فوز النهضة في تونس مسؤولية جسيمة
تونس مستهدفة مع حركة النهضة وبدونها
رؤية تحليلية – كل إخفاق يصيب حركة أو جماعة، هو إخفاق وسيلة، وكل نجاح تحرزه هو نجاح وسيلة
رؤية تحليلية
يوم ٢٣ / ١٠ / ٢٠١١م فازت حركة النهضة في الانتخابات النيابية الأولى بعد اندلاع الثورة الشعبية، وليس الفوز في الانتخابات غاية تستدعي الاحتفال، بل مسؤولية تستدعي مضاعفة الجهود للإمساك فعلا بمفاصل الدولة دون استبداد، وممّا ينبغي التنبه إليه، في تونس وسواها، أن أعداء تحرير إرادة الشعوب، يستخدمون الوسائل غير المشروعة ولا يعتمدون بالضرورة على دورات انتخابية شعبية نزيهة، وهم يعلمون بنتائجها مسبقا.
في تونس لم يفاجئ فوز حزب حركة النهضة حتى من كانوا يتمنون نتيجة أخرى لهذه الانتخابات، وفي مقدمتهم الساسة الغربيون عموما، وأصحاب الاتجاهات غير الإسلامية بطبيعة الحال، لا سيما من حاول أثناء ثورة تونس، وخلال المرحلة الانتقالية وكذلك عبر عشرات السنين من قبل القول إن الشعوب لا تريد الإسلاميين؛ ولكن لا يعني هذا أنه يحق للإسلاميين الاطمئنان إلى تأييد شعبي، لا سيما إذا أوصل الاطمئنان إلى غرور يدفع إلى تشدد لا يقبل به الإسلام، أو إلى قعود عن مزيد من بذل الجهود، والنقد الذاتي المتواصل ليتحقق التطور الذاتي المطرد، ولا تعاني حركة النهضة من مثل هذا الغرور، ولهذا كرر راشد الغنوشي قوله إنه يريد التفرغ لبناء الحركة مجددا، وكرر في لقاءات خاصة القول إن الحركة تفتقر إلى كوادر تتقن العمل الحزبي في دولة أسقط شعبها الاستبداد.
التيار الإسلامي بين النجاح والإخفاق
مهما بلغ شأن تمثيل حزب أو حركة أو جماعة للإسلام على الصعيد السياسي أو سواه، لا بد من تأكيد القاعدة الجوهرية القائلة: الإسلام هو الأصل والحركات كلها وسائل.
الإسلام لا يتغير ولا يتبدل من حيث جوهره وأصوله ومبادئه ولا من حيث القواعد العامة الثابتة فيه لتلاؤم الاجتهادات فيه مع معطيات العصر والحال والمكان، وهذا سر صلاحه لكل زمان ومكان وحال.
الثوابت مرتبطة بثوابت الفطرة والاحتياجات الإنسانية، بغض النظر عن المعتقد والانتماء والظروف، والمتغيرات في التطبيق متغيرات يقر بها الإسلام نفسه، من خلال سعة فسحة الاجتهادات المنضبطة الممكنة وتعددها وتطورها مع متغيرات الظروف المكانية والزمنية والموضوعية.
ولهذا لا بد أيضا من تثبيت أمر جوهري آخر: كل إخفاق يصيب حركة أو جماعة، هو إخفاق وسيلة واجتهاد، وكل نجاح تحرزه هو نجاح وسيلة واجتهاد، وتقاس هي بمعايير الإسلام وليس العكس.
لم يكن نجاح حزب حركة النهضة مفاجئا، فقد سبق أن ظهر للعيان عبر الشواهد العملية، مرة بعد أخرى رغم الظروف المعيقة؛ فكل انتخابات حرة نزيهة مضمونة المنطلقات ومضمونة الآليات، تسفر عن تأييد غالبية الناخبين في بلد إسلامي، وقد يكون منهم غير المسلمين، للاتجاه الإسلامي، إذا أحسن أصحابه في استخدامه وسيلة تنظيمية لبيان النهج الإسلامي بالصيغة المناسبة للزمان والمكان والاحتياجات الشعبية والوطنية.
وقد عبّرت صحيفة ألمانية (شتوتجارتر ناخريشتن Stuttgarter Nachrichten) بلهجة أقرب إلى الشماتة بالأوروبيين عن عدم المفاجأة بنجاح النهضة، بقولها يوم ٢٦ / ١٠ / ٢٠١١م: (احتضنت الديمقراطيات الأوروبية المستبدين في المنطقة العربية ما أمكن ذلك، كالأسد الذي درس في إنجلترا، وبن علي ومبارك والقذافي الذين كنزوا ثرواتهم الضخمة في أوروبا، هذا مما يؤدي أيضا إلى أن الديمقراطية التونسية لن تشهد سيطرة حكم وفق ما يتمناه الأوروبيون).
يستوعب الغربيون اتجاه الريح في ربيع الثورات العربية بعد حقبة الاستبداد المحلي واحتضانه من جانب الاستبداد الدولي، ولا يعني ذلك التسليم لها وعدم معاداتها، بينما يغيب حتى مثل هذا الاستيعاب عن فريق من الساسة والأحزاب والتيارات في بلادنا، ممن يتبنى المناهج والتصورات الغربية، وقد يمضي بها شوطا أكثر تطرفا من أصحابها الأصليين.
كثيرا ما عبر هؤلاء عن أصوليتهم الاستبدادية المتشددة بمقولاتٍ من قبيل: عدم نضوج الشعوب للديمقراطية وآلياتها الانتخابية.. وما يزالون يعبّرون عن ذلك بمقولات مخادعة للنفس، منها مثلا: الإسلاميون يستهوون الناخبين بشعاراتهم.. والواقع ببساطة: وعي الناخبين، وعي الشعوب، يؤدي إلى نجاح الاتجاه الإسلامي عندما تتوافر شروط الحرية والنزاهة لصناديق الاقتراع.. ولكن: هل ينبغي لأصحاب الاتجاه الإسلامي كحزب حركة النهضة أن يطمئنّوا إلى ذلك؟ لا اطمئنان قبل النجاح وبعد النجاح إلا للكفاءة والممارسة القويمة.
المسؤولية الأكبر بعد الفوز
هذا الوعي الشعبي تحديدا يوجب على الإسلاميين أن يكونوا هم أيضا على أقصى درجات الوعي بحقيقة ما يؤدي إلى تأييدهم -وهم وسيلة- وما يمكن أن يؤدي إلى العزوف عن تأييدهم -وهم وسيلة- وبالتالي الحذر من أن تنحرف هذه الوسيلة عن الهدف، وعما يوصل إليه، والحذر يفرض اتباع النهج الإسلامي بصورة قويمة لتحقيق مصلحة الإنسان ومصلحة المواطن ومصلحة الدولة والوطن.
لا بد أن يعمل الإسلاميون في تونس على طرح رؤاهم المستمدة من الإسلام عبر اجتهاداتهم، من أجل أن يتبين بصورة واضحة أن هذه الرؤى تخدم الشعب أولا وليس الحزب بالضرورة، والوطن أولا وليس التنظيم فحسب، وأن الانفتاح على الآخر نهج مفروض إسلاميا وليس أداة على طريق انتخابي أو سياسي عموما، وأن تثبيت الحقوق والحريات الأساسية لكافة المواطنين، بغض النظر عن معتقدهم، والتزامهم، وانتماءاتهم، وتوجهاتهم السياسية، هو مما يفرضه الإسلام في مناهجه التقنينية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وليس ذلك التثبيت مرتبطا بظروف آنية، تفرضها الثورة الشعبية، أو الجولات الانتخابية، أو الوجود في السلطة التنفيذية، أو الوجود على مقاعد المعارضة.
ولا بد لحزب حركة النهضة تخصيصا أن يراعي أن مستقبل تونس -ومن خلالها الكثير مما يتعلق بالبلدان العربية والإسلامية الأخرى وسواها- مرتبط بجيل المستقبل، وقد كان التركيز عليه في الحقبة الاستبدادية الماضية في تونس كبيرا، ليس من حيث رعاية مصالحه المعنوية والمادية، بل من حيث محاولة التأثير المتواصل على معتقداته وتصوراته وسلوكه ورؤاه السياسية وغير السياسية.
ومراعاة جيل المستقبل تعني عدم تقليد الحكم الاستبدادي السابق ولو عن غير قصد، والحرص بدلا من ذلك على التوازن بين تحقيق الاحتياجات المعنوية والمادية لجيل المستقبل، ومن خلال ذلك لمستقبل تونس شعبا ووطنا، وكذلك الحرص على عدم عرقلة مشاركة جيل المستقبل في صناعة القرار لصناعة مستقبل تونس مثلما شارك – قبل سواه – في صناعة ثورة شعبها.
لا ينبغي أن يكون المعيار في هذه المشاركة مرتبطا برؤى حزب حركة النهضة، بل يجب أن يرتبط أولا باحتياجات جيل المستقبل واحتياجات الوطن والشعب، وبالكفاءات والإبداعات المتوافرة على مستوى الشبيبة ذكورا وإناثا، دون تحويل التخوّف من وقوع الخطأ إلى حاجز يمنع من تلك المشاركة، بدءا بصناعة القرار على مختلف الأصعدة، مرورا بعملية التقويم والتطوير لكل خطوة من الخطوات، انتهاء بالمشاركة في مختلف المشاريع التنميوية.
تقليد “جوهر” التجربة في تونس
ما يسري على تونس يسري على بلدان عربية وإسلامية أخرى، لا سيما تلك التي شملها الربيع العربي، وقد تتنفس نسمات الحرية أو أصبحت على أبوابها، الدامية للأسف.
نجاح حزب حركة النهضة في تونس لا يعني تلقائيا توقع نجاح الإسلاميين في مصر، أو ليبيا، أو اليمن، أو سورية، فليس هذا النجاح نجاح عنوان بل هو نجاح مضمون وجهود، ولا يكفي لنجاح مماثل استنساخ نموذج تونس، فطول حقبة التجزئة الاستعمارية فالاستبدادية، جعل المعطيات المحلية تختلف من قطر إلى قطر، وإن بقيت القواسم المشتركة الكبرى قائمة.
ما يمكن -وينبغي- تقليده على طريق النجاح هو جوهر التجربة وليس التجربة نفسها، وجوهر النجاح في تونس هو مراعاة النهج المتبع إسلاميا صياغة وطرحا، للظروف المكانية والزمانية والموضوعية في تونس، والمطلوب في أي بلد آخر مراعاة تلك الظروف فيه، ليكون النجاح من نصيب النهج المتبع إسلاميا صياغة وطرحا.
تختلف الظروف وستختلف وسائل تحرير إرادة الشعب، ولكن سيبقى مسار الثورات مرتبطا بوعي الشعوب، في تلك الأقطار، كوعي الشعب في تونس، وهو مصدر التأييد أو عدم التأييد لأي اتجاه يطرح نفسه في مسار الثورة وفي انتخابات حرة نزيهة، ويفرض هذا الوعي وعي التيار الإسلامي في كل بلد، لاحتياجات الشعب والوطن فيه، ولن يمنع ذلك من تلاقي الأقطار العربية والإسلامية على قواسم مشتركة قائمة، ليتحقق التقارب والتكامل فيما بينها، وبالتالي ليتحقق تدريجيا هدف وحدتها بعد التجزئة المفروضة عليها، مثلما بدأ يتحقق هدف تحررها من الاستبداد المفروض عليها.