ربيع المسارات الشعبية للتغيير
ثورة التغيير ثورة شعبية واحدة ذات عناصر مشتركة
رؤية تحليلية – لا تتوقف حركة عجلة التاريخ وعلى قدر ما يُبذل من جهود تتحقق الأهداف والمطالب المشروعة
رؤية تحليلية
طرح كثير من الأقلام وجهات نظر عديدة في مواكبة مرور عقد من الأعوام على انطلاقة ما يوصف بالربيع العربي، وينبغي الحذر من الانزلاق إلى أسلوب شاع في الاحتفاء بالمناسبات والذكريات، إذ يعتبرها ماضيا انقضى ولم يبق سوى استخلاص العبر منه. لا يصح ذلك مع حدث الثورات الشعبية، فقد صنع معطيات جديدة عبر مساراته المتعددة. وهي معطيات تستدعي استشرافا موضوعيا لمآلاته، وتجديدا لحوافز متابعة العمل لتجاوز العثرات وبناء مستقبلٍ أفضل؛ وعلى وجه التحديد للعمل بواقعية تتجاوز مفعول تسرّع المتشائمين إحباطا وتتجاوز مفعول تسرّع المتفائلين بخطب رنانة وتمنيات براقة، نتيجة غموض الرؤية أو ضمور الوعي أو الجهل بمتطلبات العمل ومعطيات الواقع.
لا غنى عن مضاعفة الجهود لأداء الواجبات الملحّة الآنية بإغاثة المستغيثين وعون من حاصرتهم وشرّدتهم أفاعيل تحرك أعداء الإنسان والإنسانية، تحركا مضادا لتحرر إرادة الشعوب، إنما المطلوب في الوقت نفسه العمل لمتابعة طريق التغيير وهو الضمان الوحيد لإنهاء المآسي والمعاناة والمحن، ولا غنى في ذلك عن التلاقي على رؤى متوازنة بعيدة المدى إلى ما وراء الآفاق، وفكر مستنير منفتح على أجنحة التكامل والتعاون في كافة المجالات، وتخطيط قويم متجدد لجميع الميادين ومراحل العمل، وسلوك دروب تنمية الإمكانات الذاتية وتطويرها باستمرار، من خلال التخصص والتأهيل وفق احتياجات الإنجازات الضرورية على كل صعيد.
إن الشرط الأول للتحرك مع عجلة التاريخ على طريق التغيير شرط مرتبط بإدراك أن ما جرى في الأعوام التالية ليوم بوعزيزي، هو قطعة من حلقات تاريخية متتابعة، وحدث تفجّر لهيبه بمخزون ما تراكم من تطورات وأحداث سابقة، وتفجّر عطاؤه بما استقطب من طاقات شبابية كامنة؛ أي إدراك أن حلقة ربيع الثورات هذه جزء من حركة تاريخية انسيابية أكبر منه بكثير، وقد سبقتها حلقات وتليها حلقات أخرى.
* * *
إذا كان اعتبار يوم بوعزيزي – رحمه الله وغفر له – يوما متميزا، ومناسبا لتحديد بداية حلقة الثورة في المسارات الشعبية للتغيير، فهو لا يفصلها عما سبقها من حلقات؛ كحلقة مقاومة الاحتلال الأجنبي في أفغانستان والعراق، أو حلقة المقاومة والانتفاضات المتتالية في فلسطين المغتصبة، ولا عن سوى هذا وذاك من قبل، مما عايشناه وعايشنا معه تمنيات المتفائلين وإحباط المتشائمين، ولم يكن ممكنا آنذاك استشراف معالم تفصيلية لِما عايشناه لاحقا وأطلقنا عليه وصف الربيع العربي، وإن قدّرنا عموما أن الشعوب ستثور بصورة ما لا محالة؛ وإننا نعايش الآن أيضا أحداثا جارية مع عجلة التاريخ وطاغية في ثقلها ومفعولها، فلا يسهل استشراف معالم تفصيلية للحلقة التالية، ولكن يمكن وفق سنن التاريخ ومجراه أن نقدّر أن إرادة الشعوب ستتحرر في المستقبل المنظور.
ومن شروط استيعابنا للواقع الراهن أن نبصر وحدة المسارات الثورية الشعبية المتوازية، من وراء تعدّد أشكال التباين بينها، فهي متكاملة وإن استوطن كلّ منها قطرا من أقطارنا الثائرة منذ ١٧ كانون الأول / ديسمبر ٢٠١٠م، باعتباره بداية حلقة القرن الميلادي الحادي والعشرين في مسار التغيير.
الواقع أننا لم نشهد ثورات متفرقة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، بل ثورة واحدة تعددت مواقعها وتجلياتها، تحت تأثير منظورين متقابلين، أحدهما منظور ما توارثناه من واقع القهر عبر حدود مصطنعة وأعلام مفرّقة، وثانيهما منظور ما نصبو إليه من استعادة النسيج الحضاري والانتمائي المشترك عبر حدث التغيير.
وكانت تلك الثورة الواحدة أوسع وأشمل من البلدان الخمسة المحسوبة على الربيع العربي، كما ظهر لاحقا في السودان والجزائر والعراق ولبنان، بل شهدت الشهور الأولى من عام ٢٠١١م ما يؤكد أنها ثورة واحدة، كما عبرت عنها تحركات ومظاهرات شعبية مبكرة أخمد لهيبها بعد أن اندلعت في ذلك العام نفسه، ومن بداياتها ما كان من تحرك متشابه مع تحرك سواها، يوم (٥ / ١) في الجزائر و(٧ / ١) في الأردن و(٢٦ / ١) في السعودية و(١٤ / ٢) في البحرين و(١٨ / ٢) في عُمان والكويت و(٢٠ / ٢) في المغرب و(٢٢ / ٢) في العراق و(١٨ / ٣) في مويتانيا.
الأعمق مدلولا على وحدة ثورة التغيير ما طرحته الثورة الواحدة من مطالب شعبية كبرى، من وراء كافة الحدود والأعلام وبقايا الأنظمة العتيقة، فتميزت وحدة المطالب الشعبية وتمحورت من البداية حول مطلب الكرامة كما ترمز إليه قصة بوعزيزي المأساوية، وحول مطلب العدالة الأظهر للعيان في مصر كما ترمز إليه قصة خالد سعيد وحركة شباب ٦ أبريل، وحول مطلب الحرية أو التحرر من التسلط كما يعبر عنه انتشار الهدير الشعبي الجماهيري بهتاف الشعب يريد إسقاط النظام، كما يسري شبيه ذلك على مطلب المساواة كما ترمز إليه أسماء من خلدت ذكرَهم الانتفاضات والثورات فلم تميز بين طفل وطفلة، أو شاب وشابة، أو رجل وامرأة، إذ كانوا جميعا من صناع المسيرة وشهدائها ورموز تضحياتها، وذاك ما يتلاقى مع مطلب المساواة الذي يتحقق في الواقع العملي عبر تكامل الدوائر الكبرى والصغرى لانتماءات الشعب الواحد وانتماءات شعوب المنطقة الحضارية الواحدة، وحتى التقاطع بين هموم الأحرار الصادقين عبر حدود عالم معاصر لا بقاء له دون أن تظهر الروابط الإنسانية فيه وتندحر العصبيات بمختلف أشكالها المنحرفة وألوانها السوداء.
* * *
هي ثورة واحدة أيضا وإن تعددت تجلياتها تاريخيا ما بين جيل وجيل؛ وإننا لنرصد في اللحظة التاريخية الراهنة كيف تنتقل الرايات مثلما انتقلت في لحظة تاريخية ماضية، ما بين أجيال سابقة وأجيال تالية؛ وإن انتقال الرايات لا يعني جمود مضامينها بقدر ما يعني ولادة متتابعة لما يناسب كل مرحلة من المراحل، إذ يبني العاملون الصادقون على ما تجاوز عصره مما مضى، ويفتحون آفاقا جديدة أمام ما يجب أن يشاد اليوم وغدا؛ ومن خلال ذلك نرصد يوما بعد يوم كيف تتحول حصيلة الصواب والخطأ في عطاء من بذلوا ما استطاعوا من قبل، إلى طاقة جديدة للبذل والعطاء من جانب جيل المستقبل لمتابعة طريق التغيير من أجل مستقبل أفضل.
إن وحدة المسيرة الثورية التغييرية يتجلى في استمرارها وحتمية انتصارها من وراء الحدود والأعلام المفرقة، بل ومن وراء اختلاف درجات المعاناة والمحن وانتشار المآسي بين موقع وآخر، من مواقع حدث الربيع العربي، إذ يدور حول محور مشترك جامع، هو التوجه الشعبي في كل مكان للعمل على مواجهة ما تراكم في بلادنا وعالمنا وعصرنا من أفاعيل استبداد الاحتلال والاستغلال والهيمنة الأجنبية، ومن أفاعيل استبداد التسلط الهمجي المحلي، وهي مواجهة تتعدد مسمياتها كما تتعدّد تجلياتها تقدما وتعثرا، ارتفاعا وانخفاضا، علوّا واستخذاءً، في إنجازات ونكسات، في تحصيل العلم واستمراء الجهل، في حياة الوعي وموات الغفلة، في ديمومة التأهيل للعمل وتخلّف القعود عن العمل، في التقارب من فوق الاختلافات والتنائي رغم القواسم المشتركة، في الحوار المنصف والإقصاء الظرالم، وجميع ذلك في حلقة تاريخية بعد حلقة، إنما المهم أن حركة التاريخ هذه مستمرة، وأننا يمكن أن نقترب معها من تحقيق مطالب وأهداف مشروعة، بقدر ما يُبذل من جهود وما تتلاقى عليه النوايا الصادقة، وبقدر ما نتشبث بإنشاء بنية هيكلية متكاملة لواقع مسار التغيير المشترك، بمختلف عناصره الحضارية.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب