رؤية – الثورات الشعبية والمناعة الذاتية الحضارية
كثير من ظواهر الغزو الحضاري أو الانهيار الذاتي حضاريا، مرتبط ارتباطا وثيقا بعنصر المناعة الذاتية، سلبا وإيجابا
هل يمكن ربط مسار الثورات الشعبية العربية المتعثر بنهوض حضاري مطلوب؟
السؤال الأصح: هل يمكن الفصل بين هذين المسارين أصلا؟
أليس ما نعايشه ثورة على ما عايشناه في العقود الماضية بجذوره ونتائجه؟
لا ريب في أنّ القسط الأعظم ممّا عاصرناه من نكبات عسكرية وسياسية في العقود الأخيرة، يعود إلى الانهيار الحضاري الذي سبق تلك النكبات، وأوجد التربة الفاسدة اللازمة لوقوعها، ونخطئ إذا عكسنا المعادلة فاعتبرنا النكبات المتوالية هي السبب في الانهيار الحضاري الذي نعاني منه، فالواقع أنّها تزيد من فداحة أثره، وتطيل فترة استمراره، ولكن وضوح العلاقة السببية ضروري لعلاج أنفسنا وأوضاعنا علاجا جذريا.
كذلك وضوح الرؤية ضروري لتجنّب الخلط بين استمرارية وقوع النكبات العسكرية من انقلابات والسياسية من ضياع، وآثارها السلبية المباشرة، وبين استمرارية حركة النهوض حضاريا من جديد وقد بدأت منذ عدّة عقود وما زالت مستمرة.
في مقدّمة ما يسبّبه هذا الخلط نشر التيئيس من تحقيق النهوض الحضاري الممكن والمحتّم، ويكبر مفعول التيئيس تحت وطأة ما تخلّفه النكبات المأساوية من آلام وآثار نفسانية.
وإذا أخذنا بقول من استقرأ أحداث التاريخ فرأى في الحقبة الأخيرة منها غزوا حضاريا للمجتمعات العربية والإسلامية، يمكن القول إنّ النهوض الحضاري المطلوب ثوريا هو الجواب على هذا الغزو، ولا يتحقق قطعا من خلال عملية التيئيس ومفعولها الخطير على صعيد تغييب المناعة الذاتية تجاه أسلحة الغزو الفتاكة.
. . .
كثير من الظواهر ذات الصلة بالغزو الحضاري أو الانهيار الذاتي حضاريا، مرتبط ارتباطا وثيقا بعنصر المناعة الذاتية، سلبا وإيجابا.
يرد الحديث مثلا عن الغزو المغولي للبلدان الإسلامية كأوّل خطوة كبرى من خطوات الغزو الخارجي ارتدت لباسا عسكريا همجيا، وصحيح أنّ اكتساح بلاد المسلمين لم يكن ليقع آنذاك لولا ما تغلغل في جسم الخلافة العباسية من ضعف وفساد، ولكنّ المناعة الذاتية المتبقية إلى حدّ لا بأس به في جسم المجتمع الإسلامي ككلّ، كانت كافية لجعل أحفاد الغزاة العسكريين يندمجون في المجتمع الإسلامي، بل ويصبحون من أدوات نشره حتى وصلوا به إلى موسكو وبودابست.
أمّا الآن وبدون تلك المناعة الذاتية، أو بعد أن أصابها ضعف شديد، فنجد ما نجد من تذبيح وتقتيل همجيين في بعض أوطاننا الثائرة كسورية، لتصبح جزءا من القائمة مع القلب الفلسطيني من أرض المسلمين، ومع كشمير والشاشان، ومع العراق وأفغانستان، ولا نجد من يتحرّك ممّن يجب أن يتحرّكوا، لصدّ الغزاة الخارجيين عسكريا ناهيك عن التفكير أصلا بدمجهم اجتماعيا.
لا يقتصر الأمر على الجانب العسكري، بل نجد الأمثلة من الميدان العلمي والتقني أيضا، فقد نقل المسلمون علوم حضارات الإغريق والرومان والفرس والهنود، فاستوعبوها و"أسلموها" وأبدعوا زيادة عليها وصدّروها من جديد إلى أنحاء الدنيا، وهذا أيام كان لدى المسلمين من المناعة الذاتية ما جعل عالما كأبي حامد الغزالي يكتب في "تهافت الفلاسفة"، أو كابن خلدون فيضع أسس علم العمران/ الاجتماع، وبالمقابل نجد اليوم كيف أصبحت ترجمات كتب أصحاب المدنية الوضعية في الشمال، تتحوّل -رغم ظهور آثارها المدمرة في بلدان المنشأ- إلى مناهج لتدريس أولادنا للمستقبل، وتوجيه سياسات السلطات في بلادنا الآن.
بل إلى وقت قريب نسبيا، ورغم الانهيار السياسي في المجتمع الإسلامي، وانهيار مناعته الذاتية جزئيا، بقيت قوّة تلك المناعة ظاهرة عند "قيادات متميزة" فكان وجودهم كافيا لإحداث أثر عظيم، فوجدنا رجالا مثل عمر مكرّم يقودون ثورات كثورة الأزهر على حملة نابليون بونابرت، كما نجد ثورات الخطابي والجزائري وعمر المختار وأقرانهم على الحملات العسكرية الحديثة.
بينما نجد في المقابل وقد ازداد ضعف المناعة الذاتية ازديادا كبيرا، أنّ بضعة أفراد معدودين أيضا، قادرون على صنع أثر كبير في اتجاه معاكس، كما كان مع لورنس الانجليزي في ثورة العرب على الخلافة العثمانية، بالأمس القريب، أو كان من سنغور الفرنسيّ التربية والشخصية.
. . .
إنّ بداية الطريق إلى النهوض الحضاري هي تعزيز المناعة الذاتية لدى الفرد، وتعزيز المناعة الذاتية لدى الجماعات والأحزاب والروابط المصلحية وأمثالها، وتعزيز المناعة الذاتية على مستوى الدول.
وما شهدناه حديثا ويستحق وصف الانتحار الحضاري، هو تلك السياسات التي تعمل على تربية الفرد عبر انحراف الفضائيات انحلالا، ونشر الأمركة ثقافيا ولغويا وعلميا، وما شابه ذلك ممّا يراد به اغتيال الصحوة المنتشرة على مستوى الأفراد، ولا بدّ من مواجهة تلك السياسات على مستوى الأسرة أولا، وعلى مستوى كلّ جهة تملك التأثير التربيوي والتعليمي والتوجيهي خارج نطاقها، وهذا ما يتطلّب أولا تعزيز المناعة الذاتية على مستوى الأحزاب والجماعات والنقابات، بدلا من التشبّث بطرق منحرفة ساهمت في الضياع، وفي خلافات بين التيارات المتعدّدة لم يحقق هيمنة أي منها أو حفظ لها وجودا كريما، وهو ما لا يتحقق دون التعايش والتكامل والارتباط بالإرادة الشعبية والاحتكام إليها، أمّا على مستوى الدول، فمن أخطر السياسات المعاصرة أن نجد التعاون فيما بينها على أوسع نطاق.. ولكن في طريق مزيد من التسليم للهيمنة الأجنبية، في كل ميدان من شأنه الإسهام في تحقيق نهوض حضاري، وليس في الميادين الأمنية والسياسية فقط، فإذا ظهر مفعول بقية باقية من المناعة الذاتية لدى إحداها، كان سببا في مشاركة الدول الأخرى في حصارها واغتيال ما وصلت إليه من دون سواها.
. . .
إن النهوض الحضاري مجدّدا ممكن، وبوادره الأولى ظهرت منذ زمن طويل، وبلغت مداها على المستويات الشعبية، إلاّ أن ظهور قيادات حكيمة قديرة من وسط الصفوف الشعبية، لجميع الميادين ابتداء بالفكرية انتهاء بالعسكرية، لا يتحقق دون الارتقاء بمستوى العمل الجماعي، بمختلف ميادينه وأشكاله، ليوجد الشروط الأولية لتلك القيادات وليمكّن من ظهورها، وهذا ما ينعقد على تحقيقه الأمل في هذه المرحلة على طريق النهوض.. بل هذا بالذات من أهم ما يعنيه التعبير عن المناعة الذاتية الفردية من خلال جولتها الكبرى ضد الاستبداد والفساد كما تجسدها الثورات الشعبية العربية.
نبيل شبيب