ما بقي من حقوق الإنسان
من قفص الحق الفردي إلى فضاء الواجب الجماعي
رؤية تحليلية – الإنسان المعتقل – ترويض الإنسان – في قفص الصراع – ثقافة عنصرية متخلفة – هل من مخرج؟
رؤية تحليلية
مضى ما يزيد على حياة جيلين من الأسرة البشرية على إصدار الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان ولم ينقطع الكلام عنه يوما، ولا يزال يوجد في واقع الإنسان الكثير من المآسي والمظالم والهمجية العدوانية، ممّا يدفع إلى التساؤل بمرارة عمّا بقي من مفعول مبادئ ومثل وردت في ذلك البيان، وكانت -بغض النظر عن بعض الاختلاف حول بعض المضامين- متميزةً عموما بصياغة محكمة، ورؤى مستقبلية، وتفاصيل دقيقة، وأضيف إليها المزيد لاحقا في مواثيق وبيانات عالمية وإعلانات أخرى.. والمهم: علام لا ينعكس ذلك إذن على أرض الواقع كما ينبغي؟
بل علام يزداد التدهور بمعايير إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه وحرياته، يوما بعد يوم، ويشمل المزيد من ملايين البشر عاما بعد عام، رغم أنّنا نعيش -كما يقال- في ظل حضارة إنسانية تفوقت تقنيا بثورات الاتصال والتواصل على سائر ما سبقها؟
الإنسان المعتقل
يمكن أن ننشغل لعدة عقود أخرى بالمطالبة بحقوق الإنسان وحرياته كما يقررها الإعلان العالمي منذ عام ١٩٤٨م، ولكن هل كانت صياغتها وإعلانها لمجرد المطالبة بها باستمرار، أم من أجل أن تصبح أسسا بدهية تفرض التقنين والتطبيق فحسب؟
أصبحنا ننشغل على أرض الواقع بكل جزئية صغيرة ترتبط بالصياغة بعيدا عن السؤال الجوهري:
لماذا يستمر التدهور.. مهما اشتغلنا؟
وهو المدخل إلى السؤال الأهمّ:
كيف نخرج بجنس الإنسان ممّا حلّ به في ظل المنظومة الدولية الحالية، وهي أقرب للهمجية منها إلى البشرية الإنسانية؟
ننشغل أيضا بالجدل حول ارتفاع منسوب ضمان الحقوق والحريات في دول غربية، وكأن ذلك بدهية مسلم بها، ومن ثم نطالب بعضنا بعضا بأن نحذو حذو من صنعوا ذلك ونمضي خلفهم، في أي جحر ضب يدخلونه، بدعوى أن في دخوله كرامتنا وحقوقنا وحرياتنا!
هل هذا صحيح فعلا؟
ننشغل -في أفضل الأحوال- بتوجيه الغضب الأكبر إلى الاستبداد والمستبدين، والعدوان والمعتدين، فهم سر كل بلية، وسبب كل رزء؛ ومع عدم تبرئتهم مما يحملون المسؤولية عنه، لا ينبغي أن يكونوا وحدهم شماعة لكل شكوى، لا سيما من جانب أولئك الذين يريدون صرف النظر عن مسؤولية عدو دولي ومستغل خارجي!
ننشغل حتى بالجدل حول إنسانية أولئك الذين يوزعون فتاتا من مساعدات، لا يبلغ حجمها كله من قبل نشأة هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها حتى اليوم، عُشر معشار ما سلبوه ولا يزال يسلبونه، من خيرات العالم وثرواته، وصنعوا به ترفهم الفاحش، ثم هم يمنّون على أصحاب تلك الخيرات والثروات بما يتصدقون به عليهم، ويقيدون به أيديهم وأرجلهم ويلوون أعناقهم ماليا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا!
وأسوأ مما سبق أننا ننشغل بالجدل حول المسؤولية الذاتية للإنسان الفرد في بلادنا إلى درجة الزعم أنّه هو السبب في تعرضه للمظالم والمفاسد، ولانتهاك الحقوق، ولمصادرة الحريات، كأنه لا يستحق سوى ذلك، أو أنه غير مؤهل لغير ذلك، أو أنه ليس من جنس الإنسان، أو أنه خلق من طينة أخرى غير التي خُلق بقية البشر منها!
لا نجهل حقيقة مسؤولياتنا عن خلافاتنا الجانبية الانتحارية، ونزواتنا الكارثية، ولا عن تعطيل طاقاتنا وكفاءاتنا وأدمغتنا المهجرة خارج الحدود والمهمشة داخل الحدود، إنما نرفض تعليلات بصيغة اتهامات عنصرية خرقاء في أن يقال مثلا إن الإنسان في دائرتنا الحضارية، العربي، أو المسلم، أو المشرقي -سيان ما التسمية- لا فائدة تُرجى منه، ولا يستطيع تحقيق إنجاز، ولا يصلح معه سوى الاستبداد، فاستعداده للاستبداد والاستغلال والقهر والقمع كامن في عناصر تكوينه الوراثية، وكامن في تكوينه التاريخي الاجتماعي، منذ فراعنة ما قبل العصر الحضاري الغربي الملوث بألوف السنين حتى فراعنة الانحطاط المحلي المعاصرين!
ترويض الإنسان
بذلك المنطق لا جدوى إذن من حديثنا العاطفي الحماسي أو العقائدي عن عدالة الفاروق وسماحة صلاح الدين، وعن سحابة الرشيد وقسطنطينية الفاتح، وعن علماء وفقهاء وأطباء ومهندسين ومفكرين وفلكيين وسواهم!
سؤال اعتراضي:
ألا يفعل شبيهَ ذلك فكريا وأدبيا وفنيا مع رموزهم التاريخية أولئك الذين حققوا نصيبا من تطبيقات حقوق الإنسان وحرياته؛ فأين الخلل إذن؟
لنستطرد قليلا ونطرح سؤالا آخر للحوار:
ما البديل عن استعادة قيمنا عبر ما يستحق الإشادة من تاريخنا ودمج ذلك في عمل جادّ لحاضرنا ومستقبلنا؟
البديل في نظر بعضنا أن نبذل ما نستطيع الآن للحاق بركب الغرب المتحضر بكل ما فيه من سلبيات همجية وإيجابيات عقلانية، ويعني ذلك مثلا:
– تعديل مناهجنا المدرسية مستعينين بمناهجهم..
ألا نخشى أن تنتشر لدينا المشكلات الاجتماعية المؤلمة التي تنخر في أجيال ناشئة لديهم بمعاول المخدرات والاعتداءات الجنسية وحتى معدلات انخفاض وسطي أعمار مرتكبي الجريمة والقتل العشوائي؟
يعني ذلك مثلا آخر:
– مضاعفة التقليد على طريق إفساد أذواقنا الفنية والأدبية؛ ولكن أين العلاقة السببية بين ذلك وبين وضع مخططات منهجية قويمة لبناء المدارس والجامعات والمخابر والمصانع والحقول والمزارع؟
يقولون: عسى نصل كما وصلوا إلى القمر والمريخ..
ونتجاهل أنهم وصلوا أيضا إلى هيروشيما وناجازاكي وجوانتانامو
عسى نستفيد من اكتشافهم العناصر الوراثية..
ونتجاهل اكتشافاتهم أيضا وصناعتهم لقنابل النابالم الحارقة للبشر والحجر والطائرات القاتلة دون طيار والاعتداء الجنسي الفاحش على الأطفال..
عسى نقلّدهم في الانتخابات وفصل السلطات..
ونتناسى الهنود الحمر ودير ياسين وتسبرينتسا وغزة والفلوجة وقوارب الموت..
عسى نحوز على رضاهم إذا زعمنا لهم البراءة كما يزعمونها لأنفسهم من الإرهاب والاستبداد..
ونصدّق ذلك، رغم ويكي ليكس وما سبقه وما يمكن أن يلحق به، ولا نصدق ما نراه بأم أعيننا من نشأة تلك الأوبئة وسواها في أحضانهم وأحضان أتباعهم ومن يقامرون عليهم!
نعود إلى السؤال الأهم: كيف نخرج بجنس الإنسان ممّا حلّ به في ظل المنظومة الدولية الحالية؟
لقد عايشنا خلال جيلين ماضيين حقبة اعتقال جنس الإنسان، فكرا وسياسة وإعلاما.. مالا وعسكرة واستعبادا.. ونعايش حقبة ترويضه داخل المعتقل الكبير، بحيث نوظّف أنفسنا لاعتقال بعضنا بعضا، وملاحقة بعضنا بعضا، ومقاتلة بعضنا بعضا، وتجنيد بعضنا شرطةً محلية ومخابرات وآلات تعذيب، لحماية مصالح العدوّ البريء ومطامعه واعتداءاته واستغلاله.. من بعضنا الآخر.
بل وصل ترويض أنفسنا بأنفسنا إلى درجة تبديل مناهجنا وأذواقنا وأدبنا وعقلنا ووجداننا.. بدعوى رفع مستوانا، ولا يبدو أنّه سيرتفع في ميدان حقوق الإنسان وحرياته بالذات، إلاّ بعد أن يستفحل في ديارنا، كمّا وكيفا، ما انتشر في نطاق مجتمعات من نريد اقتباس مناهجهم.. حتى بلغ مستوى وأد الأطفال والناشئة أحياء في أضرحة الاعتداءات الجنسية، واغتيال الأسرة بأصل تكوينها، مع استباحة الإنسان، جنس الإنسان، من ذكر وأنثى.. وخنثى، بلا حساب، وجميع ذلك ومزيد عليه باسم الحقوق والحريات!
في قفص الصراع
إن البقية الباقية من الحقوق والحريات لصالح “الإنسان الأبيض” في الغرب نفسه، تتآكل يوما بعد يوم على مذبح عولمة الرأسمالية المتوحّشة.. بل ضاع إلى حد كبير كثيرٌ من المنجزات الحقيقية السابقة عبر تفريغها من محتواها والحدّ من مفعولها، وهذا ما يشمل الانتخابات وفصل السلطات والتداول على السلطة وسيادة القانون واستقلال القضاء وحرية الكلمة.
لماذا؟
ما السرّ وراء ذلك التناقض الفجّ بين نصوص البيان العالمي لحقوق الإنسان وواقع الإنسان عموما، حتى في الدول التي وضعت صياغة ذلك البيان؟
يحسن الوقوف أولا عند ملاحظة جوهرية على نشأة البيان العالمي لحقوق الإنسان، فما نزال نعايش آثارها حتى اليوم.
لقد كانت ولادة صياغة هذا البيان العالمي في رحم ما أسفرت عنه جولتان دمويتان من الصراع في تاريخ البشرية.. هما الحربان العالميتان المدمّرتان.
وكان جلّ محتويات البيان منبثقا عمّا سبق أن وثقته الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال الأمريكية، أي ما ولد في حينه أيضا عبر جولات صراع دموي سابقة.
مهما كانت نوايا الصادقين في العمل لتحقيق إنسانية الإنسان، فإن ما ولد في رحم “الصراع” سبب ترسيخ أسلوب الصراع كوسيلة وحيدة لنوال الحقوق والحريات.
يسري هذا على المستوى الفردي والحقوق الشخصية، كما يسري على المستوى الجماعي وحقوق فئات المجتمع المتعددة كالعمال والنساء والفقراء والأطفال والمسنين، وحتى مستوى العلاقات بين المجتمعات والدول.
هذا ممّا تعبّر عنه مقولات ذات مغزى، مثل “الحقوق تُنتزع انتزاعا ولا توهب”.. أما على أرض الواقع فكانت الحصيلة وما تزال:
استمرار اغتصاب الحقوق لأن الاغتصاب نفسه محصن بأسباب القوة الأكبر والكافية للحيلولة دون انتزاع تلك الحقوق بالقوة!
من تلك الشعارات في دائرتنا المعرفية: “ما مات حق وراءه مُطالِب”، وقد ماتت الحقوق رغم المطالبة بها نتيجة موات جماعي تجاه من يغتصبها..
وصيغ بعض ذلك شعرا: “وللحرية الحمراء باب.. بكل يد مضرّجة يُدقّ”، فصار الأصل أن تعتقل الحريات فإن لم تجد يدا تُضرّج بالدماء بقيت في المعتقل، وإن وجدت يد المقاومة اعتقلت وحوصرت أيضا.
على محور ما تعنيه هذه الشعارات وأشباهها من أن تحصيل الحقوق يتطلّب خوض جولات صراع، تكوّنت حركات مدنية وتحررية، كالحركة النسوية، والحركات النقابية والعمالية، وحركات التحرير من الاستعمار، والتحرّر من الاستبداد، ولكن بقيت إنجازاتها أقلّ من محدودة.. فعلى قدر قوتها -وبالأحرى ضعفها بالمقارنة مع خصومها- كان تحصيل الحقوق والحريات محدودا، وبقي هضمها ومصادرتها هو القاعدة الأعمّ الأشمل.. وهذا من قبل الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان ومن بعده.
إنّ المشكلة المحورية فيما رسّخته ثقافة الصراع هذه في ميدان حقوق الإنسان وحرياته:
تحويل مهمّة تحصيلها من المجتمع المسؤول عنها جماعيا، إلى الأفراد والفئات المحرومين منها.
هذه معادلة مستحيلة، فالأفراد والفئات الأضعف حُرموا من حقوقهم نتيجة خلل في موازين القوى لصالح الأطراف المغتصبة والمتعدّية على تلك الحقوق والحريات، والتي تعتمد على امتلاكها من أسباب القوة ما لا يملك مثلَه أكثر المحرومين والضحايا، فكيف تكون حصيلة الصراع بين الجانبين، عندما تُترك كل “فئة ضعيفة” بمفردها مع قضيتها الذاتية أمام خصم عنيد محصّن؟!
ثقافة عنصرية متمدنة
سيّان ما هي النظرة إلى صياغة حقوق الإنسان وحرياته في البيان العالمي سنة ١٩٤٨م، تبقى قيمتها الحقيقية رهينة المحبسين:
محبس ثقافة الصراع التي جمّدت مفعولها التطبيقي وسجنته في قفص شرعة الغاب..
ومحبس الثقافة العنصرية التي لم تدع ميدانا من ميادين العلاقات الدولية إلا وهيمنت عليه.
لم تنتشر الثقافة العنصرية في الميادين التقنية والعلمية والصحية والاقتصادية والمالية فحسب -مما عبرت عنه عناوين صارخة مثل حضارة الرجل الأبيض -بل انتشرت أيضا عبر عنصرية سياسية / عسكرية مباشرة، فالدول الأقوى -المنتصرة اعتمادا على تفوق قوتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية -حصنت نفسها تجاه أي قرار دولي يمكن أن يدينها مهما صنعت. وقد صنعت الكثير ممّا يستحق الإدانة وما تزال تصنع.. ولا تحاسب.
وانتهكت منفردة ومجتمعة جميع ما تمت صياغته من حقوق وحريات دون استثناء، وجميع ما انعقد من مواثيق واستقر من قوانين دولية وأعراف إنسانية، ولم تجد عقابا على ذلك.
ومن أغرب ما انحدر إليه ترويض الإنسان على تقبل ذلك، أن يطلق الطرف الضحية وصف الشرعية الدولية على قرارات تصدر من مطابخ أولئك الذين يزعمون تمثيل الشرعية الدولية ولا ينقطعون عن انتهاكها بشرعة الغاب.
لقد استولى هؤلاء على ثروات “القارة السوداء” وسواها..
مارسوا الحروب المباشرة والحروب بالنيابة ضد دول مارقة وشريرة بتوصيفهم لها..
استخدموا المقاطعة والحصار وسائل لإخضاع من لا يخضع..
مارسوا المؤامرات لإسقاط أنظمة منتخبة وتنصيب أنظمة موالية، واغتيال رؤساء لا يرضون عنهم وعلماء يهدّدون احتكارهم لأحدث التقنيات..
وما زال جميع ذلك ومزيد عليه يجري، بلا رادع ولا عقاب.. على حساب الإنسان الآخر، وعلى حساب الشعوب الأخرى، وهي النسبة الأعظم من سكان المعمورة، ولحساب فئة عنصرية محدودة.. أصبحت تعتبر نفسها هي المجتمع الدولي وهي الأسرة الدولية في عالم ما بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ما الفارق بينهم في ذلك وبين فريق من العسكر ينتصر في انقلاب عسكري أو حتى بعد حرب أهلية، فيعتبر نفسه مجلس قيادة الثورة، الآمر الناهي، والمشرع والمنفذ، والقاضي والجلاد؟!
أصبحت قواعد الصراع والعنصرية حاضنة لمنظومة دولية وداخل كل دولة على حدة.. ولا يمكن في مثل تلك المنظومة أن تجد الحقوق والحريات وفق البيان العالمي طريقا إلى تطبيق قويم.
الذين يحتكرون لأنفسهم أسباب القوة ويميزون أنفسهم على سواهم ودولهم على سواها، ينصبون أنفسهم أيضا قضاة يحكمون عبر تقارير سنوية دورية أو يصنفون اعتمادا على مخططات استخباراتية من يشاؤون كيف يشاؤون، للحيلولة دون انتشار سلاح رادع يواجههم، أو تمرد قادر على منع استغلالهم أو مظالمهم، أو حتى مجرد رفض طاعة أوامرهم عبر ديبلوماسي صغير، لا يعرف من الديبلوماسية إلا ما يسميه سيده الذي ابتعثه: الجزرة والعصا، والمقولة معبرة عن مثال يصّور نوعية نظرته إلى من يتعامل معهم!
إن أول أدوات اغتيال البيان العالمي لحقوق الإنسان بدأت تعمل أثناء ولادته، عبر ترسيخ نظام مالي واقتصادي عالمي، عماده مؤسسات وهيئات دولية من قبيل صندوق النقد الدولي والمصرف المالي العالمي ثم -في ظل العولمة- منظمة التجارة العالمية، لضمان ديمومة احتكار أسباب القوة المادية..
فبات تسعون في المائة من ثروات العالم ملكا لأقل من عشرة في المائة من “البشرية”..
وأصبحت المجاعات والكوارث بوابة لتخفيض عدد فريق كبير من البشر، من غير جنسهم..
وأصبح القمح غذاء للهيمنة.. لا لمعيشة الإنسان..
وأصبحت الوسائل التقنية الحديثة عصا للتأديب والحصار.. لا الرقيّ بالإنسان..
وأصبح جلّ المنظمات الدولية، والمؤتمرات العملاقة، أدوات لترسيخ أسباب الانحراف في الواقع الراهن، على دعامتي ثقافة الصراع والثقافة العنصرية المحوريتين في “شرعة الغاب”.
هل من مخرج؟
لم تعد هذه الصورة مجرّد صورة يخطها قلم كاتب غاضب أو ريشة فنان ثائر، أو إبداع ضمير إنساني حيّ.. ومن أراد توثيق التفاصيل يجد ما يكفي من الأرقام والشواهد فالمآسي مرصودة ويكاد نشر تفاصيلها يتحول إلى وسيلة ترويض أيضا.. عبر الاعتياد عليها بل وعبر التخويف من مصير مماثل لمصير ضحاياها.
الجائعون ربع البشرية أو خمسها، والقتلى من الأطفال بؤسا ومرضا وإجراما حربيا تعدهم الإحصاءات مع كل ثانية وليس مع كل يوم أو شهر أو سنة، وضحايا الاغتصاب والإدمان والقتل العشوائي في المدارس والقتل البطيء في عمليات الحصار تملأ صورهم الشاشات وتقتحم البيوت مهما أدمن أصحابها على متابعة مشاهد الرقص والطرب.
صور رهيبة، وأرهب ما فيها أنها واقع نعايشه وليست فيلما سينمائيا تدور أحداثه وتنتهي مع انتهائه، وما لم نستوعبها واقعا قائما لا يمكن أن نرى المخرج منها لاستعادة إنسانية الإنسان وكرامته وحقوقه وحرياته، سيان ما لونه أو جنسه أو لغته أو موطنه أو معتقده.
أبواب الترقيع الجزئي موصدة واقعيا، والتغيير الشامل واجب وممكن.. وإن كانت الطريق لتحقيقه صعبة وربما طويلة، وأول خطوة فيه تجديد التصورات والأفكار لتولد في حراكها قيادات التغيير..
البداية هي فهم الحقوق والحريات فهما آخر يستبعد كل أثر من آثار ثقافة الصراع وثقافة العنصرية في استيعابها وفي العمل على تحقيقها..
ليست الكرامة حقا ينتزع.. بل هي واجب على المجتمع البشري، بمسؤولية جماعية مشتركة، ألا تتعرض كرامة فرد واحد فيه للانتهاك.
ليست الحقوق حقوقا فردية يعجز الضعفاء عن تحصيلها بل هي واجبات جماعية يأثم من لا يعمل على تحقيقها لغيره قبل نفسه.
ليست الحريات سلعة توهب أو تشترى أو تنتزع انتزاعا، بل هي أصيلة مع نفخ الروح في كل جنين، لا تفارقه حتى تفارق روحه جسده، فلا يعاقب من يعجز عن الدفاع عنها تجاه المستبدين بتركه وشأنه أسيرا للاستبداد والاستعباد والقهر، بل هي مسؤولية المجتمع كله أن يعاقب من يمارس الاستبداد والاستعباد والقهر.
أما السبيل إلى ذلك فلا يبدو أن أي منظومة قيم من صنع أهل الأرض يمكن أن تحيي المسؤولية الذاتية، لتنشأ عنها المسؤولية الجماعية، فهذا مما تصنعه دعوات الأديان من وحي السماء عبر قوة ذاتية داخلية هي جذوة ما نسميه الضمير العالمي، ومن هنا فإن من يحارب العقائد، تحت أي عنوان، إنما يخدم استمرار هيمنة البشر على البشر واستعباد فريق لفريق، وهو آثم بحق نفسه وآثم بحق غيره.
ومن يستوعب الكرامة والحقوق والحريات على أنها واجبات جماعية، يعمل من أجل إيجاد الآليات الجماعية لضمانها لكل إنسان، ذكرا كان أو أنثى، طفلا كان أو بالغا، فقيرا أو غنيا، ضعيفا أو قويا، ومهما كان انتماؤه أو معتقده.
هي رؤية يصنعها الأمل في مستقبل إنساني كريم، وللأمل قوة تصنع الأفكار والتصورات، وتصنع الأحلام والثورات، وتدفع القادرين على التخطيط والتنفيذ على أرض الواقع، وهذا ما ينبثق عنه تيار التغيير الجذري المنشود، ما لم يبق التعبير عن الأمل مجرد صيحة في واد.. ولئن بقي كذلك فستبقى السيطرة لقلة من الذئاب، وسيبقى الضحايا هم الكثرة الكاثرة الذين يصمتون، أو يتكلمون.. ولكن لا يتلاقون ويعملون.
ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب