رؤية – الثورات.. على عتبات التغيير
هل تشهد اللحظة الآنية من مسار الثورات على عتبات التغيير، بوادر صناعة الإنسان المؤهل للانتقال من العتبات إلى الخطوات الأولى للتغيير؟
تحت تأثير حقبة تاريخية جسّد فيها شخوص المستبدين عبر شبكات سيطرتهم الأخطبوطية مفاصل استفحال مختلف الأوبئة الكبرى والأخطر، بدءا بالتخلف والفساد انتهاء بالهزائم والنكبات، وتأثير شعارات هدر بها الملايين مثل "ارحل" و"الشعب يريد تغيير النظام" وتحت تأثير عوامل أخرى متوارثة، شهد تقويم مجرى أحداث الربيع العربي ومعايير النجاح والإخفاق، غلبة اعتماد مقياس البعد الواحد الأقرب إلى إعطاء الحدث صورة "مثيرة"، وهو: سقوط أنظمة، أوعدم سقوطها، وعودتها الواقعية بتحرك مضاد أو عدم عودتها، وغاب من وراء ذلك أو لم يظهر إلا بصورة باهتة العنصر الأهم في توجيه الحدث واقعا ومستقبلا وهو كيف يتأهل "الإنسان" الثوري الفرد لتحرك جماعي ونخبوي يفضي إلى ترسيخ دعائم أولى لتغيير حضاري مستدام، ومتابعة البناء عليها.
الموقع التاريخي للثورات الشعبية
إن أهم ما تعطيه الثورات الشعبية العربية من مغزى تاريخي هو ما نستخلصه من فارق محوري بين مسارين للتغيير:
المسار الأول مسار نخبوي، يعتمد على القوى الفاعلة في مجتمع مستقر، بغض النظر عن سلبيات وإيجابيات كامنة في عنصر الاستقرار، فهذه القوى تبتكر صيغ تطور جزئي أو كبير، وتستقطب نسبة كافية من الطاقات، تأهيلا وتنظيما وتمويلا وإدارة وتخصصا… للعمل من أجل وضع الأفكار موضع التنفيذ، وتبني كل مرحلة على سابقتها وتهيّئ لما بعدها.
المسار الثاني هو ما عرفه التاريخ البشري من حركات تغيير جذري كبرى، منها ما صنعته الرسالات الربانية، وليست موضع الحديث هنا، ومنها ما أعطي وصف "ثورات" اتخذت شكل تبدلات مفصلية ما بين حقبة تاريخية وأخرى.
المسار الثاني "يصنعه وجود الاستبداد"، فهو ما يحظر بخطوط طغيانه الحمراء التغيير عبر العمل النخبوي الفاعل المطور، وهذا ما نعبر عنه غالبا بإخفاق محاولات الإصلاح والتقدم، ويؤدي علاوة على ذلك إلى تشظي عطاء النخب، بين تلاؤم قطاعات كبيرة منها ذاتيا مع الخطوط الحمراء فلا تصنع تطورا خارج نطاق استبداد يوظفه لمآربه، وبين فئات تتجاوز تلك الخطوط الحمراء بدرجات متفاوتة، وقد تدفع "الثمن"، ولكن يتحول عطاؤها إلى عملية تنوير عامة.. وإن لم تصل إلى مستوى توجيه وتخطيط منهجي للتغيير.
هذا مما يجعل المسار الثوري الشعبي الثاني مسارا استثنائيا بامتياز، لا تسري عليه بالضرورة "قواعد" مستخلصة من مفاهيم ودراسات وتجارب ومعطيات سبقته، وهذا ما نعايشه في ثورات "الربيع العربي"، ومن أهم خصائصه:
١- تحرك محوره "احتقان يتفجر" نتيجة تراكم أعباء المرفوض المكروه ونفاذ القدرة على تحمله وعدم رؤية أمل في زواله، فهو احتقان يجمع بين رفض أوضاع صنعته، وتجاوز "وسائل وأساليب وأطروحات" سابقة عجزت عن إزالة واقع استبدادي سببه، بغض النظر عن سلامتها نظريا، والتأثر الجزئي بالدور التنويري لبعضها.
٢- تحرك شعبي، جماهيري، يشمل -لأنه خارج فضاءات العمل النخبوي- القليل من القادرين على ضبط خطوات منطقية مدروسة هادفة متعاقبة، والكثير من غير القادرين على ذلك.
٣- تحرك شمولي، بمنطلقه: رفض قاطع لوضع قائم، وبهدفه: مطالبة قاطعة وإن حملتها عناوين تعميمية (حرية.. كرامة..) ولكن ينقصه النهج الواصل بين المنطلق والهدف، أي الرؤى والخطط الصالحة للتطبيق واستيعاب المستجدات، فمن صنع التحرك الثوري لا يملك مؤهلات وضعها، أما النخب "المؤهلة" فلم تضعها، أو لم تضع منها ما يشق طريق التغيير المطلوب "رغم" الاستبداد المحلي والدولي، وسرعان ما وجدت النخب نفسها "قيادات دون أتباع" عقب انطلاق "الثورات" الأشبه -على سبيل المشاكلة- بأتباع دون قيادات.
على عتبات التغيير
تؤكد خصائص المسار الثوري أمرا جوهريا:
يستحيل للتحرك الثوري أن يصنع التغيير الفوري.. وجل ما يصنع هو فتح الأبواب له.
من هذه الأبواب -وليس هو الباب الحاسم- زعزعة أركان "الأنظمة الاستبدادية" وربما تبديلها من جذورها، أي إزالة عقبة على طريق التغيير، فهو بمثابة "وسيلة".. ولهذا كان الخطأ الجوهري في استيعاب الحدث بتصنيف :"ارحل".. أن هذا هو "هدف الثورة"، بدلا من تصنيفه "من وسائلها".
في وقت متأخر نسبيا بدأ تفسير هذا الخطأ بوجود "الدولة العميقة"، وكأنها "اكتُشفت" لاحقا، والواقع أنه تفسير يكشف عن عدم رؤية ما كان موجودا فعلا.
إن التغيير الجذري والشامل "فورا" لا وجود له بالمعايير التاريخية والواقعية، ولا هو قابل للتحقيق الفوري مستقبلا، إذ لا يقع في مجرى الحياة البشرية إلا عبر مراحل متتالية تأخذ بعدا زمنيا، لا يقاس بالأيام والسنوات، بل بمواصفات تلك المراحل وبناء بعضها على بعضها الآخر.
بهذا المنظور لا ينبغي القول: انتهى مسار التغيير نتيجة الأعاصير المضادة للثورات.. إنما وضعت الثورات الشعوب -مع عدم إغفال وجود سلبيات وعوائق وإيجابيات وحوافز- على عتبات التغيير، ومن خصائص هذه الفترة -"الحتمية" بحكم تراكمات الماضي ومعطيات الحاضر- أن تشهد أعاصير مضادة للتغيير.
الأهم من ذلك في هذه الفترة وعموما، أن كل تغيير محدود أو شامل مرتبط بوجود عنصر "الإنسان" المؤهل وفق متطلبات التغيير المطلوب.
يمكن أن تتوافر النظريات والمناهج والمخططات.. وأن تتوافر الوسائل والإمكانات والأدوات.. ولا يفعل شيء من ذلك فعله وإن كان صحيحا واصلا من الناحية النظرية ما بين المنطلق الواقعي القائم والهدف البعيد الغائب، ولكن يبدأ مفعوله بوجود عنصر "الإنسان" الذي يستوعب النظرية ويطبق المنهج ويربط بينهما وبين المخطط تقويما وتطويرا، ويبدع في توظيف الوسائل والإمكانات والأدوات وإن قلّت كما ونوعا، ويبتكر -وإن كانت الظروف صعبة- ما لا يوجد منها فيزيدها، غالبا تحت وطأة الحاجة إلى المزيد منها.
لا جديد في هذا الكلام الذي تؤكده مسارات الرسالات الربانية والاجتهادات البشرية منذ القدم وحتى اليوم، إنما السؤال الجوهري المطلوب من خلال ذكره:
هل تشهد اللحظة الآنية من مسار الثورات على عتبات التغيير، بوادر صناعة الإنسان المؤهل للانتقال من العتبات إلى الخطوات الأولى للتغيير؟
المهمة الآنية
نحتاج للجواب على هذا السؤال إلى دراسات منهجية لا تتأثر بالرغبات الذاتية من جهة، ولا تكتفي من جهة أخرى باعتماد نظريات وفرضيات تاريخية، بل تكون دراسات ميدانية ترصد ما يوجد وما يستجد، وتقومه بمعايير الاحتياجات الحالية، وقابلية النهوض بها، أو اعتبار المتوافر براعم قابلة أن تتطور وتنمو في الاتجاه الصحيح، فتبحث عن السبل لتحقيق ذلك انطلاقا من واقع قائم للوصول إلى هدف منشود.
من حيث الرؤى والمناهج والمخططات:
كل محاولة ظهرت مع ظهور "التنسيقيات" الثورية الأولى، ثم ما وصل إلى صياغة ميثاق، ثم تعديله، وإلى مجلس جديد، ثم تطويره، وإلى توحيد كتائب، ثم تكرار المحاولة، وإلى خلاف بين الثوري والسياسي، ثم السعي للتوفيق بينهما، وإلى خوض مفاوضات مع "العدو" ثم إخفاقها.. جميع ذلك وأمثاله يعني أن ما افتقدته الثورات الموصوفة بالشعبية.. والعفوية.. بدأت تعمل على اكتسابه، وهو طريق لا بد أن يحفل بالخطأ والصواب وبالإخفاق والنجاح، وحصيلته هي ما يحسم تقويم الطريق بمنظور تاريخي.
هذا ما يعنيه أن الذين صنعوا الثورات لم يكونوا بمعايير "النخب" مؤهلين لصناعتها، وأن الثورات بدأت تصنع من بينهم من يمكن أن يصل تدريجيا إلى موقع أداء مهام "نخبوية" بديلا عن "نخب" لم تصنع الثورات من قبل، وإن قام بعضها بدور تنويري.
من حيث الوسائل:
كل فرد يوصف بالمراسل الإعلامي من قلب الثورة، دون سابق تأهيل إعلامي، وكل وسيلة إعلام "ثورية" وإن بدت بدائية ضعيفة أو محدودة التأثير، بداية.. قد تتطور إلى التأهيل العملي المطلوب والتأثير الفاعل مع مراعاة "علم الإعلام".
كل ابتكار جديد لمواجهة سلاح استبدادي بوسائل تبدو بدائية أو محدودة الفعالية، بداية.. قد تتطور إلى قوة قادرة على المقاومة والحد من همجية القمع، مع مراعاة متطلبات "الصناعة التقليدية".
كل تشكيل حزبي ليس له من حرفية الأحزاب إلا القليل، أو مركز دراسات قد ينشر مقالات ويعتبرها بحوثا، أو اتحاد أطباء يغيث ويحتاج لمن يغيثه.. جميع ذلك خطوات، قيمتها المبدئية كامنة في مقارنتها بالعدم -أو ما يوصف بالقحط المفروض في ميادين السياسة والعمل الجماعي- من قبل، ويصبح لبعضها قيمة حقيقية بقدر ما يرقى مضمونه إلى مستوى اسمه.
هذا ما يسري على أمثلة أخرى كثيرة، الشاهد فيها وفي أمور أخرى لا يتسع المجال لتعدادها، أن الثورات الشعبية أحدثت حراكا على مستوى صناعة عدد كبير من "الأفراد" المؤهلين لتتلاقى عطاءاتهم للانتقال من عتبات التغيير إلى ولوج مراحله التالية.
هنا يجب أن نتجاوز السؤال:
هل تشهد اللحظة الآنية من مسار الثورات على عتبات التغيير، بوادر صناعة الإنسان المؤهل للانتقال من العتبات إلى الخطوات الأولى للتغيير؟
إلى طرح المهمة المطلوبة: كيف نتلاقى على دعم ذلك وتنميته في الظروف الحالية؟..وما هي بالظروف السهلة أو المساعدة.
. . .
لقد وضعت الثورات الشعبية الجميع على عتبات تغيير شامل وجذري، وتشمل كلمة الجميع:
١- قوى استبدادية فاسدة، وشبكات منفعية تقوم على رؤى متماثلة أو متكاملة، تربطها بقوى استبدادية إقليمية ودولية.. لن تتوقف عن تحرك مضاد بهدف أن تلتهم أعاصيره ما صنعت الثورات الشعبية حتى الآن ويتناقض مع منظومة "الهيمنة والتبعية" ومنظومة "الاستبداد والفساد".
٢- "نخبا" سابقة.. كانت قطعة من النسيج الأخطبوطي للاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ينتهي مفعولها مع انتهاء وجوده أو اهتراء فعاليته.
٣- "نخبا" سابقة.. كانت مصدر تنوير شعبي جزئي أو كبير، لا بد أن تنتقل بنفسها وبمستويات عملها، من مرحلة "ضيق" ما قبل الثورات إلى "سعة" المرحلة الحالية للتغيير وما يليها من مراحل، فتراعي ما تبدل من المعطيات والمفاهيم والنظريات والوسائل، وتتلاءم معها، ليكون عطاؤها في خدمة "صناعة إنسان التغيير".
٤- شعوبا.. لم تكن تملك وسائل للتغيير "فانفجرت طاقاتها" عبر الثورات الشعبية، وبدأت الآن تعطي نماذج أولية لإنسان التغيير، وهي "خزان الطاقة البشرية" القادرة على التغيير، وهذا ما يجب التركيز عليه.. فهو الأمل الموضوعي لتحقيق الهدف، وهو العنصر الأكثر فعالية من أي عنصر أخر على طريق تحقيق الهدف.. هدف التغيير الجذري الشامل، وأولى خطواته استكمال إسقاط "بقايا" الاستبداد والفساد رغم الأعاصير المضادة للثورات وإرادة الشعوب المتحررة بالثورات.
نبيل شبيب