رؤية – الخطاب الإسلامي للعلماء
الخطاب "الإسلامي" هو في الأصل التعاطي من منطلق إسلامي بالمواقف والآراء والبيان والسلوك مع "القضايا.. والناس"
يشكو كثير من الثوار في سورية مما يعتبرونه "غياب دور العلماء" في توجيه مسار الثورة رغم غلبة التوجه الإسلامي عليها بحكم الواقع البشري في الوطن، ومفعول العقيدة في حياة الأمم، لا سيما في حقب التغيير ثوريا وحضاريا وإنسانيا.
وليس صحيحا أن العلماء غائبون.. ولكن من الواضح وجود خلل بين ما يقولون (ويصنعون أيضا.. وهم يصنعون الكثير كما يعلم المطلعون على الدعم الكبير الذي يتحقق بجهودهم في ميادين شتى) وبين العامة من أهل سورية، من ثوار ميادين المواجهة وثوار الدعم المتواصل للأهل والوطن ومن يعانون من التشريد والحصار وسوى ذلك من ألوان المعاناة.
أين الخلل؟
وكيف يمكن تجاوزه دون "فيروسات" التشنج والغضب وردود الأفعال المتسرعة وألوان الإساءة دون حق، لا سيما من جانب المسيئين لجميع الأطراف وليس للعلماء فقط؟
انطلاقا من بعض الحوارات مع أصحاب الشأن والاهتمام بهذا الموضوع، دارت حول "الخطاب الإسلامي وملامحه"، يتجرأ كاتب هذه السطور -مع تأكيد الحرص على مكانة علمائنا ودورهم- فيشير في السطور التالية باقتضاب شديد إلى "بعض" ما يحسب أنه من أهم جذور الخلل، ويطرح ذلك تحت عنوان "الخطاب الإسلامي للعلماء".
والخطاب "الإسلامي" هو في الأصل التعاطي من منطلق إسلامي بالمواقف والآراء والبيان والسلوك مع "القضايا.. والناس"، سواء كان ذلك التعاطي حركيا أو سياسيا -وليس هذا مجال الحديث- أو كان توجيهيا في جوانب العقيدة والتصور والسلوك، وهذا ما يشمل "عنصر التوجيه" في الميادين الحركية والسياسية أيضا دون الغوص في تفاصيلها، وهو ما يحمل العلماء المسؤولية عنه أكثر من سواهم، وهو ما ينتظره "العامة" منهم، أكثر من سواهم.
. . .
الخلل الأول: العلماء علماء.. وليسوا "مقاتلين" ولا "سياسيين" ولا "منظرين"
الثورة في حاجة إلى الجميع، كل في ميدان تخصصه وقدرته وموقعه، وكثير من المطالب والانتقادات والحملات المغرضة عموما، بعيدة عن احتياجات الثورة عندما تنتظر كل شيء من الثائر المقاتل أو الثائر المفكر أو الثائر السياسي أو الثائر العالم أو الثائر في ميادين الإغاثة والعمل الأهلي.. فجميع هؤلاء تجمعهم "الثورة" ولا يجمعهم ميدان تخصصي يحسنه كل منهم في مجاله، فمن الخطأ مطالبة العلماء بدور يتجاوز كونهم علماء، ومن الخطأ أن ينزلق بعضهم أيضا من موقع "التوجيه العام" إلى موقع الخوض في تفاصيل، الأصل أن يعودوا بشأنها إلى المخلصين من المتخصصين.
. . .
الخلل الثاني: العلماء أصناف ودرجات.. لا يقاسون على "نموذج" واحد
لا يوجد في التاريخ الإسلامي إلا حالات معدودة لعالم علامة، و"نموذج" يحتذى في كل ميدان بما في ذلك الجهاد، وبعض من يسأل: أين ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد السلام في "ميادين الثورة" اليوم؟ يغفل عن أن هؤلاء اشتهروا عبر العصور، لأنهم كانوا "نماذج متفوقة نادرة" من بين "عموم العلماء المخلصين"، ولا ينفي ذلك مكانة سواهم، كما يغفل أيضا عن أن سلاح تلك النماذج النادرة قد كان "العلم.. والكلمة"، فلا يصح مطالبة علماء اليوم باستخدام "سلاح آخر".. ويغفل أيضا عن أن قوة كل منهم كانت عبر ارتفاع نسبة أتباعه، فمن أراد عالما يقود، وجب أن يرصد ليؤيد ما يصدر من مواقف جريئة، علما وكلاما، لا أن يطالب "العالم" بالنزول في ميدان آخر غير ميدان "العلم".. شرطا ليسمع منه، ونعلم مثلا أن كثيرا من الثوار الميدانيين المتميزين غادروا الميدان -ولا يلامون في ذلك- ليقوموا بأدوار ثورية هامة أخرى، من تواصل وبيان مواقف وتحصيل دعم وما شابه ذلك.
. . .
الخلل الثالث: الخطاب النخبوي.. والخطاب العام
ليس المقصود بهذا العنوان أن العلماء يخاطبون النخب، وهم -لو جاز التصنيف- نخبة النخب، إنما المقصود تأكيد أهمية التمييز بين تعدد ألوان الصياغة المطلوبة للخطاب، فنعلم مثلا أن العامة من المسلمين لا يعودون بالضرورة إلى ما تركه ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"، وقد يعود بعضنا ولا يفقه ما يقرأ لارتفاع مستوى ما فيها من عرض علمي ونهج دراسي وتوثيق "أكاديمي" -بلغة العصر- ولكن لا يكاد يوجد بين العامة من يجهل كلمة ابن تيمية "ما عسى يفعل أعدائي بي.. أنا جنتي وبستاني في صدري.. إلى آخره"، ونعلم مدى تأثيرها النفسي والسلوكي.
بقدر ما يحمل العلماء من مسؤولية لإصدار الفتاوى الرصينة، مع مراعاة "تجديد الاجتهاد" لتكون مصادر علمية للباحثين، بقدر ما يحملون المسؤولية لصياغة مبسطة خالية من الاستشهادات المطولة والمقارنات الواسعة، لتكون صالحة للتداول على أوسع نطاق، مع ضرورة أن تكون متفاعلة "يوميا" مع مسار الأحداث والمستجدات، لتكون "منارات" توجيهية وتربيوية وسلوكية وفق قيم الإسلام وأحكامه، ووفق احتياجات الإنسان والأوطان في هذا العصر وفي هذا العالم.
. . .
الخلل الرابع: الخطاب الإسلامي.. والخطاب الوطني
من المقولات المدسوسة الخاطئة الواسعة الانتشار ما يميز بين نهج إسلامي ونهج وطني، وتنظيم إسلامي وتنظيم وطني، وموقف إسلامي وموقف وطني.. وكأن بين هذا وذاك تناقضا كبيرا أو اختلافا جذريا عندما يكون الموقف بحد ذاته سليما منضبطا.
ولا ريب أن كثيرا من العلماء والمفكرين والدعاة والكتّاب من منطلق الإسلام تأثروا بواقع قائم يمثل الوطن "جزءا منه"، ولكن انعكس ذلك غالبا في موقف دفاعي، يريد "التوفيق" بين أمرين "مختلفين"، وما هما بمختلفين، أو يريد اعتبار الموقف الإسلامي الوحيد هو أن يكون جميع مكونات الشعب في وطن واحد، بمن فيهم غير المسلمين، خاضعين للإسلام "لأنه ينصفهم"، والفارق كبير بين هذا الطرح، وبين بيان التوافق التلقائي القائم بين (١) "حقوق أصيلة" لكل إنسان، مسلم وغير مسلم، هي التي ينطلق منها ويطالب بها كل فرد من مختلف مكونات الشعب الواحد، وبين (٢) ذات "الحقوق الأصيلة" التي ينطلق الإسلام منها ابتداء، ويؤكدها تشريعا، ليس مراعاة لظروف مؤقتة أو أوضاع استثنائية، وهذا مع عدم المساس بحرية المعتقد فهو موضع المحاسبة يوم القيامة وليس أساسا لأي نوع من أنواع التمييز في الحقوق الدنيوية التي نتعامل معها جميعا في إطار "المنطلق الوطني الواقعي" القائم بين أيدينا.
إن استمرار خطاب "استيعاب" الآخر في صياغة ما يصدر عن العلماء (وسواهم) يتناقض مع الحاجة إلى خطاب "العيش الوطني المشترك" مع الآخر، وهو مما يشترك منهج الإسلام فيه مع سواه، على أسس ثابتة لجنس الإنسان، فالذات و"الآخر" ليسا في الوطن الواحد في مرآة "الحقوق" إلا وجهين متقابلين للإنسان المواطن نفسه.
. . .
الخلل الخامس: وسائل التواصل التقليدية.. والمعاصرة
لا يستهان بشأن الوسائل التقليدية المألوفة في "نشر" ما يصدر عن العلماء وسواهم ممن يعمل في نطاق "التوجيه" عموما، مثل "خطبة الجمعة" ولكنها تصل إلى "من يرتاد المساجد".. أو مثل "الدرس الأسبوعي" ولكنه يسمعه من يحضره.. وقد انتشر في هذه الأثناء استخدام العلماء لوسائل حديثة معاصرة، لا سيما العالم الافتراضي، ولكن الإشكالية تكمن في أن هذا الاستخدام لا يزال غالبا يرتكز على مجرد وضع الوسائل التقليدية في قوالب شكلية "حديثة"، فلا يستفاد من ميزاتها العديدة التي تجلب الناس إلى استخدامها، والتي يتوافق كل منها مع "شريحة" منهم.. ولهذا تحفل المواقع الخاصة بالعلماء بالفتاوى والدروس والخطب والبيانات، ولكن قليلا ما يرجع المسؤولون عن تلك المواقع، ممن يعتمد العلماء عليهم، إلى المتخصصين بشأن المضامين لا الإخراج، لاستخدام تلك الوسائل الحديثة، بمضمون آخر، وأساليب تفاعلية أفضل، وليستقيم التواصل مع روادها بما يتجاوز حدود كاتب وقارئ، وخطيب ومستمع.
وهذا جانب يحتاج إلى تفصيل بالرجوع إلى المتخصصين والقدرة على استيعاب متبادل بينهم وبين العلماء أنفسهم.
. . .
الخلل السادس: التواضع يصنع المكانة التوجيهية
التواضع صفة العلماء.. من أكثر العبارات انتشارا في نطاق تصور الفرد العادي عن "العالم القدير المخلص" وهي صفة وثيقة الصلة بوصف العلماء أنهم "ورثة الأنبياء".
إنما معذرة لأساتذتنا الأجلاء وعلمائنا الكبار.. لا نزال نشعر حيثما لقيناكم بأننا "صغار" في أعينكم أو على الأصح في خطابكم لنا، وهذا شعور ينبغي أن يكون لدينا.. ولكن ليس في خطابكم لنا، وينبغي أن يصدر عن رصدنا نحن لما تقدمونه لنا.. وليس عن "تذكيرنا" به كأسلوب لتعاملكم معنا.
إن التواضع الذي نحتاج إليه جميعا، والذي "نتعلمه" من علمائنا، هو الصادر عن تقدير العالم أنه كبير بعلمه ومكانته التوجيهية، دون أن يتناقض ذلك مع وجود آخرين بين يديه، منهم الكبير بجهاده في ميادين أخرى، وقد يكون "أشعث أغبر" له مكانته عند الله تعالى، وهو القائل: "ومن جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، فمن ذلك الطبيب في ممارسة طبه، والتلميذ في طلب العلم، والأم التي جعل للجنة بابا عند قدميها، والأولاد الذين يطلبون هذا الباب، والشاب الذي ينشأ على طاعة الله فيظلّه بظله يوم القيامة، والمهندس الذي يراعي في تخصصه تأمين حق السكن للبشر، والعامل الذي يزيل النفايات فيمنع انتشار الأوبئة..
إننا نحتاج إلى أن نرى بأنفسنا "التواضع" الملازم للعلم عند علمائنا، فهذا بالذات ليس من "المواد" التى لا يمكن أن "نتلقنها" علما وتدريسا من خلال ما يقولون، وإنما نعيشه من خلال علاقتهم بنا وعلاقتنا بهم.
. . .
والله من وراء القصد
نبيل شبيب