- ما مصدر مشروعية الثورات عموما وما معاييرها عبر مراحل اندلاعها واستقرار ما بعدها واستمراريته؟

2- ألا تسري هذه المعايير على مشروعية الإقدام على ثورة ضد انحراف مسار "ثورة" سابقة؟

لا تجد هذه الأسئلة وأمثالها أجوبة شافية عبر مجرى الأحداث، فصناعة الحدث عموما وما يكتسب صفة الثوروي تخصيصا، لا يخضع بالضرورة لنظريات السببية في علوم السياسة النظرية ولا المنطق العلمي القانوني، بل ترتبط بعوامل عديدة أخرى، أبرزها موازين القوى وتقلبها، ولا يخفى أن مفهوم "ثورة" نفسه أصابته شوائب تستدعي وقفة عنده قبل النظر في "مشروعية" الثورات.

 

"الثورة" مفهوم هلامي فضفاض؟

يختلف الأصل الأول لاستخدام كلمة "ثورة" في اللغة العربية عما يقابلها في اللغات اللاتينية، فقد استخدم العرب كلمة ثار يثور بمعنى الغضب والانتشار وبمعنى الهياج، ومن ذلك اشتقاق تسمية "الثور"، ذكر البقر. ومن استخدامات الكلمة "معنى السيد" كما ورد في قول علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه (أكلت يوم أكل الثور الأبيض) يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه بوصفه سيدا.

يربط اللسان العربي لفظ "الثورة" لغويا أو إيحاءً لغويا بمعاني عدم الانضباط غضبا وبانتشار السيطرة والسيادة. أما أول استخدامات الكلمة باللغات اللاتينية فكان أقرب إلى حركة "منتظمة روتينية" في نظريات كوبرنيكوس الفلكية، إذ تعني كلمة ثورة: دوران كوكب من الكواكب دورة كاملة ومستقرة وخاضعة للقوانين الفلكية حول جسم سماوي آخر.

ومعروف أن كلمة ثورة أصبحت تستخدم بمعانٍ وفي سياقات أخرى عديدة حسب تعبير موسوعة المعرفة، فانتشرت تعابير الثورة الصناعية، والثورة العلمية، والثورة الإلكترونية، والثورة المعلوماتية، وما شابه ذلك كما هو معتاد في انتشار "مفاهيم" جديدة نتيجة غلبة استخدامها الواقعي بغض النظر عن اشتقاقها اللغوي، إنما يرتبط جميع ذلك وأمثاله بمعنى "تغيير شامل أو جذري"، مع ملاحظة حدوثه خلال فترة زمنية معينة. وهذا ما يسري في الدرجة الأولى على استخدام كلمة ثورة في عالم التاريخ والسياسة، أي في وصف "حدث يغير الأوضاع بصورة شاملة أو جذرية في نطاق جغرافي واسع أو في إطار بلد من البلدان، انطلاقا من طاقة الغضب والرفض إزاء وضع قائم، وصولا إلى انتشار / سيطرة بنية هيكلية لوضع جديد".

 

إضافة إلى هذا المعنى الأساسي، استخدمت كلمة الثورة في الأدبيات السياسية العربية بمعاني أخرى، أهمها:

1- وصف تحرك المقاومة المسلحة ضد احتلال استعماري أو عدوان أجنبي، فقيل الثورة الجزائرية عن حرب الاستقلال ضد الاستعمار الفرنسي، والثورة السورية الكبرى وثورة إبراهيم هنانو وأمثالها في سورية ضد الاستعمار الفرنسي أيضا، كما وصفت المقاومة المسلحة الفلسطينية ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بالثورة الفلسطينية، وجميع ذلك وأمثاله لا يثير إشكاليات تتجاوز حدود الاختلاف اللغوي وتعدد وجهات النظر في استخدام مفاهيم اصطلاحية.

2- إطلاق كلمة ثورة على تحرك قوة عسكرية ضد سلطة قائمة، على نطاق واسع كما كان مع ما سمي الثورة العربية الكبرى ضد السلطة العثمانية، أو في حدود بلد بعينه أي الانقلابات العسكرية، كما كان مع "ثورة" 23 يوليو / تموز المصرية ضد آخر سلاطين سلالة محمد علي باشا، كما يسري على مسلسل الانقلابات العسكرية في سورية وآخرها إطلاق وصف الثورة على ما عرف بحركة تشرين الثاني / نوفمبر التصحيحية، وكذلك الانقلابات العسكرية المشابهة في العراق وليبيا والسودان واليمن وغيره. هنا تتجاوز الإشكاليات الجانب اللغوي إلى جوهر المفهوم الاصطلاحي وإلى مقدمات الحدث وتقويمها والوقائع وتفسيرها، وحصيلتها وموقعها من الرؤى والتصورات المتباينة والمتعددة وما ينبثق عنها من أهداف التغيير، ناهيك عن علاقة ذلك كله بالتطلعات والإرادة الشعبية.

لا بد إذن من تخليص "مفهوم الثورة" من شوائب عديدة لا تتلاءم مع ما أضافته أحداث تاريخية على أرض الواقع، فهذا شرط أولي ليتضح المقصود في الموضوع المطروح حول مشروعية الثورات الشعبية، من أين تأتي وكيف تضمحل.

 

الثورة والانقلاب وصبغة المشروعية

بادئ ذي بدء يتجرد الحديث في هذه الفقرة عن التعددية في المنطلقات والتصورات والأهداف البعيدة، وكذلك عن جانب من جوانب المشروعية يرتبط بالدوافع والأهداف تحت مجهر الإرادة الشعبية والمصلحة والعدالة.

الخطوة الأولى لتحديد "ماهية الثورة" تساؤلات توصيفية من قبيل:

1- هل السلطة المستهدفة بحراك ثوري استبدادية أم عادلة؟

2- هل يوجد دستور بصياغة انبثقت عن آلية مشروعة أم فرض بالإكراه؟

3- هل يجد تطبيقه التزاما بأسس المساواة والتكافؤ؟

ومن ثَمّ الخطوة الثانية بطرح معايير لتقويم وسيلة التغيير، عبر ربطها بعدة عناصر:

1- التعبير عن إرادة شعبية.. (المنطلق)

2- الاقتناع بحتمية إزالة مظالم مرفوضة.. (الهدف)

3- ضرورة التغيير تغييرا جذريا.. (التعليل)

4- غياب قابلية تغيير وضع مرفوض قائم من داخل بنيته الهيكلية.. (التسويغ)

5- الوصول إلى وضع جديد يجد القبول على وجه التعميم.. (النتيجة)

ونلاحظ استقراءً أن كل مجموعة عسكرية تتحرك بانقلاب عسكري تتجنب تعبير "الانقلاب" وتنتحل لنفسها تعبير "الثورة". أي أن الانقلابيين أنفسهم يدركون بأن انقلابهم مرفوض ابتداء، فيحاولون عبر استخدام كلمة "ثورة" نشر إيحاءات إيجابية وادّعاء مشروعية يقدّرون وجودها في كلمة "ثورة". وهذا ما يضيف إلى عناصر التقويم السابقة عنصر آخر:

6- الحس الشعبي الذي يربط تلقائيا مشروعية التحرك التغييري بالتعبير عن الإرادة الشعبية في حالة الثورة، ولا يعطي ذلك لانقلاب ينطوي ابتداءً على استغلال القوة العسكرية باستخدامها فيما يتناقض مع وظيفتها الأصلية. اكتساب صبغة المشروعية أقرب تلقائيا لكلمة ثورة منها لوسائل التغيير الأخرى، بينما تبقى وسيلة الانقلاب بالذات مرفوضة وغير مشروعة في سائر الأحوال، بغض النظر عن الدوافع والنتائج، وهو ما لا يتبدل وإن طالت فترة بقاء سلطة انقلابية.

قد يجد الانقلابيون تأييدا لاحقا أو لا يجدون، وقد يتوافق صنيعهم مع تطلعات شعبية أو لا يتوافق، وقد يزيل مظالم سابقة أو لا يزيل.. وجميع ذلك لا يغير شيئا من ضرورة التمييز بين وسيلتي الثورة والانقلاب، وهنا يضاف عنصر أخير على المعايير السابقة، يكمن فيما يترتب على استخدام قوات عسكرية لعملية تغيير بالقوة، فهذا بحد ذاته يقوض أساسا رئيسيا من أسس وجود الدولة نفسها، وهو الأهم في الوعي المعرفي الشعبي ولهذا فهو الحاسم بعد المعايير السابقة السالفة الذكر:

7- وجوب الحيادية السياسية وأداء مهمة الدفاع الوطنية كأساس لوجود أي جيش، وكل انتهاك لذلك يقوض استقرار الدولة وأمن المجتمع.

إن لذلك مفعولا خطيرا وهو ضياع الثقة بين الشعب وجيشه واستحالة الاطمئنان إلى الغرض من الانقلاب، ومن هنا يمكن أن تكتسب الثورة الشعبية صفة المشروعية ويستحيل أن يكتسبها انقلاب عسكري.

 

الثورات عبر التاريخ

يوجد في تاريخ البشرية عموما عدد كبير من أحداث التغيير التي حملت وصف ثورات، وكان تركيز الأنظار على الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والشيوعية، وهو ما انتقل إلى الساحة المعرفية العربية، وأضيفت الثورة الإيرانية لاحقا. بغض النظر عن مآلات تلك الثورات كوسيلة تغيير امتد لعدة عقود أو قرون تالية، نلاحظ من العودة إلى اللحظة التاريخية لانطلاق الحدث أن:

– الثورة الإنجليزية كانت مؤسساتية من داخل السلطة فبدلت مواصفاتها من ملكية استبدادية إلى ملكية مقيدة.

– الثورة الأمريكية كانت حرب استقلال ضد سلطة استعمارية.

– الثورة الفرنسية كانت طبقية باسم طبقة اجتماعية ضد سيطرة أخرى.

– الثورة الشيوعية كانت حزبية اعتمدت على فرق مسلحة ضد السلطة.

– الثورة الإيرانية كانت دينية باعتبار قيام فئة دينية عليها تدبيرا وقيادة وكانت شعبية من حيث حجم تأييدها.

وغالبا ما انتشر التصور المضلل أن الثورة تنطوي على التغيير "فجأة ودون ضوابط"، والواقع أن جميع الثورات المذكورة اندلعت بعد مقدمات تاريخية:

– يؤرخ للإنجليزية بعامي 1688 و1689م، وقد بدأت واقعيا في ثلاثينات القرن نفسه، عبر تمرد غالبية النواب على السلطة الملكية، أي قبل خمسين عاما من التأريخ لها.

– ويؤرخ للأمريكية بعام 1776م وكانت بدايتها الفعلية مع الهياج الشعبي ضد ما عرف بقانون الطوابع عام 1765م.

– ويؤرخ للفرنسية بسقوط سجن الباستيل عام 1789م، ولكن سبقته مقدمات عديدة ومن أهمها اضطرار الملك الفرنسي تحت ضغوط الاحتياجات المالية الرسمية للتراجع تجاه خصومه فيما عرف بحق تصويت طبقات الأمة، ووضع صيغة له أعطت ممثلي العموم من الشعب ثقلا كان من قبل حكرا على الطبقة المسيطرة في السلطة.

– ويؤرخ للشيوعية أو البلشفية بعام 1917م، وكان من مقدماتها هزيمة الدولة الروسية القيصرية أمام القوات اليابانية قبل ذلك بعشرة أعوام.

– ويؤرخ للإيرانية بعامي 1978-1979م والواقع أنه سبقتها مقدمات عديدة كالمواجهة الأولى بين الخميني والشاه عام 1963م، واشتباكات مدينة قم عام 1976م.

(ويضاف في هذه الأثناء مع نشر هذه السطور مجددا عام 2017م: لم يكن أحد في فترة إرهاصات تلك الثورات يقدّر أنها ستصل إلى ما وصلت إليه بعد عدة عقود، ويعني ذلك الآن أن ثورات التغيير الشعبية العربية التي يؤرّخ لبدايتها بمطلع عام 2011م، يمكن أن تدخل كتب التاريخ أنها بلغت غايتها في أعوام أخرى من "المستقبل" الذي لا نعايشه حاليا، بل نعايش الإرهاصات الثورية التغييرية الأولى، وهي دامية مؤلمة)

 

إن النظرة الأعمق إلى المقدمات السابقة للحظة تغيير تاريخية في الثورات المعنية، بالغة الأهمية عند البحث عن إجابة للسؤال: من أين تستمد الثورات مشروعية انطلاقها وخرق "قانون" سائد قبل اندلاعها؟

هل العنصر الحاسم هو التعبير عن إرادة شعبية، بمعنى بدهية "أولوية السيادة الشعبية" على "سيادة السلطة" وأنها تبيح للإرادة الشعبية أن تخرق قانونا تستند السلطة الآنية إليه؟

ولكن كيف تستند الثورة إلى إرادة الشعب.. بمعنى إرادة غالبية شعبية بنسبة عالية؟

إذا كان الترجيح من جانب المؤرخين والباحثين ممكنا في نموذج ثورات "المقاومة المسلحة ضد احتلال أجنبي" فليس الترجيح سهلا في ثورات تغيير وضع داخلي واستبدال سلطة بأخرى. مرحلة المقدمات أو إرهاصات الثورة تنطوي عادة على أوضاع لا تيسر إعطاء أدلة قاطعة بشأن التعبير عن إرادة الشعب وسيادته، وهذا ما يجعل الحديث عن مشروعية ثورة قبل اندلاعها عسيرا، وقد توجد المشروعية فعلا بسبب استخدام سلطة قائمة للعنف بما ينتهك ما تستند هي نفسها إليه من قوانين، ولكن لا تكتسب الثورة المشروعية بمجرد إطلاقها، بل تستقر المشروعية الثورية من خلال أنها "مشروطة مضمونا ومكتسبة قانونيا ومؤقتة زمنيا"، أي:

1- المضمون:

وهو سلسلة من ثلاث حلقات متكاملة: "وضع مرفوض وإرادة شعبية ووضع جديد"، فمشروعية وسيلة التغيير (الثورة) تنبثق عن تعبير الوضع الجديد تعبيرا واضحا عن الإرادة الشعبية الرافضة للوضع القديم. ويتطلب ذلك آليات موضوعية مقبولة لا تتوافر أثناء اندلاع الحدث الثوري مثل "الاستفتاء النزيه" وهو مغيب في الوضع الاستبدادي الذي تنطلق الثورة ضده، ولئن بقيت هذه الآليات مغيبة لا تكتسب الثورة مشروعيتها المطلوبة.

2- القانون:

ترتبط مشروعية الثورة أيضا بتوافق انبثاق السلطة الجديدة من ضمان التعبير المطلق عن سيادة الشعب وليس سيادة الفئة التي أطلقت الثورة باسم الإرادة الشعبية. وفي مقدمة ما ينزلق منفذو الثورات إليه أن يبيحوا لأنفسهم ما تحركوا ثائرين ضد الذين سبقوهم إلى استباحة ذلك لأنفسهم، وأهم الأمثلة عليه: احتكار السلطة، سيان هل يكون عبر مادة دستورية منحرفة المضمون ويجري تمريرها أثناء الموجة الأولى لتأييد الثورة شعبيا، أو عبر التحايل على آليات التصويت، أو اصطناع هيئة مرجعية عليا فوق السلطات الثلاث مع ضمان استبقائها تحت "سيطرتهم" بزعم الدفاع عن الثورة ومكتسباتها. هذا سلوك يوجد شذوذا في بنية المعطيات الدستورية والقانونية يبيح الثورة على استبدادهم بموازين المنطق نفسه الذي استخدموه للثورة على مستبد سبقهم في السلطة.

3- عنصر الزمن:

مشروعية الثورات مشروعية استثنائية ومؤقتة، وهذه أهم المواصفات التي تميزها عن المشروعية الدائمة في أحوال اعتيادية قويمة ومستقرة. ولا تكتسب وسيلة الثورة مشروعيتها المؤقتة إلا بقدر الضرورة الزمنية الموضوعية لاستخدام هذه "الوسيلة" الاستثنائية، فوجوب التغيير هو مصدر مشروعية تحرك استثنائي لتحقيق مشروعية دائمة، وينتهي مفعول الحالة الثورية الاستثنائية مع اللحظة التاريخية التنفيذية لها، ثم تنقب المعادلة، فيصبح كل عمل يطيل تلك اللحظة التاريخية الاستثنائية سببا في نزع صفة مشروعية السلطة المنبثقة عن تغيير ثوري، ومثال ذلك عدم الانتقال من أوضاع انتقالية مرحلية في تشكيل "سلطة الثورة" إلى أوضاع طبيعية دائمة في تشكيل "سلطة الدولة". هذا ما يفقد "الثورة" وعلى وجه الدقة يفقد كل سلطة تنبثق عنها صفة المشروعية، وهو ما يسري علي كثير مما بات يوصف في الساحة العربية – وسواها – بالشرعية الثورية والنضالية وما شابه ذلك.

 

إن مشروعية الثورات مرتبطة بكونها "وسيلة" لا "غاية":

1- من جهة استنادها إلى الاقتناع الشعبي بصرورة استخدامها ضد مظالم قاهرة، مادية أو معنوية، تنتهك الحقوق والحريات والمكتسبات المشروعة.

2- ومن جهة ألا تصبح وسيلة الثورة نفسها مدخلا إلى مظالم قاهرة جديدة، تصبح مدعاة للثورة الشعبية ضد سلطة منحرفة تحت عباءة ثورية فقدت مبرر وجودها.

والحصيلة: ليس التأييد الشعبي في بداية الثورة مصدرا لمشروعية دائمة، وليس التأييد الشعبي لمن أطلق الثورة تأييدا غير مشروط، ومحور المشروعية هو "إزالة مظالم وإيجاد وضع خال من المظالم".

 

أمثلة من الواقع وضوابط

كيف نحدد العلاقة بين حديث نظري آنفا والواقع القائم في عدد من البلدان العربية والإسلامية، تزعم السلطات فيها لنفسها مشروعية ثورية؟

لا بد من معايير وضوابط تخرج بالموضوع من دائرة سجالات سياسية وتساعد على تقويم أوضاع قائمة، تقويما قد يتخذ المتسلطون منه منطلقا لتصحيح أوضاعهم، أو يتخذ الثائرون عليهم منه منطلقا للالتزام بضوابط تمنع وقوعهم فيما وقع فيه من يثورون ضدهم.

العنصر الأهم في ذلك أن مشروعية إطلاق ثورة لا تبدأ بممارسات استبدادية مرفوضة، بل بمجرد "تقنين" معطيات من شأنها تمرير تلك الممارسات عند "رغبة" السلطة في اللجوء إليها.

في مثال إيران الذي فرض نفسه عبر أحداث انتخابات الرئاسة 2009م، نرصد أن الثورة الدينية التي حظيت بتأييد شعبي أعطاها مشروعية التخلص من عنصرين: استبداد محلي فاسد وتبعية أجنبية طاغية.

فترة "ما بعد الثورة" – وإن بقيت تسميتها ثورة – شهدت تقليص التبعية الأجنبية، ولكنها أوجدت معطيات بنيوية للدولة تحت عناوين "دستور جديد" و"ولاية الفقيه" و"مجلس صيانة الدستور" مما جعل ممارسة الاستبداد ممكنة، وهذا ما وقع عمليا واستند إلى جملة من الآليات تجعل التغيير الإيجابي ضمن إطار دستوري وقانوني مستحيلا.

يسري شبيه ذلك على انقلابات انتحلت لنفسها الوصف بالثورات، كما في مصر وسورية والسودان وغيره، فتجاوزت سلطة ما يسمى "مجلس قيادة الثورة" كل الضرورات الاستثنائية زمنيا ومضمونا، وتضاعف حجم الانحراف عبر اصطناع معطيات "تأبيدية" لبقاء السلطة، دستورية شكلا منحرفة مضمونا، واصطناع ما يشبه معطيات قانونية كحالات الطوارئ المزمنة والعبث بقوانين الانتخابات ومنظمات المجتمع الأهلي / المدني، ناهيك عن توغل السلطة القمعية التنفيذية على كل سلطة سواها.

 

الجدير بالذكر استكمالا لهذا الموضوع وجود جهات رسمية وفكرية وإعلامية تحذر من توجيه النقد العلني ناهيك عن ممارسة عمل شعبي ضد هذه السلطة أو تلك بحجة أن لها سياسات إيجابية في بعض الميادين ولا ينبغي تعريضها للخطر أو أنها مستهدفة بأخطار دولية خارجية ولا تصح المشاركة في الضغوط عليها.

في هذا القول مغالطات وتضليل خطير.

1- كل سلطة وحتى الاستبدادية لديها ممارسات إيجابية وسلبية.

2- كل تهاون في رفض السلبيات وإزالة الممارسات السلبية يعني تراكمها على حساب تنمية الإيجابيات مع تكرار الإخفاق في تعبئة القوى الوطنية في مواجهة أخطار خارجية، فيسبب التهاون من المخاطر أضعاف ما يقال عن "مخاطر" محتملة عبر رفضها ومواجهتها، هذا ناهيك عن المخاطرة بوصول الاحتقان إلى درجة انفجار بلا ضوابط.

نبيل شبيب