رؤية – ماذا يجري في السعودية؟

تصعيد غير مسبوق ضد الإسلام في أرضه بعد حملات عدائية ضد وجهه الحضاري الإنساني الشامل لجنس الإنسان ذكورا وإناثا

43

ما يجري في السعودية أبعد مدى وأعمق تأثيرا بكثير من مجرد أمر ملكي تجاوز مضامين ما سبقه من أوامر ملكية ومن فتاوى أو ما جرى تسويقه كفتاوى بشأن موضوع فرعي نسبيا، هو قيادة المرأة للسيارة، مع عدم الاستهانة بأي حق من الحقوق الإنسانية. وعندما تصدر تحذيرات إعلامية من عقوبات شديدة في حالة الاستهزاء في العالم الافتراضي بالأوامر الملكية، فكأنما تكشف تلك التحذيرات دون قصد عن مخاوف قائمة، بسبب خلل غير اعتيادي يمكن أن يستثير الاستهزاء فعلا.

ليس المقصود هنا أن الأمر الملكي الجديد ينتهك "محرمات" ما بالمفهوم الفقهي الحقيقي للكلمة، أي وفق معايير الإسلام نفسه ووفق أصوله ومقاصده، بل يبدو للوهلة الأولى وكأنه عملية تصحيح تعيد الأمور إلى نصابها وتستدعي الترحيب لا الاستهزاء، بل تستدعي أيضا المطالبة بخطوات مشابهة بشأن ما وصلت إليه المخالفات الدينية الحقيقية في ميادين أخرى، في مقدمتها محطات التلفزة العديدة المحسوبة على سلطات الدولة السعودية وفق تمويلها وعمل بعضها والترويج لبعضها الآخر باسم إعلام وترفيه!

الأهم من ذلك:

هذه خطوة لا تنفصل عن خطوات سابقة خلال شهور ماضية، أي من قبل تبديل ولي العهد بأمر ملكي سابق، لا سيما في بلد يتداخل فيه البعد السياسي المحض بأمور ذات أبعاد حقوقية وخلفية "دينية".

. . .

إن الحملات على الإسلام عموما لم تنقطع.. إنما كان الوضع المرفوض دينيا والمقنن سياسيا بشأن قيادة المرأة على درجة بعيدة من الشذوذ بالموازين الإسلامية نفسها، فساهم ذلك في فتح الأبواب على مصراعيها أمام التركيز عليه من جانب ناقدين لهم منطلقات لا علاقة لها بالإسلام أصلا، إنما يتخذ غالبهم من الدفاع عن المرأة وحقوقها المهضومة باسم الإسلام (!) ذريعة فحسب. وكثير من هؤلاء يغض الطرف عن أمور أخرى تستحق النقد والرفض، وهي ظاهرة الإضرار بقضايا مصيرية داخلية وخارجية، أما اختيار التوقيت الحالي بالذات لإلغاء حظر حق القيادة على المرأة فكأنه مقصود للفت الأنظار عن تطورات أخرى، بالغة الخطورة وبعيدة المدى في آثارها المنتظرة داخليا وخارجيا، وعلى مستوى المنطقة العربية والإسلامية بأسرها.

هذا ما ينبغي أن يكون تركيز الاهتمام عليه، وهو مما يرقى إلى مستوى حركة انقلابية واسعة النطاق، تشمل فيما تشمل:

(١) التركيبة المعتمدة داخل العائلة المتصرفة بشؤون البلاد والعباد منذ ما يناهز قرنا من الزمان..

(٢) المعركة القديمة الجديدة بين تيارين موصوفين بالإسلامي والليبرالي.

أما الموصوف بالطرف الإسلامي، فيعمل تحت هذا العنوان ولا يواجه قيودا وحظرا (على النقيض من علماء ودعاة وناشطين سواه) إذ "يجتهد" وفق المطلوب منه، ويعطي أطروحات لا تمس موقع السلطة، ولكن ينطوي كثير منها على نشر تصورات مغلوطة شاذة وصور غريبة منفرة وازدواجية منكرة، توضع جميعا ومع ما قد يكون صالحا وصحيحا مقبولا.. تحت عنوان "الإسلام" فلا تجد "هذه الخلطة" اعتراضا رسميا عليها.

وأما الموصوف بالطرف "الليبرالي"، فيتناقض بتوجهاته حتى مع القليل من الإيجابيات الفاعلة في "توجهات اقتصادية ليبرالية" عالميا، ولكنه يوغل في الأخذ بالجانب القيمي المرتبط بها، أي الغربي الانحلالي أخلاقا وسلوكا وفق المعايير الإسلامية.

مثل هذا الخلل فيما يوصف بالمعركة يتفاقم منذ زمن بعيد في أرض أو دولة لها رمزية خاصة من حيث وجود مكة المكرمة والمدينة المنورة داخل حدودها الرسمية، وهذا التفاقم يفسر التجرؤ مؤخرا على زعم وجود توافق ما على تبني التوجه العلماني فيها.

. . .

عهد الملك الحالي -ويبدو كأنه لم يعد يملك أمر منصبه فعلا- بدأ بأيام حافلة بمؤشرات عديدة في الاتجاه الصحيح، من حيث:

(١) إعادة تقويم سياسات بلاده الإقليمية، لا سيما في تعاملها مع الثورات الشعبية العربية وهي في أوجها..

(٢) دعم التعدد الجغرافي والنوعي للعلاقات الخارجية مع القوى الدولية..

(٣) العمل على مواجهة صراع الهيمنة الإقليمية بمشروع إيراني بنهج طائفي وعرقي، وعدواني توسعي ودموي، ومشروع صهيوأمريكي بنهج استعماري استيطاني، وعدواني توسعي دموي..

(٤) التحرك على الصعيد الداخلي بأسلوب إصلاحي بدأ فورا بإعادة هيكلة توزيع خارطة الصلاحيات والسلطات في البلاد.

إن ما يجري حاليا (منذ شهور) هو انقلاب على هذه السياسات، وكأن الشهور المعدودة قبل الانقلاب كانت فترة هدوء يواري التحضير لحركة مضادة.

لقد انقلب المسار رأسا على عقب، "بين ليلة وضحاها" في نظر من يراقب الأحداث ولا يقدّر ما يجري وراء ستار.

(١) صدرت سلسلة واسعة النطاق من قرارات العزل والتعيين.. تحتاج إلى إعداد مسبق

(٢) أعطيت الصدارة داخليا ودوليا لفريق جديد بتوجهات أصبحت معروفة.. وإعداده متواصل منذ زمن بعيد لمثل هذه اللحظة الانقلابية

(٣) انطلقت سلسلة من المواقف الاستعراضية، أو ساد السكوت "الاستعراضي" حيث ينبغي الكلام بالميزان السياسي، في أمور ترتبط مباشرة بنوعية العلاقة مع مشروعي الهيمنة الإقليميين الخطيرين..

(٤) أثيرت زوبعة الأزمة الخليجية.. ولن تهدأ على الأرجح قبل استكمال تحرك لا علاقة له بمضمونها الرسمي

(٥) جرى التحرك المفاجئ المباشر لاعتقال زمرة مخلصة تحظى بولاء شعبي واسع من العلماء والمفكرين والكتاب والإعلاميين وأمثالهم.. وكأنه مقدمة مدروسة لما بعده

(٦) ضوعفت إجراءات المراقبة والحظر على قنوات التنفيس عن الغضب والتعبير عن الرأي من وسائل التواصل والإعلام الحديثة.. فالتغيير الجاري يتطلب الترهيب من إزعاج مساره

(٧) وجميع ذلك قبل هذا القرار الذي يتجاوز ما سبق استصداره لعدة عقود من "فتاوى" وما سبق ضخه عبر وسائل الفكر والإعلام من حملات، بشأن المرأة وأوضاعها عموما، ومن ذلك تلك الحالة الشاذة المثيرة بشأن حظر قيادة السيارة عليها.

. . .

ليست حقوق الإنسان فقط هي المستهدفة سلبا أو إيجابا في بلد هو الأهم مكانة من بين بلادنا، وجميع بلادنا عزيزة علينا..

الأمر أبعد بكثير مما يتعلق بالحقوق الأصيلة والحريات العامة، وجميعها من عطاء الله للإنسان، وليست ملكا لأي سلطة من السلطات تشرع لنفسها أن تحجبها أو تمنحها، وتمنعها أو تعطيها..

إننا بعد كل ما شهدناه من حملات عدائية ضد الإسلام وأهله وقضاياهم المشروعة، وضد دوره الحضاري الإنساني، بناء للمجتمعات وتحريرا للأفراد، وكرامة إنسانية وعدلا بين البشر، نشهد تصعيدا نوعيا غير مسبوق تجاه الإسلام داخل أرضه، وهو ما ينبغي عليه تطور مستقبلي بعيد المدى بأخطار متعددة الوجوه والأشكال، ويكفي التنويه هنا بجانبين اثنين فقط:

١- على صعيد بناء مجتمع متوازن.. فهذا لا يتحقق قطعا بمنع العلماء والدعاة الأحرار تحت طائلة السجن من الكلام أصلا، حتى وإن كان كلامهم بعيدا عما كانت السلطات تعتبره "مساسا" بمكانتها، المصنفة -دون حق- فوق كل حق من الحقوق المشروعة للنقد والمساءلة بمختلف المعايير.

هذا تحرك ينطوي على تيئيس جيل الشبيبة من مستقبل قويم آخر يسترشدون في بنائه بمن يثقون بعلمهم وإخلاصهم وحكمتهم، ومن شأن ذلك زرع أسباب الغضب والاحتقان والتطرف والانحراف في وقت واحد.

٢- على صعيد التنفير من الإسلام.. عبر ازدراء استعراضي مقصود بمكانة علماء ودعاة ممن كانوا -اجتهادا أو رهبا ورغبا- موالين لسياسات مفروضة من خلال "فتاواهم" ومواقفهم وكتاباتهم، لا سيما إذا بدأ سوقهم الآن لقول نقيض ما كانوا يقولون به بالأمس القريب والبعيد.

هذا ما يضاعف أسباب التيئيس، فكأنما يقال لجيل المستقبل.. لن ينجو أحد من المخلصين أو الموالين، ما دام يتحرك تحت عنوان الإسلام.. إيجابا أو سلبا، على السواء.

. . .

إن ما يجري في السعودية منذ شهور أصبح على جانب كبير من الخطر على البلاد وأهلها، وينطوي على محاولة متجددة متناقضة مع كل صيغة من صيغ أداء الواجبات الكبرى المفروضة تجاه الدين والوطن وقضايا الأمة والإنسان.

من كان مخلصا حقا لبلادنا وشعوبنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا، ومن كان مخلصا قبل ذلك وبعده لإسلامنا ورؤاه الحضارية الإنسانية العادلة الكريمة، فلا يجعلنّ من العبث به مدخلا للتغطية على انحرافات وأخطاء ونكسات سياسية وغير سياسية، أو سبيلا لإلهاء الشعوب عن ذلك وسواه، فمن وراء ذلك كله حساب في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، بين يدي ملك الملوك العزيز الديان، وكفى به حسيبا.

نبيل شبيب