رؤية – ثقافتنا تحت القصف
أصبحنا ننظر إلى المرآة فلا نكاد نبصر سوى "ما فعل عدوّنا بنا" ثقافيا، فنعبر عن غضبنا ولا نرى من وراء ذلك أصالة وجهنا الثقافي
(قبيل نشر هذا الموضوع للمرة الأولى في شبكة الجزيرة يوم ٣ / ١٠ / ٢٠٠٤م) كتب أحد المسؤولين في منظمةٍ للدفاع عن حقوق الإنسان يزعم أنّ لما أسماه "ثقافة التعذيب" جذورا تاريخية في الثقافة العربية-الإسلامية.. وقال آخر شبيه قوله في إحدى الفضائيات العربية، وعزا ثالث ضعفَ روح النقد الذاتي وعدمَ تقبّل نقد الآخر في المجتمعات العربية والإسلامية إلى أنّ الثقافة الإسلامية "نبذت" علم الفلسفة وهو حاضنة روح النقد ومناهجه.
وليس مجهولا أنّ المرحلة الماضية رسّخت في أذهان كثير من المسلمين وفي واقع دراساتهم -بمن فيهم الأشدّ حرصا على ثقافته الإسلامية- ما ينسخ الاستفادة إلى حدّ كبير من أربعة عشر قرنا من التاريخ الإسلامي، عبر التركيز على 32 عاما هجرية هي الحقبة النبوية وحقبة الراشدين الأنصع والأقوم من سواها..
الأمثلة من هذا القبيل كثيرة، حتى لَيصدق على أوضاع "جسدنا الثقافي" قول الشاعر: تكسّرت النصال على النصال!
هجوم نوعيّ مكثّف
معظم أصحاب هذه المقولات وأمثالها عربٌ من حيث الانتماء القوميّ، ومسلمون من حيث الانتماء الديني العقدي أو الانتماء الجغرافي الثقافي. ولو كان حديثهم من قبيل طرح مقولة أو رأي للنقاش، لأمكن الحوار بالحسنى والردّ بالحجة والبرهان، إنّما أصبحت هذه المقولات وأمثالها تُطرح بأسلوب كيل الاتّهامات المتتابعة، مع استخدام لهجة توحي بأنّ "التهمة" ثابتة سلفا، كالبدهية المطلقة، فمجرّد رفضها يعرّض لتهمة إضافية بالتعسّف أو التعصّب أو سواه!
ومن يطلق هذه الاتّهامات وأمثالها يسارع في عباراته التالية ليبني عليها ما يريد قوله من وراء الاتهام، وغالبا ما يدور حول أحد محورين:
(1) محور المطالبة بتغييرٍ ما في أسلوب نظرتنا "التقديسية.. في تصوّره" إلى تصوّراتنا الثقافية العربية-الإسلامية!
كأنّما خلا إسلامنا وخلت ثقافتنا إطلاقا من روح النقد الذاتي وممارسة المحاسبة البصيرة.
(2) والمحور الثاني هو العمل على تسويغ أوضاع سياسية وثقافية مفروضة..
فيرى المتهجّمون على الثقافة العربية- الإسلامية، أنّ "الوصاية" على مجتمعاتنا ضرورية، بدعوى عدم بلوغنا -نحن العامّة من الشعوب- "سنّ الرشد"!
وقد انطلقت هذه الاتهامات من حملة مشابهة، زعمت أنّ للعنف جذوره في الثقافة العربية-الإسلامية، فمكافحة الإرهاب تتطلّب إذن قطع تلك الجذور، أو -بصيغة مخفّفة شكلا لا مضمونا- إصلاح مناهجنا التربيوية والتعليمية والثقافية على هذا الأساس!
المشكلة هنا، أنّ هذه المقولات تخلط ما بين المرفوض والمقبول، أي بين:
(1) أرضية تريد النيلَ من أصل ثوابتِ عناصرِ وجودنا الثقافي المتميّز بانتمائنا الإسلامي: عقيدة للمسلمين وثقافة لهم ولسواهم في الدائرة الحضارية المشتركة.
(2) وأرضية الواقع الذي يوجب فعلا التخلّص من سلبيّات وظواهر خطيرة ناشئة داخل مجتمعاتنا ودائرتنا الحضارية.. هذا مع ملاحظة أنّ جلّها لم ينشأ تحت مظلّة حضاريّة ثقافيّة إسلاميّة، بل نشأ في حقبة تغييب الإسلام وتغييب ثوابته قسرا عن توجيه مسيرة الحياة والحكم في مختلف الميادين.
المشكلة أنّ من يعترض على تلك المقولات التهجمية انطلاقا من الأرضيّة الثقافية الذاتية الأولى، لا يجد جوابا على اعتراضه، بل يجد غالبا التشكيك في موقفه، ولكن انطلاقا من الأرضيّة الثانية، أي من واقع لم يعترض عل حقيقة وجود الفساد فيه!
بغضّ النظر عن النوايا، تلتقي مقولات التهجّم الجديدة على ثقافتنا العربية-الإسلامية، مع الحملة الغربية والتغريبية الراهنة في إطار دعوات معروفة إلى تغيير مناهجنا على كلّ صعيد..
كأنّ ما وصلنا إليه، من انفلات أمني خارجي يصنع الاحتلال، وانفلات أمني داخلي يصنع الإرهاب وسواه.. لم يقع في فترة سبق فيها تغيير سائر المناهج والسياسات والتطبيقات، في اتّجاه "التغريب" طوال عشرات السنين الماضية، فلم يترك سوى بقية باقية من تأثير الإسلام.. وهو ما يراد إقصاؤه الآن!
إنّ ما يجري على الصعيد الثقافي ليس من الأمور "النظرية"، بل يوظّف سياسيا أيضا، ولهذا نشهد حاليا نقلة نوعيّة في حرب المصطلحات أو غزو المصطلحات لتسويغ حملات قمعيّة محضة.
على سبيل المثال.. كنّا نرصد إلى وقت قريب تعميم التصنيف الغربي للإسلاميين بين "معتدلين ومتطرّفين"، وهو تصنيف نقله المتغرّبون إلى الساحة العربية والإسلامية، وجرى توظيفه سياسيا لتحييد طرف إسلامي عند توجيه الضربات إلى طرف آخر.. أمّا الآن فغاب هذا التصنيف واقعيا، وبات يدور الحديث عن "الإسلاميين" بصيغة تعميم الاتهام!
كان يقال مثلا "إرهاب المتطرّفين الإسلاميين"، وصار يقال "إرهاب الإسلاميين"..
وكان يقال مثلا إنّ الإرهابين انحرفوا عن طريق "الحركة الإسلامية"، وصارت "الحركات الإسلامية" نفسها توصف بمحاضن فكر الإرهاب..
وجميع ما انتشر على هذا النحو في الغرب انتشارا واسعا، ينقله المتغرّبون إلى مفردات الإعلام في المنطقة العربية والإسلامية، ويبدأ توظيفه سياسيا.
لا يخفى إذن أنّ الأخطر من غزو المصطلحات هذا، هو ما ينبني عليها من إجراءات عملية، غالبها من قبيل القمع تحت عنوان "أمنيّ" ما!
أسلوب دفاع قاصر
ليس التهجّم على ثقافتنا العربية-الإسلامية جديدا، إنّما هو مرحلة متقدّمة تستكمل ما سبقها منذ أواخر القرن الميلادي التاسع عشر على الأقلّ، كحقبة تالية لحقبة الاستشراق الموازي للاستعمار القديم.. فلا ينفصل قصف ثقافتنا الآن عن مسيرة متعدّدة الأشكال للاستعمار الحديث.
لا نحتاج في الأصل إلى جهود ثقافية وفكرية كبيرة للدفاع بأسلوب ردّ الشبهات، فمقابل تهمة ربط ثقافتنا بممارسة التعذيب كما ذكرت، يمكن الإشارة إلى ما رسخ من تعاليم الإسلام من نبذ العنف وتحريم العدوان بمختلف أشكاله، تجاه البشر والحيوان والبيئة، ناهيك عن التعذيب الوحشي الرهيب للإنسان.
ولا يخفى على باحث منصف كيف اقترنت الدعوة إلى إعداد أسباب القوّة في الإسلام بفرض توظيفها في خدمة الحقّ والعدل والإنسان مطلقا.
كذلك عندما يستشهد فريق من الغربيين وكثير من المتغرّبين، ببعض وقائع تاريخية شاذّة في مسيرة بضعة عشر قرنا إسلاميا، تظهر الحصيلة كمن يعدّد استثناءات تعزّز القاعدة.. ويمكن الردّ المنهجي الموضوعي، وكذلك يمكن الردّ "الدفاعي" يأن "الاستثناءات" في التاريخ الغربي هي التي تمثّل إحقاق الحقّ ونبذ العنف وإخضاع القوّة للعدل، على امتداد ألوف السنين.. مع ذلك لا نعمّم كما يصنع مهاجمو الثقافة العربية-الإسلامية، بل نبقى عند حسن الظنّ بوجود جانب إنساني في الثقافة الغربية، ونقول إنّها في جوهرها سليمة، وانحرف بها طغيان المادّة على القيم والأخلاق.
ولكن..
لا يفيد أو لا يكفي أسلوب الدفاع بردّ الشبهات، بل نحتاج إلى "ردّ إيجابي"، فالغزو الثقافي عبر المصطلحات وما ينبني عليها من إجراءات، لا يتوقّف من تلقاء نفسه عن السعي لتحقيق أغراضه.
ويبدأ الردّ الإيجابي بالتخلّص من القيود الذاتية، ولا تزال ثقافتنا أسيرة ما نفذ إلى الجسد العربي-الإسلامي الممزّق منذ زمن بعيد، وكان الصمود في العقود الماضية صمود "أفراد عمالقة" صنعوا تيّارا في عوالم الفكر والأدب والثقافة والدعوة، وساهم هذا إسهاما كبيرا في أنّ حملات العلمانية والتغريب لعدّة عقود، انتهت إلى مواجهة إخفاقها الذاتي من جهة، وإلى ظهور الصحوة الإسلامية أو ما يسمّيه بعضهم "ظاهرة التديّن" على امتداد العالم الإسلامي من جهة أخرى.
رغم ذلك لا بدّ لثقافتنا العربية-الإسلامية من الانطلاق أيضا إلى المبادرة والعطاء، بدءا بالتخلّص من القيود المفروضة عليها، ومن نقاط الضعف الذاتيّة عند حامليها.
نحتاج إلى هزّة ثقافية وفكرية شاملة، تعبّر عن نفسها إبداعا وعطاء وتفاعلا حيّا مع الواقع وأحداثه وتطوّراته، بما يطرح تلقائيا الوجه الإنساني الأصيل لثقافتنا، شعرا ونثرا، أدبا وفكرا، ذوقا وفنّا، وما يشمل تلقائيا قضايا الإنسان كافّة، في مختلف ميادين الحقوق والحريّات، والسياسة والاجتماع، والفلسفة والقضاء، والبيئة والاقتصاد.
وليس الحديث هنا موجّها فقط إلى مفكّرين ومثقفين مسلمين إسلاميين، وإن كانوا هم المسؤولين أكثر من سواهم، بل هو موجّه أيضا إلى أصحاب الانتماء الإسلامي ثقافيا وحضاريا وتاريخيا، من غير المسلمين، ومن المسلمين الذين أمعنوا في الأخذ بالثقافة الغربية الوافدة، ووجدوا -جميعا- أنفسهم في هذه الأثناء مستهدَفين بما نواجهه جميعا من أخطار خارجية جسيمة.
التحدّي الثقافي
ليست الثغرة التي تنفذ عبرها الاتّهامات الباطلة ثغرة يكتشفها أصحاب الاتّهامات فتتحدّث عنها "دراسة علمية منهجية" للنصوص القرآنية والنبوية أو كتب التراث أو مجرى التاريخ، إنّما هي في الأعمّ الغالب، ثغرة "تلبيس" غير منهجي لمظاهر شاذّة نعايشها، لباسَ "التعميم" على الموروث الثقافي الحضاري، افتراءً وزورا.
لهذا لا تكفي المواجهة عبر اللحاق بكل اتّهام جديد لتفنيده، ولا يفيد أسلوب السخط والغضب والاستنكار، فلا جدوى من ذلك دون إيجاد أرضية ثقافية أوسع نطاقا، لتحرّك متوازن متكامل، يشمل مختلف الأساليب المناسبة الهادفة، ويخلق أجواء عامّة مقنِعة بالخطوط العريضة لثوابت ثقافتنا العربية-الإسلامية، ومستوعبة لِما يطرأ من مستجدّات فرعية.
في غياب هذه الأرضية والأجواء الشاملة، تقع "المفاجأة" كلّما طُرح اتهام جانبي جديد، ويظهر فجأة ميدان آخر من ميادين النقص، وينتشر انفعالا الإحساس بضرورة الردّ كيلا يفعل الاتّهام مفعوله ويحقّق غرضه.
هذا ممّا يظهر للعيان في المثال الوارد عن آخر الاتهامات على صعيد "ثقافة العنف والإرهاب والتعذيب"، وهو يفرض نفسه لأنّه يرتبط بما يسيطر آنيّا على الساحة ويتفاعل مع أحداث الساعة، إنّما يمكن أن نجد في سواه من الأمثلة أيضا، نقصا كبيرا في التفاعل المطلوب، بما يتجاوز آنيّة الحدث نفسه، وما يصل إلى "طرح شامل"، يستوعب تلقائيا الاتّهامات المنفصلة عن بعضها البعض، ممّا يُطرح حاليا، وحتّى ما قد يُطرح في المستقبل.
إنّنا نفتقد ما يمكن وصفه بالبعد "الاستراتيجي" في التحرّك على الصعيد الثقافي والفكري، بحيث لا ينحصر الموقف الثقافي والفكري في نطاق ما يقرّره الموقف السياسي الآني من حدود له، تتقلّب من ميدان إلى ميدان، ومن شكل إلى آخر، حسب الغرض السياسي.
والمطلوب في إيجاد هذا البعد "الاستراتيجي" والانطلاق منه، أن يحيط بالثوابت الأساسية الثقافية من ناحية المضامين، وكذلك أن يحيط بالامتداد الجغرافي والحضاري..
فلا يغيب مثلا التفاعل الثقافي والفكري والوجداني مع أحداث مأساوية ما بين سهول نيجيريا وجبال الشاشان، تحت وطأة الانفعال أو التفاعل مع أحداث مأساوية في العراق وفلسطين..
ولا تشغل قضايا الاعتقالات العشوائية، عن القضايا المزمنة على صعيد المرأة والشبيبة..
ولا يصبح الانشغال بأحداث مفروضة علينا من خارج دائرتنا الحضارية الإسلامية، ذريعةً للغياب عن ساحة التفاعل على مستوى بشري مشترك مع القضايا المشتركة للإنسان، من حقوق وحريّات، وبيئة وصحّة، وهيمنة مادية واستبداد دولي.
نحتاج إلى هزّة ثقافية وفكرية تجمعنا عبر التخلّص من أعباء أثقال نرزح تحتها منذ عشرات السنين، فالعلمانية الأصولية والتغريب المطلق لم يساهما فقط في تمكين الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأجنبية على بلادنا، ولا في توجيه الضربات للعمل على طريق تميّزنا الثقافي الإسلامي فحسب، بل ساهما أيضا في أن يصل الدمار الثقافي إلى كلّ شيء، بما في ذلك قطاعات كبيرة من المرتكزات الثقافية للعلمانيين أنفسهم، غير الأصوليين منهم، وكذلك المتغرّبين "جزئيا" إذا صحّ التعبير!
رغم كثير من الإخفاق الذي أصاب تلك التوجّهات، فقد غيّبت ملامح وجهنا الثقافي الحضاري الإنساني حتّى عن أنفسنا.
أصبحنا ننظر إلى المرآة فلا نكاد نبصر سوى "ما فعل عدوّنا بنا"، فنكيل له ما نكيل بمختلف أساليب التعبير عن الغضب، ولا نرى من وراء ذلك أصالة وجهنا الثقافي لنعمل على إبرازها من جديد على طريق المبادرة والعطاء، بحيث يبطل تلقائيا مفعول التشويه الذي صنعه عدوّنا بنا بأيدي بعضنا.
إنّ ما نحتاج إليه يتجاوز عملية "دفع" ما نرى من أخطار، ويتركّز على إعادة بناء أنفسنا ثقافيا وحضاريا رغم استمرار الأخطار وتفاقمها وتضخّم حجم مفعولها.
لا يكمن التحدّي الثقافي الكبير الذي نواجهه فيما شاع وصفه بروح "الصمود والمقاومة" ثقافيا، بل يكمن أيضا في المبادرة إلى ثقافة البناء الذاتي، الوجداني والفكري والأخلاقي في الوقت نفسه، بما يشمل مواجهة سائر ما يرتبط بوجودنا الثقافي والحضاري، وردّ مختلف أشكال العدوان العسكري وغير العسكري.
نبيل شبيب