رؤية – السوريون والإساءات في تركيا

إن قيمة الإنسان عند سواه، وفي المجتمع من حوله، أيا كان وحيثما كان، هي بأخلاقه وسلوكه، ارتفاعا وانخفاضا

38

(ملاحظة: تأخر نشر هذا المقال عن يوم تحريره ثلاثة أسابيع بانتظار زيارة تمت في إسطنبول أتاحت الفرصة للاطلاع من كثب على الوضع، وانتظار نشره في مجلة اتحاد منظمات المجتمع المدني السوري)

 

صحيح أن الساسة المسؤولين في تركيا نفوا حملة الاتهامات بصدد تورط سوريين في بلدهم المضيف تركيا في جرائم استهدفت الأتراك، وصحيح أن كثيرا مما جرى تداوله يحمل صياغة التضخيم للوقيعة بين الأهل والأهل من سوريين وأتراك في تركيا، إنما لا بد من النظر في القضية مهما تدنّت نسبة الإساءات والمخالفات والجرائم الصادرة عن السوريين ومهما كانت نوعيتها، وبغض النظر عن المواقف النبيلة الإنسانية من جانب الغالبية العظمى من شعب تركيا، عندما يتعرض بعض أهلهم السوريين للضيم في بلدهم كما ظهر في التفاعل الشعبي والرسمي مع قضية المرأة الحامل ورضيعها في بلدة صقاريا.

 

حدود المشكلة

في البداية ينبغي التأكيد:

١- الإساءات بغض النظر عن حجمها تؤذي السوريين في تركيا مثلما تؤذي أهلهم المضيفين لهم من شعب تركيا والمسؤولين فيها.

٢- نسبة السوريين في تركيا المتورطين في إساءات ما نسبة محدودة، ولكن مفعولها من خلال استغلال وقوعها مفعول كبير وخطير، ولهذا وجب التحذير منها ومن آثارها.

٣- جميع السوريين في تركيا مسؤولون عن التلاقي على بيان تلك الإساءات على حقيقتها دون تهويل من شأنها ولا تهوين، وعلى إطلاق مبادرات إيجابية للحد منها والتعامل المدروس الهادف مع مرتكبيها.

٤- والجدير بالذكر أنه لا يصح قطعا التسرع في طرح مقارنات ما – ولو على سبيل التحذير – بين مشكلات الوجود السوري في تركيا، ومشكلات الوجود السوري في لبنان تخصيصا، لا سيما على خلفية الأحداث الإجرامية الدموية التي تعرض لها المشردون في المخيمات.. فليست تركيا كلبنان، ولا ظروف السوريين فيها كالظروف في لبنان.

 

إطار عام للتعامل مع الإساءات

يحسن التمييز بدقة:

١- بين مرتكبي الإساءات ممّن لا يدركون أبعاد ما يصنعون، وقد ينقص معظمهم الوعي أو ضبط النفس أو ملء الفراغ بما يفيد، أو يجهلون ما تعنيه كلمة ضيوف وما ينبثق عنها من واجبات أخلاقية وسلوكية..

٢- وبين من يرجح أنهم "مندسّون" يتعمدون ارتكاب ما يراد استغلاله لإثارة "أزمة" في تركيا.

كذلك يحسن وضع المشكلة في إطار يمنع مبالغات تزيدها اشتعالا، ويمنع الإهمال الذي يضاعف خطرها:

١- فالقضية ليست قضية "سوريين في الشتات".. فحسب، بل قضية شعب واجه في موطنه وفي الشتات محنة كبرى، ويوجد في صفوف كل شعب مستقر أو ممتحن على السواء المحسن والمسيء، الخلوق والوضيع، الصالح والطالح، الواعي والأحمق، المتحضر والمتخلف.

٢- قيمة الإنسان عند سواه، وفي المجتمع من حوله، أيا كان وحيثما كان، هي بأخلاقه وسلوكه معا، ارتفاعا وانخفاضا.

٣- المعتاد هو تسليط الأضواء، الإعلامية والاجتماعية، على من يتجاوز الأطر العامة المألوفة، سواء في ذلك صاحب الخلق الكريم تألّقا وتفوّقا لا سيما في فترة المحنة، وقد يكرّم أحيانا، أو صاحب الطبع اللئيم انحدارا وإجراما، ولا يناله أحيانا ما يستحق من عقاب رادع، ولهذا لا يصح تعميم حالات معدودة على الجميع، لا تنديدا ولا تمجيدا.

 

النداءات مطلوبة بشروط

توجد دوماً وفي العالم الافتراضي تخصيصا "نداءات" عامة في صياغتها، متسرعة لا يتحقق من يطلقونها من قضية يطرحونها، ومثالها بعض النداءات العديدة المنتشرة مؤخرا للامتناع عن ارتكاب الإساءات في تركيا.. وللنداءات إيجابيات وسلبيات ينبغي لمن يوجهونها أخذها بعين الاعتبار، فهي:

(١) من جهة تساهم في تذكير من تنفعه الذكرى، ونشر أجواء إيجابية، تساعد على اتخاذ خطوات عملية إيجابية، ولكن تفقد مفعولها ما لم تقترن باتخاذ خطوات عملية..

(٢) وهي من جهة أخرى تساهم دون قصد في تسليط الأضواء على "وضع شاذ" كما لو كان هو الوضع العام، فتحقق بذلك أغراض من يتعمدون الإساءة لزرع "فتنة".

لا يعني ذلك الامتناع عن توجيه النداءات ونشرها، لا سيما إذا صدرت عمن يُرجى الاستجابة إليهم لمكانتهم ومواقعهم العامة، إنما لا بد من مراعاة الصياغة الدقيقة ومواكبتها بخطوات عملية مدروسة هادفة.

 

مبادرات مطلوبة بشروطها

من أراد التفاعل العملي – وكان قادرا عليه – فليتذكر ما عبّر عنه المتنبي في بيتين من قصيدة له:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته… وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلى… مضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى

ومشكلات السوريين في تركيا تحتاج إلى نوعين من المبادرات:

أولا:

مبادرات عملية عامة مطلوبة بغض النظر عن مشكلة الإساءات وما يشابهها، ويوجد الكثير من ذلك، ولا ينبغي التشاغل عن المشاركة الجادّة فيها وأن نتوهّم الواجب مقتصرا على عالم افتراضي، لا يكلفنا أكثر من "كلمة وصورة".

من هذه المبادرات العملية التأسيسية كأمثلة كل ما يساهم في:

١- رفع مستوى الوعي الخلقي والسلوكي التربيوي عند من يستجيبون من ذوي الخلق الكريم ابتداء..

٢- تكريم مناسب لحالات متميزة من العطاءات الإيجابية من جانب السوريين والأتراك على السواء..

٣- دراسات منهجية مع مخططات عملية، تتناول أوضاع فئات المشردين وفق أعمارهم، وإمكاناتهم، وتخصصاتهم، ومواقع انتشارهم، ومشكلاتهم، بما يساعد على وضع مشاريع معيشية ومعنوية، وتمويلها وتنفيذها بإدارة تخصصية وحرفية، ليكون وجودهم في البلد المضيف، إيجابيا، يحقق الفائدة معنويا وماديا، للطرفين، الضيوف والمضيفين، على مستوى العامة، وعلى مستوى من يشغلون مواقع التأثير.

ثانيا:

مبادرات تعالج المشكلات الطارئة والشاذة عن المسار العام، ومثالها مشكلة إساءات لا يستشعر مرتكبوها المسؤولية عما يترتب عليها، أو يتعمدون ما يصنعون، ويسري على الأمثلة التالية أن تنبثق أية مبادرة عملية من "أرضية بنيوية" تنشأ من خلال التواصل والتعاون المباشر من جانب من يطرح "مبادرة" ما، مع الجهات الرسمية المختصة، وما ينبثق عنها بتوكيل رسمي، ومع الجهات الحرفية المتخصصة، كالمنظمات التي أثبتت كفاءاتها في العمل الأهلي/ المدني، على أن يشمل التواصل والتعاون سائر الخطوات المرتبطة بالمبادرة، دراسة وتخطيطا وإدارة وتمويلا وتنفيذا ومراجعة وتقويما وتطويرا.

من المبادرات المباشرة المقترحة والممكنة نظريا، مع ملاحظة أن "القرار" لمن يقيم في تركيا ويتابع المشكلة من كثب ويعلم بما يصلح منها أو من سواها للتطبيق العملي:

١- تشكيل لجان شعبية "سورية – تركية"، على مستوى الأحياء التي ينتشر فيها المشردون السوريون – والجميع مشردون ضيوف – لرصد احتياجاتهم واحتياجات أهل الحي من الأتراك، ودراستها وتلبية المشروع منها، من خلال التعاون مع المسؤولين والمقتدرين.

٢- التواصل مع الجهات المسؤولة في تركيا عن ملاحقة المسيئين والتحقيق في إساءاتهم، سيان لمن ينتسبون وما هي أغراضهم، وإيجاد قنوات منظمة للتعاون مع تلك الجهات ودعمها في تركيز الإجراءات الواجبة على من يستحق المحاسبة وربما العقوبة على إساءة يقترفها.

٣- التعاون مع الجهات المسؤولة لإنشاء هيئة مركزية / مكتب رسمي لتلقّي الشكاوى والتحقق منها وتصنيفها وإحالتها إلى الجهات المختصة.

٤- التعاون مع المتخصصين على صياغة حملات توعية رصينة مدروسة، للحد من مفعول عشوائية بعض الحملات في العالم الافتراضي، المخلصة غالبا، والحافلة أحيانا بالإثارة أكثر من طرح الحلول العملية.  

٥- العمل لحصر عمليات التعريف بوقوع الإساءات ومرتكبيها لدى مرجعية تركية – سورية تتولى تدريجيا اتخاذ إجراءات مناسبة قبل استفحال الأزمة، بدءا بالحوارات المباشرة، انتهاء بمعالجة المشكلات الفعلية القائمة، بهدف الوقاية من الانزلاق إلى ارتكاب الإساءات، والحيلولة دون استفحالها في الأوساط السورية التي تعاني من مشكلات معيشية واجتماعية وخلقية.

والله ولي التوفيق.

نبيل شبيب