رؤية – المعضلة الغربية مع الثورات العربية

سقوط الاستبداد المحلي لا يتحقق على الوجه الأمثل إلا مع سقوط ما أنتجه من انحراف في التعامل مع "الاستبداد الدولي"

43

 
إن التعامل سلبا وإيجابا مع السياسات المؤيدة والسياسات المعادية إقليميا ودوليا من أهم العناصر التي لعبت دورا محوريا في "مسار" ثورات ما سمّي الربيع العربي، وأوصلت إلى الوضع الحاضر بعد سنوات معدودة، ولا يزال طريق التغيير الثوري مفتوحا رغم الانتكاسات المتراكمة، وهذا ما يستدعي أن تكون مراجعات رؤانا في مطلع الثورات بين وسائل تطوير التحرك الحالي والمستقبلي نحو التغيير القادم بإذن الله.

. . .

ثلاثة أهداف ثابتة.. ومرتكزان للتطبيق

حسابات إسرائيلية في الموقف الغربي

معضلة العنصر الإسلامي غربيا

الورطة الغربية مع الإرادة الشعبية

 

ليس الجانب النظري للديمقراطية والحقوق والحريات الإنسانية ولا الواقع الفعلي للشعوب والبلدان العربية والإسلامية هو المنطلق في طرح سؤال الأوساط الغربية عن دعم التغيير باتجاه ديمقراطي أو الامتناع عن دعمه، أو عن احتضان الاستبداد المحلي أو التخلّي عنه. لعلّ عدم أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار بما يكفي هو ما يؤدي في كثير من الأحيان في المنطقة العربية والإسلامية إلى اختزال تقويم السياسات الغربية تجاه أنظمة الحكم المحلية في نطاق توقعات غير واقعية وخيبات أمل محتمة.

عندما يدعم بعض الساسة الغربيين مواقفهم بذكر الديمقراطية والحقوق والحريات، فغالبا ما يكون ذلك من قبيل الخطابة وليس السياسة، أو يقتصر على عبارات تجميلية لإخراج المضمون الأهمّ في تلك المواقف، أي المرتكزات الفعلية التي تتبناها الحكومات الغربية منفردة ومجتمعة لتثبيت رؤاها السياسية الاستراتيجية على المدى البعيد وخطواتها التطبيقية على المدى القريب تجاه "الجوار" العربي والإسلامي.

 

ثلاثة أهداف ثابتة.. ومرتكزان للتطبيق

تقوم الأهداف الغربية الأساسية -والمثبتة في وثائق الاتحاد الأوروبي مثلا على صعيد أهداف "سياسة الجوار" في جنوبه العربي والإسلامي- على ثلاثة محاور معروفة في هذه الأثناء، لا يزيد من أهميتها أو ينقصها أن بعضها يتناقض مباشرة مع ما تقتضيه الديمقراطية والحقوق المادية والمعنوية.. وهي:

(١) تأمين الطاقة والمواد الخام (٢) مكافحة "الإرهاب" (٣) التصدي للهجرة البشرية نحو الغرب.

لا ينفي ذلك وجود محاور هامة أخرى، مثل فتح الأسواق الاستهلاكية والاستثمارية أمام الغربيين، ولكن يدخل ذلك في مجال النتائج، فتنمو وتتقلص على حسب المعطيات الآنية، أو يدخل في مجال الوسائل، فينعكس في اتفاقات وصفقات أو حصار ومقاطعة.

الأهم هو ما اتخذ من "الوسائل" الغربية صبغة المرتكزات الأساسية أو "الثوابت" لتحقيق الأهداف المصلحية الثلاثة المذكورة، وهي موضع اتفاق بعيد المدى، والمقصود أمران:

(١) استمرارية الوجود الإسرائيلي وتفوقه العسكري..

هذا العنصر– أو الوسيلة التي بلغت مستوى مرتكز ثابت- هو ما اتخذ مكانة أساسية في البحث عن الموقف الغربي الأنجع للتعامل مع "حدث الثورة الشعبية" في مصر أولا. ولا يستهان بذلك، فهو عنصر محوري في رسم معظم السياسات الأمنية/ العسكرية والتسلّح تجاه المنطقة، إلى درجة خوض حرب كما كان مع "احتلال العراق"، أو إلى درجة مركزية في التعامل مع ما يسمى الملف النووي الإيراني مثلا آخر، فلا مجال للتهوين من شأن مفعوله على تحديد الموقف الغربي من "الثورة الشعبية" في مصر!

(٢) الحيلولة دون وصول التيار الإسلامي إلى السلطة..

هذا العنصر المحوري الثاني -الأشبه أيضا بوسيلة بلغت مستوى مرتكز غربي ثابت مع خلفية البعد الحضاري من ورائه- سبق ربطه تعميميا بمكافحة الإرهاب، ولكن بدأ شيء من مراجعة ذلك مؤخرا على خلفية حصيلة حربي أفغانستان والعراق، وبلغت هذه المراجعة مداها في البحث عن موقف غربي للتعامل مع تطورات مسيرة "الثورة الشعبية" في تونس تخصيصا، ولا يغيب ذلك عن التعامل مع الحدث في مصر أيضا.

 

لهذا لا تصح قراءة المواقف الرسمية الغربية الصادرة على هامش الأحداث، المتأخرة تجاه تونس والعاجلة تجاه مصر، من زاوية استجابتها أو عدم استجابتها لِما أظهرته الإرادة الشعبية في البلدين، بغض النظر عن الأسباب والظروف والتطلعات، إنما هي مواقف صادرة عن كيفية التعامل مع حدث يقع دون قدرة على التأثير المباشر في صنعه أو توجيهه، ويراد بالتالي التعامل مع نتائجه بما يحفظ ثوابت الأهداف والمرتكزات في السياسة الغربية، أو -عند الضرورة- الحد من الخسائر قدر الإمكان.

 

حسابات إسرائيلية في الموقف الغربي

فاجأت ثورة شعب تونس الساسة الغربيين فتأخرت مواقفهم ثم تعثرت صياغتها، ومنذ اللحظات الأولى ظهرت المخاوف من أن تنتشر شرارة الثورة من تونس ليس إلى الشمال الإفريقي عموما بل إلى مصر تخصيصا. والتعليل صريح، فالوضع في مصر منذ "كامب ديفيد" هو المدخل الأول والأهم إلى جميع ما يرتبط باستمرارية الوجود الإسرائيلي وتفوقه عسكريا، سيان هل يجري ذلك عبر حروب أو تسويات سلمية.

لهذا غاب مفعول عنصر المفاجأة في الحدث المصري، وسارع الساسة الغربيون إلى إعلان مواقفهم الرسمية منذ "يوم الغضب الأول"، ولم تنقطع في الأيام التالية.

لقد مضى الأوروبيون في مواكبة أحداث ثورة شعب مصر إلى القول إن الشعب يريد التغيير "السياسي" بينما كان الموقف الرسمي لواشنطون شاذا على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية بحديثها عن "استقرار الحكم" في مصر، والثابت في الحصيلة أن المطالب الأوروبية والأمريكية بالاستجابة للمطالب الشعبية في مصر لا تعبر عن الرغبة في حدوث "تغيير ديمقراطي" بقدر ما تعبر عن الخشية من أن يكون حجم "التغيير المحتم" كبيرا بحيث يغيب المرتكز الرسمي المصري في التعامل الغربي مع استمرارية الوجود الإسرائيلي وتفوقه عسكريا.

 

رغم ذلك يمكن القول إن احتمالات تطور الحدث المصري مفتوحة بسبب العنف الرسمي المتصاعد والعنف المضاد، ولكن أيام الغضب الأولى كافية لتثبيت استحالة استمرارية الوضع كما كان لعدة عقود، والأهم: استحالة "التوريث العائلي أو السياسي" في النقلة المقبلة -بثورة أو دون ثورة- إلى ما يسمى ما بعد عهد مبارك الأب.

لهذا بالذات عمل الغربيون في إطار إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر انتقادات حذرة وضغوط حذرة -وربما التواصل من بعد مع جهات غير مرتبطة بالحكم- كيلا تعجل إجراءات السلطة العنيفة بعملية التغيير الجارية، جنبا إلى جنب مع مساعي الاستعداد للتعامل مع تطورات تالية، أي "الأمل" في ترسيخ وضع جديد، يكتسب درجة ما من الثقة الشعبية، ولكن دون أن يتخلى كلية عن "نهج كامب ديفيد" تجاه الوجود الإسرائيلي.

 

واجه الساسة الغربيون معضلة لا علاقة لها بإرادة الشعب في مصر وواقعه، ولو تبين أن ثورته ستؤدي إلى وضع واضح المعالم من زاوية أساسية هي عدم المساس بما أفرزته اتفاقات كامب ديفيد وبدور الحكم في مصر على صعيد التسويات، لاتخذت المواقف الغربية صيغة التأييد المطلق لتلك الثورة، إذ تدرك أن الأنظمة القائمة من نوعية النظام في مصر قد استهلكت نفسها، بل يُخشى أن يؤدّي نجاحها في إخماد الثورة بأقصى درجات العنف إلى تحول "النظام الاستبدادي المتستر بغشاء ديمقراطي مزيف إلى نظام استبدادي متصلب وشديد الوطأة علنا" على حد تعبير جيدو شتاينبيرج من معهد العلوم والتطوير في برلين، الذي يقدر أيضا أن رأس النظام رأى سقوط بن علي غربيا بعد سقوطه شعبيا، ومعالم ملاحقته وعائلته وأعوانه المقربين قضائيا وماليا، وبالتالي ازداد تشبثا بالسلطة، مهما كان الثمن دمويا.

 

معضلة العنصر الإسلامي غربيا

صحيح ما يتردد بصدد ضعف تأثير "الفزاعة الإسلامية" على ألسنة المستبدين، ولكن لا يعني ذلك ضعف مفعول "الخوف المرضي" من الإسلام في تحديد السياسات الغربية، سواء استخدم الاستبداد المحلي تلك "الفزاعة" أم لم يستخدمها.

من الأمثلة المعبرة عن ذلك في التعامل مع أحداث تونس ما ورد أكثر من مرة على لسان روبريخت بولنس، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي في برلين، إذ أعرب عن الاقتناع بخطأ الاعتقاد الغربي بأن الاستبداد ضروري لتجنب "خطر وصول الإسلاميين إلى السلطة"، إذ ظهر -كما يقول- أن الاستبداد يوجد المناخ لتنامي التيار الإسلامي.. ويعني ذلك أن مراجعة السياسة الأوروبية على هذا الصعيد لا تتطوي على التخلي عن اعتبار "الإسلام السياسي" خطرا بل على مراجعة "الوسيلة" لمواجهته والأخذ بوسائل بديلة.

وحتى عند التمييز بين إسلاميين وإسلاميين، كما صنع بولنس عبر وصفه حزب النهضة في تونس بالاعتدال، يفوض  نفسه بوضع "شروط غربية" للقبول بالإسلاميين، لم تقتصر على قبول النهضة بقواعد ما يسمى اللعبة الديمقراطية وتداول السلطة، بل شملت ما يرتبط بالقيم الاجتماعية من منطلق إسلامي مثل ضرورة أن يتعهد الإسلاميون بالامتناع عن إلغاء ما تحقق من أجل تحرير المرأة في تونس، ومعلوم أن ذلك يعني ما صنعه بورقيبة ثم بن علي على صعيد قوانين الأحوال الشخصية وتعدد الزوجات ومنع الحجاب وما شابه ذلك، بغض النظر عن الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرأة، فهي موضع انتهاك على صعيد المرأة والرجل على السواء، كما أن معارضتها من قبل تحت عناوين إسلامية حركية قد اضمحلت نسبيا مع مرور الزمن.

 

الورطة الغربية مع الإرادة الشعبية

لن تشهد الثوابت المحورية في المنطلقات والأهداف وبعض الوسائل الغربية أي تغيير يستحق الذكر بصدد استمرارية الوجود الإسرائيلي، والخوف المرضي من الإسلام، بل سيبقى مفعول هذين العنصرين واضحا وقويا على صعيد "حدود" التغيير الاضطراري المنتظر في "صياغة" بعض التعديلات في نطاق المواقف المعلنة والوسائل المستخدمة للتعامل مع الأنظمة والشعوب في المنطقة العربية والإسلامية.

 

هذا التغيير المرجح اضطراري، لم ينطلق ابتداء من إعادة النظر في المنطلقات والثوابت السياسية الغربية، أو من تبدل جذري في موازين المصالح المادية، إنما فرضته مفاجأة الساسة الغربيين بحجم خطئهم الجسيم فيما سبق أن أقنعوا به أنفسهم -ذاتيا.. وربما بتأثير مواقف كثير من النخب العربية أيضا- حول "موات الشعوب" و"استقرار الاستبداد".

لقد شاع على مستوى النخبة السياسية الغربية ما تعبر عنه -كمثال من أمثلة عديدة- مقولة المستشار الألماني الأسبق هلموت شميدت في كتابه "خارج الخدمة" أنه لا يمكن حكم الشعوب العربية والإسلامية بالديمقراطية بل يتطلب أنظمة حكم شمولية.

الواقع أن ما تعنيه هذه العبارة وأمثالها في الغرب، ممّا يتكئ عليه الساسة في تعليل دعمهم للاستبداد وتسويقه على صعيد الرأي العام، هو -ببساطة- أن ممارسة الديمقراطية على صعيد الشعوب العربية والإسلامية لا توصل إلى أنظمة حكم تحقق المصالح الغربية بالأسلوب الراهن الذي تضمنه أنظمة استبداد وفساد، وهو الأسلوب القائم على هيمنة سياسية وأمنية واستغلال اقتصادي ومالي.

بغض النظر عن مآل الأحداث أسقط الشعب في تونس وفي مصر -وفيما سيليهما حتما- مقولة "موات الشعوب واستقرار الاستبداد".. وسيبقى السؤال المفتوح من بعد ذلك، هل يمكن أن يوصل مآل الأحداث إلى أوضاع أخرى جديدة، بحيث يسقط من خلالها على أرض الواقع الربط التقليدي بين تقويم أوضاع المنطقة ودرجة الارتباط بالغرب وسياساته، وقبول الغرب ورفضه، بما في ذلك ما جعله هو من "ثوابته" كاستمرارية الوجود الإسرائيلي وتفوقه والخوف المرضي من الإسلام وإقصائه.. كي تحل مكان ذلك الثوابت الذاتية المعبرة عن الإرادة الشعبية، التي لا ترفض "الاستبداد" فقط، ولا تعمل على سقوطه فحسب، بل ترفض أيضا ما صنعه وما لا يزال يصنعه على هذين الصعيدين وسواهما، فسقوط الاستبداد المحلي لا يتحقق على الوجه الأمثل إلا مع سقوط ما أنتجه من انحراف في التعامل مع "الاستبداد الدولي"، لتكون الأولوية المطلقة لصالح خدمة المصالح العليا المشتركة والتطلعات المشروعة المشتركة للعرب والمسلمين.

نبيل شبيب