رؤية – شباب الثورات ودروس التغيير

نثق بجيل المستقبل، وبأنه سيجد الطريق لتجاوز ما يواجهه من عقبات، لا سيما تعدد الرايات، والتغلب على ما انتشر من صنوف العداء

40

 

(١) شباب متمرد؟ (٢) شباب غاضب؟ (٣) شباب الغد وراياته (٤) شباب الإبداع وعطاءاته (٥) شباب الكفاءات المتألّقة (٦) شباب القيادات المتكاملة

 

من يتطلع صادقا إلى بزوغ فجر جديد لأمتنا وللإنسان في آفاق المستقبل، من وراء ظلمات الماضي والحاضر، لا يمكن أن يعقد الأمل موضوعيا إلا على جيل شباب المستقبل.

ومن يزعم أن الشباب يفتقر في مسار التغيير إلى خبرات متراكمة عبر زمن طويل لذوي الأعمار المتقدمة، فليعلم أن درب التغيير الذي يحتاج إلى تلك الخبرات المتراكمة يحتاج أيضا إلى خبرات أشد مفعولا، مما صنعته سنوات معدودات حافلة بأحداث المحن والفتن، ومسارات الأخطاء والانحرافات، وعداوات القريب والبعيد، ممن يطعن الثوار الأبرار في الصدور والنحور والظهور، مما لا مثيل له من قبل، فقد اجتمعت بذلك كله بين يدي شباب الثورات الشعبية العربية خبرات مولّدة للطاقات الفاعلة، لا يستهان بها، وهي ما يقارن بمفعول لحظات معدودة في أفران صهر الحديد لتنقيته من الشوائب وإعداده لمهام لا تُعدّ ولا تحصى، ولا غنى عنها في أي بنية هيكلية للبناء على نطاق واسع.

إن دروس التغيير الجذري الشامل في المستقبل هي في مقدمة عطاءات المخلصين من شباب الثورات، من وراء كل راية وتضليل وكل خطأ وانحراف، مما شهدته السنوات الماضية، وهم الأقدر – بإذن الله – على الانطلاق منها لمتابعة الطريق، حتى يكتمل تشييد دعائم حقبة حضارية جديدة في تاريخ الأسرة البشرية.

وهيهات يتسع الحديث عن تلك الدروس في "مقالة".. في زمن نستمرئ فيه الترويج المضلل للامتناع عن قراءة ما يزيد على بضع كلمات في بضعة سطور.. إنما هي ومضات تشير إلى بعض دروس التغيير بين يدي جيل المستقبل، كأمثلة على سواها.

 

(١) شباب متمرد؟

من أين جاءت تلك "المفاجأة" الكبيرة إزاء ما صنع شباب الثورات العربية، وكنا – نحن الذين تجاوزنا مرحلة الشباب.. ونتحدّث عنه – نرى الشباب القوي بأعيننا الكليلة، ونتابع أفكاره الوليدة المحلّقة في العلياء بقوالب أفكارنا المشدودة إلى الأرض، ونقيس مشاعره وأحاسيسه المتوهّجة مضاء وتفاعلا مع قضايانا وعالمنا وعصرنا الآن بمعايير انشغال بقايا لهيب حماستنا بما نزيد أواره من خلافاتنا المستمرة المتوارثة على تعاقب العقود المتوالية من أعمارنا، وننتقد وسائله وأساليبه في التلاقي والتنادي والتحرك والعمل، لأنّه لا يخضعها لحكمة وصايانا وسداد نصائحنا وعصارة تجاربنا وبُعد نظرنا، وما دام لا يقيّد مساره بتوجيهاتنا فهو شباب متمرّد، وما دام لا يتحرّك من ورائنا فقد غلب عليه الموات، وكلما رصدنا منه فريقا يغنّي ويصفّق عمّمنا عليه وصمة الانحلال والضياع‎..

ثم رأينا "فجأة" أن "هذا الشباب".. صنع ثورات، ومن المؤكد أنه لا يحمل الآن وحده مسؤولية وقوع أخطاء في مساراتها المتعددة.

 

(٢) شباب غاضب؟

فاجأنا ما صنع الشباب وعمّمنا على ما يصنع – بقصد ودون قصد – وصف ثورة الغضب، والشعب الغاضب، والتعبير الغاضب.. ويغلب على فهمنا للغضب أنّه يعني التصرّف بما تمليه العاطفة دون ميزان عقلاني، فتعتقله اللحظة الآنية، ولا ينضبط بحدود ومعايير. وننطلق في ذلك مما عرفناه عبر التاريخ بصدد غضب الجائعين في الثورة الفرنسية وما كانوا يمارسونه من انتقام بلا حدود ولا ضوابط، وبصدد غضب الحزبيين الشيوعيين تجاه القيصرية الروسية وما مارسوه من سفك للدماء بلا حساب، بينما علّمتنا ثورات شبابنا وفتياتنا أن الهمجية الإجرامية قد صدرت بكل أشكالها ودرجاتها وانحطاطها عمن يريدون قمع الثورات.. أو سرقتها، وليس عن الثوار من جيل الشباب الصادقين، في ميادين المواجهات المسلّحة وخارج نطاقها على السواء.

 

(٣) شباب الغد وراياته

كم اعترض أقراننا على تحذير بعضنا من تكرار الأخطاء إذا ما تشبّث جيل الشبيبة بطريق جيلنا من الشيوخ والكهول، وعلى وصف أنفسنا بأننا "جيل عصر النكبات".. وكم شدّد أولئك المعترضون على ذكر بعض ما أنجز ذلك الجيل.. رغم النكبات.

صحيح أن "بعض ذلك الجيل" أنجز "بعض الواجب"، ولكن يشهد واقعنا أنه لم يكن كافيا وافيا قطعا، فلم يمنع استمرار وقوع الكوارث على منحدر عصر الانحطاط، وآن أن ندرك أن ما صنع عمالقته الكبار ومصابيحه الهداة – جزاهم الله خير الجزاء – لا يلغي حقيقة قصور سواهم، أي الغالبية من جيلنا، فلا ينبغي أن نتسلّق على إنجازاتهم لمواراة قصورنا.

يجب أن ندرك ونحن نعايش حقبة التغيير بين عصر النكبات وعصر جديد بإذن الله.. أن على جيلنا أن يسارع قبل أن يوافيه الأجل للتخلّي عن مواقع القيادة والتوجيه لجيل جديد قادر على صنع ما نتمنّاه ونصبو إليه ولم نستطع صنعه حتى الآن، فالراية الآن رايته، والراية غداً رايته، وبقدر ما يتشبّث جيلنا نحن بإمساك الرايات الممزقة بأيدينا، بقدر ما نعيق تقدّم جيل المستقبل لتحقيق ما نريد ويريد.

يجب أن نثق بجيل المستقبل، وبأنه سيجد الطريق لتجاوز ما يواجهه من عقبات، لا سيما عقبة تعدد الرايات وتنابز من يحملونها بالألقاب، وعقبة التغلب على ما انتشر من صنوف العداء له في مختلف الجبهات، تحت عناوين صداقة ملغومة.. وإنسانية مزعومة.. وتبجح وقح بالعداء الهمجي السافر.

 

(٤) شباب الإبداع وعطاءاته

رافق اندلاع الثورات من العدم ما أبدعه شبابها من وسائل وأساليب للعمل، وما ظهر من طاقات لا حدود لها لشق طريق العطاء الثوري في ظروف قهر وحرمان وحصار وقحط لا مثيل لها، وهي من تراكم حصيلة الاستبداد والفساد والركون لهما، وحصيلة الهيمنة الأجنبية والتبعية الذليلة المحلية، والتهاون معهما، فلم نعد نرى قبل الثورات بصيص ضوء لإصلاح أو ثورة أو تغيير.. ولولا ذلك الإبداع على أيدي شباب الثورات وفتياتها، لاستمرت الظاهرة التراكمية التي اعتقلت الشعوب على كل صعيد ومنعت الإنجاز في كل ميدان.

إن الاختراقات المضادة من جانب القوى المحلية والخارجية التي واجهت الثورات وسعت للانحراف بمساراتها وإحباط حصيلتها الأولية، إنما كانت اختراقات اعتمدت على ما صنعناه من قبل من ثغرات نتيجة الركون للاستبداد والفساد والهيمنة وأخلاق العبودية الذليلة الصريحة والمقنعة زمنا طويلا.

وإن الإبداع الذي حققه شباب الثورات وتجلّى في انطلاقها من العدم، هو عينه الإبداع الذي يحتاج إليه جيل المستقبل في مواصلة طريق التغيير رغم النكسات ورغم الحصار ورغم همجية القوى المعادية للإنسان وللتغيير بما يخدم الإنسان بدلا من تغوّل المنافع الاستغلالية غير المشروعة بدعوى "لغة مصالح" غير متكافئة.

 

(٥) شباب الكفاءات المتألّقة

لا يمكن سلوك طريق التغيير بعد أن فتحت الثورات بوابته إلا من خلال عمل دائب وإنجاز كبير بطاقات أكبر وأشدّ من طاقات الإجرام المضادة، المتفجرة حقدا وهمجية ضد الشعوب الثائرة، من أجل ما يوصف بتعويم أنظمة مستبدة ساقطة أو اصطناع "بدائل" تتابع أداء المهام القذرة التي استمرأ أداءها أتباعُ الهيمنة دوليا، الطغاة المستبدون على الشعوب محليا.

لا بد من كفاءات شبابية متألّقة مؤهلة لمتابعة طريق التغيير..

كفاءات الإيمان والإخلاص والوعي، كفاءات العلم والمعرفة والتفوق، كفاءات التخصص والخبرة والإبداع، كفاءات الإدارة والتنسيق والتعاون، كفاءات التواصل والتشبيك والتكامل، كفاءات التفاهم على القواسم المشتركة، والرؤية البعيدة المدى، والتخطيط للمراحل القريبة والمتوسطة، كفاءات العمل على مستويات تثبت مؤهلاتها من خلال وجودها الفعلي في المكانة اللائقة بها، محليا وإقليميا وعالميا، ومن خلال ما تتألّق به لتفرض مفعوله فكرا نظريا وعملا ميدانيا.

كفاءات توظف عنصر الزمن لصناعة الإنجاز ولا يسبقها الزمن فيخدم من يعمل لتقويض كل إنجاز.

وإن الكفاءات التي تساهم في صنعها الأدوات التقليدية مثل "دورات تأهيلية" لا ترقى إلى مستويات عالية للمواصفات المذكورة، دون الجهد الفردي المتواصل، والشخصية المستقلة المتوازنة، والرؤية الذاتية المنفتحة.. والصبر والمصابرة على الطريق.

 

(٦) شباب القيادات المتكاملة

من أهمّ دروس الثورات وطريق التغيير الذي فتحت بوابته، ضرورة انتقال رايات القيادة ومواقع صنع القرار من جيل إلى جيل في الوقت المناسب، قبل أن تتكلّس وتتصلّب الأحزاب والجماعات والتنظيمات مثلما تتصلّب أجهزة الفساد والاستبداد في مواقع احتكار السلطة، وقبل أن تتحوّل النخب إلى مجموعات هامشية كأنها من كوكب آخر.. مثل حال فئات ممارسة الاستبداد في بلادها.

لم نعد في عصر "التنظيمات الجامعة المانعة" إلا حيث يوجب الاختصاص تنظيما محكما، ولم نعد في عصر "قيادات فردية عملاقة" بعد أن أصبح التواصل والتشبيك من سمات العمل وراء كل إنجاز.. هذا وذاك ما يحتاج إلى قيادات جماعية وصيغ للتعامل التشبيكي المنظم من نوعية لم نعرفها من قبيل.. هذا علاوة على أن العمل الجماعي أمانة وتكليف، وليس استعلاء وتسلطا، وأن القيادة مسؤولية جليلة وفن إداري وليست تشريفا ولا موهبة ولا غنيمة.

إن القيمة النوعية للقيادة في كل إنسان ترتفع بقدر ما يستوعب أهمية انتقال زمامها من يديه إلى أيدي سواه في اللحظة المناسبة الواجبة، ومن يستوعب هذا الدرس يساهم في تحقيق المصلحة المفروضة، ومن لا يستوعبه لا بد أن ينزلق – وإن أخلص – إلى ارتكاب خطأ جسيم بحق نفسه وبحق مصلحة أمته ومصلحة الإنسان، جنس الإنسان.

مثل هذا الدرس هو ما عجز عن استيعابه من يحسبون أنفسهم زعماء وقادة لمجرد تسلطهم على مواقع الطغيان، الأوان عليهم، وثارت الشعوب لإنهاء مسرحية وجودهم المأساوية.

ولكن.. هو أيضا الدرس الذي ينبغي أن يدركه الثوار من جيل المستقبل وهم في طريقهم إلى النصر والتغيير بإذن الله، فلا يكرّروا في طريقهم ولا في المستقبل أخطاء من سبقهم، فآنذاك تتحول زعاماتهم – وإن حققت إنجازات – إلى أوضاع توجب الثورة عليها أيضا.

ألم يكن بعض ما وقع من ذلك في السنوات الأولى من مسار الثورات الشعبية التغييرية، هو أخطر ثغرة تسللت من خلالها الأعمال المضادة، لتقويض الثورات من داخلها؟

لا ينبغي أن تظهر هذه الثغرات في طريق التغيير.

وقد بدأت مسيرة جيل المستقبل على طريق التغيير.. وهذا ما تنتشر مؤشراته في كل مكان، قد لا يراها بعضنا، أو لا يقدر مكامن القوة والطاقة التغييرية فيها.. فلنذكر شبيه ذلك قبل اندلاع الثورات الشعبية بالطاقات الشعبية من حيث لم يحسب حسابها أنصارها ولا أعداؤها.

وسيتابع جيل المستقبل بشبابه وفتياته طريق التغيير الحضاري الجذري الشامل.. حتى يتحقق الهدف وفق السنن التاريخية للتغيير بعون الواحد الأحد.  

نبيل شبيب