أوكرانيا والعلاقات الأوروبية الأمريكية

العناق الأمريكي لأوروبا في حرب أوكرانيا ينقذ أم يخنق؟

رأي – منذ زمن أصبحت مسارات العلاقات الأمريكية الأوروبية تشهد موجات متتالية من الأزمات

192
٧:٢٠ دقيقة

رأي

ما نشهده من سياسات وإجراءات غربية إنما يوضع وينفذ وفق المنظور الأمريكي، فما يزال هو المسيطر غربيا وعالميا، رغم انهيارات داخلية عديدة، لن يكون آخرَها ما ارتبط باسم دونالد ترامب، وعلى أية حال لا يصحّ ترجيح تداعيات بعينها نتيجة الحدث الكبير الحالي، دون وضعه في سياق تاريخي، لم ينقطع خلاله الشقاق الأمريكي الأوروبي.

لم يكن قد مضى ست عشرة سنة على تأسيس حلف شمال الأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ التشكيك في مساره، ليس من جانب أعدائه، بل على أعلى المستويات الغربية، من ذلك ما طرح السياسي الأمريكي “الداهية” هنري كيسينجر سنة ١٩٦٥م بصيغة تساؤل له مغزاه: “كيف سيكون مستقبل الحلف؟” وقد جعل ذلك عنوانا لكتاب نشره آنذاك على خلفية التناقض بين المصالح الأمريكية والأوروبية، وهذا ما عبر عنه أيضا يوهانس شتاينهوف، سنة ١٩٧٦م، في كتاب بعنوان “إلى أين يمضي حلف شمال الأطلسي؟ وقد نشره بعد أن شغل لعدة سنوات موقع رئيس اللجنة العسكرية للحلف، ثم انتقل الشقاق إلى العلن بشكل أشدّ بعد سقوط الشيوعية في الشرق، وكان من تداعياته رفض فرنسا وألمانيا المشاركة سنة ٢٠٠٣م، في حرب الاحتلال الأمريكي للعراق، وردّ واشنطون بإطلاق وصف أوروبا القديمة مقابل الجديدة في شرق القارة.

إن المحور الفعلي للشقاق على امتداد عدة عقود، هو عدم انقطاع مفعول ما قال به الأمين العام الأول للحلف إسماي هاستينجس، إن هدف الحلف هو “تثبيت الوجود الأمريكي في أوروبا، ومنع الروس من تثبيت أقدامهم فيها، وإبقاء ألمانيا حيث وصلت بها هزيمة الحرب العالمية الثانية”؛ هذا سياسيا وعسكريا ثم لا يستهان بمفعول الصراع المالي والاقتصادي وما يعنيه من نفوذ الهيمنة المادية.

سبق أن تجاوزت المسيرة الأوروبية بزعامة ألمانية-فرنسية أزمات كبيرة لم تكن السياسات الأمريكية الخارجية بعيدة عن “إثارتها” أو محاولة الاستفادة منها على الأقل، كالأزمة النقدية التي أثارتها مضاربات أمريكية ضخمة في سبعينات القرن الميلادي الماضي، وأدّت إلى انهيار النظام القديم لضبط تأرجح أسعار العملات الأوروبية تجاه بعضها بعضا، وبدأ الرد الأوروبي عام ١٩٧٩م وأوصل إلى ولادة عملة اليورو بعد عشرين عاما.

في الحربين الأمريكيتين لاحتلال أفغانستان والعراق كان تطبيق ما جاء في وثيقة “المحافظين الجدد” من عام ١٩٩١م، واتخذ صيغة “العقيدة العسكرية” للدولة كما جسّدها ثلاثي بوش وتشيني ورامسفيلد حول خوض حربين كبيرتين في مكانين متباعدين في وقت واحد، في الوقت نفسه يسري على الصعيد الاقتصادي والنقدي تطبيق ما جاء في الوثيقة نفسها، ومن ذلك منع أي قوة دولية من منافسة الهيمنة المالية والاقتصادية الأمريكية عالميا، وقد ورد في النص ذكر ألمانيا واليابان كمثالين.

إن صناع القرار في واشنطون يعلمون أن مسيرة الهيمنة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية بدأت تتراجع لصالح قوى منافسة، غربية وشرقية وناهضة، وقد يصح القول إن العملاق الأمريكي المنتصر في الحرب بد أ يتحول إلى عملاق مريض، لا يستهان بقدرته على توجيه الضربات بقوة عملاق، إنما بدأت مظاهر عجزه عن توظيف ذلك لترسيخ مرتكزات إضافية لزعامة يرضى “الآخرون بها” بدلا من إكراههم عليها، وبالتالي استثارة ردود فعلهم.

ولا شك أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا حرب عدوانية، إنما لا ينفي ذلك أن وقوعها جاء بعد شحنات السلاح الأمريكي، وبعد التمدد الأطلسي شرقا، وبعد معارضة واشنطون لتوثيق العلاقات الاقتصادية الأوروبية الروسية، وبعد تشجيع موسكو على العدوان دون الخشية من ردة فعل عسكرية أمريكية، وهو ما ظهر تطبيقه في سورية خاصة، ثم انطلق ما يسمّى عقوبات، وأصبحت غربية بضغوط أمريكية، اعتمادا على استمرار غلبة سيطرة الدولار عالميا، وهي محور رئيسي في صراع الهيمنة الأمريكية الأوروبية، وحتى الآن يسري ما قال به بروفيسور ميشيل فراتياني، الخبير الاقتصادي والمالي من جامعة إنديانا الأمريكية، الذي شبّه العالم بحظيرة دجاج يتحرّك فيها ديك واحد، يعني به الدولار الأمريكي، في هذه الأثناء ظهرت قوة عملات أخرى كاليورو والين، وتشعبت طرق التمرد على هيمنة الدولار، ولم يبق سوى القليل من الدول التي أدمنت التبعية فهي تدعم الهيمنة الأمريكية عبر الدولار ووسائل أخرى، أما الضرر الذي تسجله الموازين المالية والاقتصادية الأوروبية حاليا، فالأغلب أن يكون مؤقتا وأن يتحول لاحقا إلى تحركات مضادة، متواصلة، وإن بقيت كالمعتاد هادئة وبطيئة بشكل عام.

وإلى وقفة أخرى تحت عنوان أحداث وخواطر، أستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب