رؤية – الآخر والذات

ثقافة "الآخر والذات" -أي الذات الوطنية المشتركة- أهم عنصر في مفهوم المواطنة على أرض الواقع

49

كلّ حديث عن سورية ومستقبل سورية -وهي مثال على بلادنا الأخرى- والتغيير والإصلاح والتعددية والحكم والمعارضة يصطدم بطريقة تفكير نشأت على وجه التخصيص في العقود الأخيرة من القرن الميلادي العشرين، أو -على الأقلّ- اتّخذ تكوينها منحىً خطيرا خلال تلك العقود، وبات مفعولها يتسلّل حتى في دعواتٍ إيجابية منتشرة عن التلاقي والحوار والتحالف والتعاون، والمقصود هو حديث كل طرف عن الطرف "الآخر" وكأنّ المتحدّث هو سورية والآخر طرف ما، يراد تطويعه للرؤى الذاتية قبل اعتباره جزءا من سورية.

 

من هو "الآخر"؟

لقد تكرّر الكلام إلى درجة الإشباع عن أنّ مصطلحات التلاقي والحوار والتحالف والتعاون وما شابهها، تنطوي تلقائيا على الإقرار بالتنوّع والاختلاف وتأكيد وجود أكثر من طرف، داخل دائرة مشتركة، ولكن يحتاج هذا التأكيد المتكرّر إلى انتشار اقتناعات تنبني عليها المواقف والمناهج والسلوكيات اليومية، بأنّ وجود أكثر من طرف في دائرة مشتركة، يعني وجود انتماء مشترك بين الجميع إلى تلك الدائرة، وأنّه هو الأصل، وأنّ التوجّهات المختلفة تصنع أطرافا متعدّدة، ولكنّ اختلافها لا يُنقص شيئا من انتماء كلّ منها -على حدة وجماعيا- إلى تلك الدائرة، دائرة سورية الوطن المشترك، مع سائر ما يربطه بمحيطها العربي، والإسلامي، والجنوبي، والإنساني.

والإشارة إلى العقود الأخيرة تعني أنّ طرح الصيغة الوطنية داخل أغلال احتكارات حزبية، هي التي ساهمت إسهاما كبيرا في تحويل الوعاء الوطني الجامع، إلى وعاء بعثي احتكاري للوطن والوطنية، إقصائي لمن لا يطوّع نفسه وفكره وتوجّهه وتطلّعاته إلى رؤية احتكارية استعلائية.

لا يعني ذلك تبرئة الآخرين من نظرات مشابهة، سواء صدرت عن الفكر الذاتي وشطحاته أم كانت ردود فعل على أطروحات الآخر، فالحصيلة واحدة، ولكنّ الفارق كبير بين طرح نظري فكري، محاصَر ملاحق في غالب الأحيان، وبين طرح نظري فكري، مندمج بالتطبيق العملي، القهري غالبا، عبر قوّة السيطرة على السلطة وأجهزتها، فهو يصنع الآليات المختلفة لفرضه فرضا ومنع سواه، وفي أوضاع سورية ما يكفي من الأدلّة على إخفاق هذه المسيرة الاستبدادية الاحتكارية إخفاقا ذريعا.

على أنّ هذا الإخفاق لا يستدعي فقط إعادة النظر من جانب البعثيين فيما كانوا عليه، بل يستدعي في الوقت نفسه، ممّن يطرح فكره ومنطلقاته وتصوّراته ومناهجه، تحت عناوين أخرى غير العنوان البعثي، سواء كان قريبا أو بعيدا أو مناهضا للسلطة الآنية، أن يحرص على عدم تكرار التجربة الخطيرة الخاطئة التي انزلق إليها المسيطرون على حزب البعث، بعد وصولهم إلى السلطة على الأقلّ.

مَن هو "الآخر" في هذا الوطن القائم بين أيدينا، أو الواقفين نحن بين يديه، والمستبعَد في الوقت نفسه في كثير من أطروحاتنا من الناحية الفعلية؟

ألا يرى الإسلامي أنّ "الآخر" هو العلماني، أو القومي، أو البعثي، أو سوى ذلك من المسميات، ويرى العلماني أن "الآخر" هو الإسلامي والقومي والشيوعي والبعثي من غير العلمانيين، وهكذا مع سائر "الأطراف"؟

هؤلاء "جميعا" إذن -شاءت أقلية الإقصائيّين في صفوفهم أم أبت- الذات والآخر في وقت واحد، لا يتبدّل واقع الانتماء الوطنيّ لأيّ منهم، وإنّما تتبدّل زاوية النظر إليه فحسب، فإذا انحرفت نحو الإقصاء والاستئصال، كانت هي المنحرفة، ولا تغيّر شيئا من أصل انتماء الجميع إلى الحاضنة الوطنية المشتركة، ولا يتناقض هذا المنطلق مع استمرار اليقين الذاتي بصحّة الرؤية الذاتية وخطأ رؤية "الآخر"، كما أنّه لا يعني من جهة أخرى الامتناع عن المحاسبة التقويمية الذاتية والدعوة إليها.

إنّنا في حاجة إلى ثقافة الآخر والذات في سلوكيّات التعامل فيما بيننا:

١- لأنّ المفروض ابتداءً أن تكون بحدّ ذاتها هدفا جامعا وقاسما مشتركا.

٢- ولأنها في سائر الأحوال ضرورةٌ تفرضها صعوبة -أو استحالة- "توحيد" الرؤى الذاتية والتطلّعات المستقبلية، ناهيك عن قابليّة استئصال أصحاب إحدى تلك الرؤى لسائر ما سواهم وسواها.

٣- ولأنّ تغييب ثقافة الآخر والذات يسبّب للجميع الضرر الأكبر من سواه، وهو الضرر الناجم عن الصدام نتيجة جولات الصراع المتعاقبة، ومحاولات الاستئصال والإقصاء والثأر "المتبادلة" في إطارها!

 

مدخل إلى ثقافة "الآخر والذات"

إنّ محور سلوكيات التعامل المطلوبة في ثقافة الآخر والذات، هو إدراك أنّ "الآخر" سيعمل في سائر الأحوال -ما دام مقتنعا برؤاه- إمّا في أجواء التوافق أو في أجواء الصراع، إمّا على أرضيّة مشتركة تضبط مسار التعامل بين المختلفين، أو من دونها ومن دون ضوابطها، على جبهات علنية أو سرية، وبموازين قوى متقلّبة، على فترات متقاربة أو متباعدة، وبعواقب وخيمة في جميع الأحوال، جولة بعد جولة.

المهمّ لتجاوز الصراع إلى أرضيّة مشتركة، هو إيجاد الشروط التي تجعل ذلك العمل "الحتميّ" الذي يمارسه كلّ تيّار على كلّ حال وبمختلف الظروف، عملا هادفا لمستقبل مشترك بين الجميع، منضبطا متجنّبا للإضرار من خلاله على حساب أيّ طرف.

أوّل تلك الشروط: القبولُ بحقّ "الآخر" في السعي المشروع من أجل إيصال مرجعيّته هو إلى موقع توجيه ميادين الحياة والحكم، ثمّ التعامل المتوازن مع هذا الشرط.

هذا على وجه التخصيص ما لا ينبغي "قمعه" من حيث الأساس، ولا يوجد منطق مقبول من وراء رفضه، فهو في جوهره، بميزان الحقوق والحريات، عينُ ما يريده الطرف الرافض -أو القامع- ولكن لنفسه، وعينُ ما يصنعه هو بنفسه عبر ممارساته على أرض الواقع. والطرف الرافض أو القامع هنا هو مَن يعتبر نفسه "الذات" في هذه المعادلة للحاضنة الوطنية المشتركة، ولكن لا يرى فيها أنّ للآخر أيضا صفة "الذات" نفسها.

إنّ جميع الأطراف، في السلطة والمعارضة، وجميع الأطياف والاتّجاهات، في حاجة إلى تجديد ثقافة "الآخر والذات"، نظرية وفكرا، وتربية تأهيلية للأنصار، ومنهجا تطبيقيا للتعامل، ولا يتحقّق شيء من ذلك دون الانطلاق المبدئي من الحاضنة الوطنية الجامعة.

وليس في هذه الخطوة ما يعني التثبيتَ أو النفيَ لمقولة إعطاءِ مفهوم الوطنية الأولوية على مفهوم القومية، أو العقيدة، أو أيّ صيغة انتماء يختارها فرد لنفسه أو يتبنّاها فريق في دعوته ومنهجه، إنّما المقصود هو تثبيت الانطلاق العمليّ، لا النظريّ فقط، وسط هذه الانتماءات والتصوّرات والاتّجاهات المتداخلة بالضرورة، وليس عبر تجاهلها أو تهميشها أو إقصائها، أي الانطلاق العملي من واقعٍ آنيّ قائم وصلت إليه مسيرة التاريخ.

الوطن منطلقنا.. لأنّ واقع سورية في هذه المسيرة أنّها في الوقت الحاضر وطن له حدوده الجغرافية والسياسية، فيمكن أن نتطلّع من داخل هذا الوطن إلى هدف الوحدة -مثلا- عربية كانت أو إسلامية، أو بأيّ صورة من الصور الأخرى للاتّحاد أو التقارب أو التضامن أو التعاون، مع أوطان أخرى قائمة، ولكنّ مسيرة التغيير والإصلاح في سورية، التي تتطلّب التحرّك العملي لا الكلام النظري فقط، لا يمكن أن تنطلق من مستقبل "مرجوّ" وإن استهدفته أو استهدفه بعض أطرافها، ولا من هدف غير موجود بعد، بل يجب أن تنطلق من الموجود الآن، والموجود هو الوطن الجامع لأهل سورية بسائر انتماءاتهم العقدية والقومية والطائفية والسياسية.

إنّ ثقافة "الآخر والذات" المرجوّة هذه هي تلك التي تفصل في أذهاننا ومواقفنا وسلوكيّاتنا بين ميدانين اثنين، دون أن تفصم ما بينهما من صلةٍ لا تنطوي على تناقضٍ ما، إلاّ في حدود ما نصنعه بأنفسنا تعصّبا، وهما:

١- ميدان الاقتناعات الذاتية والرؤى المستقبلية المنبثقة عنها، ويسري هنا ترسيخ الحقّ الثابت المستمرّ لكلّ طرف، أن يبقى قادرا على العمل من أجلها، ساعيا لجمع الأنصار لها وتعميمها، ولتثبيت مرجعيّتها في المجتمع والسلطة، فإن كان في جهاز السلطة التنفيذية، وجب عليه تحت رقابة التشريعية والقضائية، أن يضمن قدرة الآخرين على مثل ذلك، وألاّ يتجاوزه، فهو من الثوابت أو "الخطوط الحمراء" أو الموادّ الدستورية التي لا تقبل تعديلا ولا إلغاءً ولا نقضا أو تعطيلا، وإن كان خارج جهاز السلطة التنفيذية، وجب عليه التمسّك حيثما كان موقعه بحقّه الذاتي وحقّ "الآخر" معا على هذا الصعيد.

٢- ميدان التعامل اليوميّ الآني، فكريا وسياسيا وإعلاميا وفي مختلف المجالات، وفي هذا الميدان يكمن السؤال عن إيجاد الضمانات الضرورية لاقتناع "الجميع" باستمراريّة قدرة "الجميع" على العمل مستقبلا أيضا، وفق الاقتناعات الذاتية المشار إليها، في السلطة والمعارضة، وهنا يتطلّب إيجادُ الضمانات وتعميمُها أن يسبقها وضعُ قواعد مشتركة، والتوافق على سلوكيات مشتركة، من أجل مسيرة مشتركة، ثابتة المعالم، سيّان أين كانت مواقع المشتركين فيها، آنيّا ومستقبلا، في مرحلة التغيير والإصلاح أو مرحلة الاستقرار والبناء، سلطة ومعارضة، عملا رسميا أو شعبيا.

إنّ ميدان الاقتناعات الذاتيّة هو الميدان الأوّل أو ميدان الأسس والمبادئ التي تقوم عليها منظومة الحقوق والحريّات، وهذه يجب أن تكون صياغتها مشتركة وصالحة للبقاء، ولا تكون كذلك دون أن يظهر فيها مسبقا أنّها مكفولة عند التطبيق لصالح الجميع دون استثناء، سيّان ما هي المرجعيّة التي تقوم عليها السلطة، بعد أن يرتضيها الشعب ويختارها بغالبية أفراده، أي غالبية جميع الأفراد في الوطن الواحد، من جميع أطيافه وطوائفه، دون تمييز.

أمّا الميدان الثاني فهو ميدان التعامل على هذا الطريق، الآن أثناء العمل للتغيير، ومستقبلا بضمان استمراريّته منذ الآن، حتّى استقرار الوضع المطلوب إنشاؤه، وهنا لا يستقيم العمل المشترك دون أن ينطلق من الحاضنة الوطنية الجامعة، القائمة فعلا والتي تحتاج إلى تفعيل وترسيخ، وذلك بتعامل الجميع من خلال ما تقتضيه، وهي أيضا المطلوبة مستقبلا عبر ضمانات استمرار وجودها ومفعولها.

 

جوهر "المواطنة"

من المعضلات التي تعترض الجادّين في صفوف ما يسمّى المعارضة السورية في دعوات التلاقي على أرضيّة مشتركة، استمرارُ وجود أقليّات داخل مختلف الأطراف والأطياف، تطرح -بصوت مرتفع غالبا، وإن كان لا يجعلها "غالبيّة"- ما يريد كلّ منها تحقيقه في المستقبل، فيما لو وصلت إلى السلطة، في صيغة قيود أو شروط مسبقة، للتعامل مع الآخر المخالف لها.

حتّى عندما يطرح بعض الأطراف الجادّين الاستعدادَ لعمل مشترك يجمع الآخر والذات دون شروط مسبقة، مع تبادل الوعود بامتلاك كلّ طرف حقّ الدعوة إلى ما يراه في المستقبل في ظلّ صيغة ما من التعدّدية، تنطلق تلك الأقلام والألسنة الشاذّة، تشكيكا في النوايا، واسترجاعا لمواقف سابقة، مناقضةٍ للوعود حقيقةً أو تُصوّرها كذلك تزييفا، ويقترن ذلك بتمسّكها بالرفض القاطع للآخر، وهو أسلوب يستدعي التشكيكَ في تلك القلّة من الأقلام والألسنة أوّلا، بل يستدعي -وهذا هو الأهمّ- رفضَها هي ما دام "الرفض" نهجها، ووفق قاعدة كلّ إناء ينضح بما فيه، فإن نضح بما فيه إساءة للآخر وإقصاء له، كان هو المرفوض لا الآخر.

وتنبثق عن هذه المعضلة معضلة أخرى، أنّ الغالبيّة في كلّ فريق من الأطراف الراغبة في مسيرة مشتركة، وأرضية مشتركة، وصلت إلى درجة من الحساسية على صعيد الممارسات السابقة لرفض "الآخر"، تجعلها شديدة الحذر في إقصاء القلّة الإقصائيّة الشاذّة داخل صفوفها، أو المنتمية إليها زعما، أو في الإعلان الواضح القاطع أنّها لا تمثّلها، أو أنّ نهجها الإقصائي لا يمثّل نهجها، أو لم يعد يمثّل على الأقلّ الاتّجاه الشامل للأغلبيّة في إطارها، التي تريد التنسيق والتعاون والتلاقي بين الذات والآخر، على أساس استمراريّة اختلافات المعتقد والفكر والتصوّر والمنهج.

هذه المعضلة الناجمة عن الحساسية لا تستند إلى نظرة عمليّة واقعيّة، أي نظرة من المفروض أن تقتضي -دون تردّد- رفض مَن يرفض "الآخر" ابتداءً إذ يعطي هو "الآخرَ" بذلك حقّ رفضه تلقائيا، وإلاّ فقدت كلمة "الحاضنة الوطنية المشتركة" مصداقيّتها.

إنّ القلّة التي ترفض وتُقصي هي التي تضع نفسها بنفسها خارج الدائرة المشتركة أو المرجوّة، فلا حاجة إلى "إجراء" مباشر يمثّل إقصاءها، بقدر الحاجة إلى بيان موقف الغالبيّة المنفتح بين الذات والآخر بتأكيد أكبر، وبصياغة أرسخ، مع المضيّ في السبل العملية لقواعد التعامل المشترك، ومع إهمال مقولات رفض عملٍ مشترك حقيقي يقوم على إقرار الاختلاف لا محاولة التطويع المسبق. ثّم قد تستدعي الضرورة تجاوز أسلوب الإهمال إلى الإنكار العلني الرسمي لذلك الرفض، إذا ما تجاوز صاحبه حدوده في التعبير عنه كرأي يخصّ الأقليّة الإقصائية الرافضة، فزعم أنّه مع أمثاله "هم" من يمثّلون التيّار أو الحزب الذي يوجدون فيه.

 

إنّ تطوير ثقافة "الآخر والذات" هو العنصر الأهمّ الذي يجب ترسيخه ليكون لمفهوم المواطنة مفعوله على أرض الواقع، ويعني ذلك عمل الجميع، كلّ في نطاقه، وتعامل الجميع المشترك، من أجل:

١- أن يستوعب كلّ طرف من الأطراف أنّ حقّه في أن تكون رؤيته الذاتية التي يعتقد بصوابها، مضمونة مكفولة، في مرحلة التغيير وحقبة الاستقرار، أمر لا يتحقّق أصلا دون أن تكون رؤية "الآخر"، التي يعتقد هو بخطئها، مضمونة مكفولة أيضا.

٢- أن ينتشر الاقتناع الذاتي والتعبير عنه فكرا وتعاملا، بأنّ كلمة "الذات" لا تعني درجةً أدنى ولا أبعد من الانتماء إلى الحاضنة الوطنية المشتركة، وأنّ كلمة "الآخر" تعني بالمقدار نفسه الانتماءَ إلى الحاضنة نفسها، وأنّ إقصاء الآخر في هذا الإطار، هو إقصاء لجزءٍ من الذات الوطنية المشتركة.

وتلك مجرّد بداية محدودة لنشر ثقافة "الآخر والذات" على أسس قويمة، إذا ما وجدت التضافر على إثرائها طرحا وتفصيلا وتحليلا واستكمالا، وعلى ترسيخها فكرا وتطبيقا، وعلى نشرها مع اعتبارها جزءا لا غنى عنه لأرضيّة مشتركة وقواعد مشتركة للتعامل القويم الهادف.

نبيل شبيب