رؤية – استهداف تركيا (١) الخلفيات والأسباب

لا يوجد في عصر الثورات الشعبية سوى تركيا في موقع قوة إقليمية تتحدى حسابات الهيمنة الدولية

41

لا يخفى تميز الوضع التركي والدور التركي والموقع التركي من مجرى الأحداث الراهنة، لا سيما تحت عنوان حملة "تحالف دولي" ضد الإرهاب وحقيقة علاقتها بمستقبل الثورات الشعبية العربية.

ولكن استجلاء مشهد هذه المحطة من مسار الأحداث والموقع التركي يتطلب تمهيدا، عبر أفكار موجزة حول جوهر التحرك "الغربي" تجاه المتغيرات الثورية، ثم حول "قوى الصراع الإقليمي".

 

أولا: ثورات مفاجئة

فاجأت الثورات الشعبية العربية صناع القرار دوليا وإقليميا:

(١) بانطلاقتها الشعبية لا سيما على مستوى جيل الشباب بعد جهود طويلة لصناعة "كتلة موات بشرية" تنشغل بالفقر أو البطر، مع التركيز على جيل المستقبل.

(٢) باستمراريتها على طريق التغيير، رغم الضربات الهمجية غير المسبوقة في تاريخ البشرية لا سيما في سورية وفلسطين -ثورتها الشعبية الحالية بدأت في مثل هذا الشهر التاسع من عام ٢٠٠٠م- ورغم الضربات المضادة بمشاركة دولية وإقليمية.

(٣) بالانهيار السريع لبعض رؤوس أخطبوط المرتكزات الإقليمية التي اعتمدت عليها قوى الهيمنة الدولية طويلا، مقابل ظهور تركيا في موقع غير محسوب دوليا.

 

ثانيا: ردود غربية

أدركت القوى الغربية حجم التغيير المنتظر إذا مضت الثورات نحو تحرير إرادة الشعوب، وأدرك الساسة الأمريكيون قبل سواهم خواء مفعول الوسائل التقليدية لترسيخ الهيمنة مجددا، فكما نذكر الموقف الرسمي الفرنسي بتأييد المستبد التونسي حتى اللحظة الأخيرة، نذكر أيضا الموقف الرسمي الأمريكي السريع للإعلان عن تبدل جذري، بالتصريح بعدم الاعتراض على مشاركة إسلامية في السلطة، وخصّ "الإخوان المسلمين" في مصر. ولم يكن هذا "تغييرا استراتيجيا" بل خطوة أولى من مخطط طويل الأمد لإجهاض الثورات بدلا من "مواجهة خاسرة" وجها لوجه.. وهذا ما انضمت إليه القوى الأوروبية لاحقا، ويفسر مثلا خيبة أمل كثيرين مما حسبوه "وعودا صادقة بدعم الثوار".

 

ثالثا: فروق قطرية

استغرق تنفيذ المخطط في مصر زهاء ثلاث سنين أوصلت إلى انقلاب عسكري بدعم إقليمي، مقابل استمرار ظهور الحكومات الغربية أمام ناخبيها بمظهر "تأييد الديمقراطية"، ثم "الاضطرار" إلى التعامل مع "واقع جديد".. أي إنكار مشاركتها في صنعه.

ولا يزال السعي لوضع مشابه في ليبيا مستمرا بينما أدركت "حركة النهضة" في تونس أبعاد اللعبة الدولية والمحلية وفضلت الحل الوسطي ولو كان على حساب أصوات الناخبين، أي على حساب تحرر الإرادة الشعبية.

يختلف الوضع في اليمن وسورية، فالأنظمة العاملة لقمع الثورة هنا وهناك أقرب ما تكون إلى أجنحة لمشروع الهيمنة الإقليمية الإيرانية.

 

رابعا: القوى الإقليمية دون تركيا

من البداية يمكن استثناء "دور" إسرائيلي في مواجهة الثورات، ولا يعني ذلك أن العمل الدولي يجري على حساب مشروع الهيمنة الصهيوني، ولكن لا جدوى من أساليب تقليدية كالحروب الماضية لصناعة "خرائط" جديدة، لأن أي تحرك إسرائيلي أثناء موجة الدفع الثوري الأولى من شأنه أن يؤجج نار الثورة شعبيا وينشرها.

ولكن توجد قوى إقليمية لم تصل إليها الثورات، وكانت تخوض صراع المحاور، وهو صراع "نفوذ" بغض النظر عن التسميات "البراقة المخادعة"، لا سيما تسمية "المقاومة والممانعة" المزورة.

المحور الأول محور خليجي-مصري في الدرجة الأولى، وانهار "رأس" نظام الحليف المصري، وبقيت الجهود الخليجية -باستثناء قطر- تعتمد على "استرجاع ما كان" وليس على التعامل مع معطيات ثورية جديدة، وهو ما أوصل إلى "الانقلاب المضاد للثورة".

وليس هذا قابلا للتطبيق في اليمن وسورية لأسباب عديدة، منها نوعية محور التحالف بين النظامين الإيراني والسوري منذ ١٩٧٩م (الثورة الإيرانية) و"القمع الشعبي المطلق"، ومع مراعاة الوضع الاستثنائي في العراق، لم يكتسب هذا المحور انضمام "أنظمة" إليه، بل اعتمد على تنظيمات ينشرها حيث استطاع، وهو ما ظهرت حصيلته في اليمن ولبنان وسورية والعراق.

 

خامسا: القوة التركية الإقليمية

خارج نطاق "صراع المحاور" ظهرت القوة الإقليمية التركية وفرضت نفسها خلال أعوام بإنجازات داخلية شعبية، وخارجيا عبر "نهج صفر مشاكل" مع الجوار و"التطور السياسي التدريجي".

لم تعط تركيا ذريعة مباشرة لتحرك مضاد، فلم تتخذ قرارات "مزلزلة" مثل الانسحاب من حلف شمال الأطلسي، ولكن رفضت المشاركة في الحرب الأمريكية ضد العراق، كما حرصت على هدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إنما استعلت بإنجازاتها على موقع "التسول" فانخفضت نسبة التأييد الشعبي للانضمام من أكثر من٧٠ إلى أقل من٤٠ في المائة.

ومنذ ظهر تبدل في السياسة التركية ضد حليف الغرب الإسرائيلي، لم تعد تكفي سياسة الانتظار الاضطراري مع "مضايقات" محدودة، فارتفعت وتيرة الاستفزاز كما في قضية ما يسمى "مذبحة الأرمن"، ومع الانحياز التركي لصالح الثورات الشعبية العربية.. "طفح الكيل"، ولم يعد يحول دون الغرب ومواجهة مفتوحة سوى توافر "ظروف ملائمة" منها ما يمكن أن ينشأ بطبيعته، ومنها ما يُصنع صنعا.

لا يمكن فصل ذلك عن النقلة الغربية الكبرى من سياسة الحصار تجاه "إيران" إلى التفاوض والمساومة، وأصبح وجود "قوة إقليمية" إيرانية "منافسة لتركيا" بشروط من أسس رسم خارطة "سياسية إقليمية جديدة"، وبالمقابل حافظت تركيا على درجة كافية من التوازن "المصلحي" في نطاق العلاقات مع إيران، رغم "المواجهة في أرض الثورة في سورية".

 

سادسا: خارج قوسين في التحرك الأميركي

ينبغي أولا استبعاد بعض الصيغ التعميمية في وصف السياسات الأمريكية، ومنها:

(١) تحالف مع إيران لضرب السنة لحساب الشيعة..

إن إثارة الفتن المذهبية مسلك أمريكي موروث عن الاستعمار الأوروبي، وتم تطبيقه في باكستان وأفغانستان وسواها ووصل إلى المنطقة العربية، ولكنه "وسيلة" يسري عليها نهج "الفوضى الهدامة" لتثبيت الهيمنة الأجنبية.

(٢) التحالف الحالي تحالف غربي-إيراني-صهيوني..

التحالف الغربي الصهيوني "اندماجي" والتلاقي مع إيران على الحيلولة دون تحرر إرادة شعبية في المنطقة العربية، لا يعني نشأة "تحالف اندماجي" معها، بل يعني مساومات ومقايضات.

(٣) النفط الخام سر كل علاقة مصلحية أمريكية..

نسيج المصالح الغربية يشمل قطاعات أمنية وسياسية ومالية واقتصادية بل وفكرية حضارية أيضا، وليس نفط الخليج سوى عنصر من عناصرها، والمهم غربيا عدم إنفاق عائداته في ميدان صناعة "تقدم" تقني ومادي حقيقي.

 

سابعا: استهداف تركيا

"داعش" ذريعة مصنوعة أو مضخمة لتحرك مباشر بعد العجز عن إخماد مسيرة الثورات الشعبية محليا، وعلى الأخص في سورية.

موازين تحرك دولي من حجم "التحالف الأمريكي الجديد" لا تعتمد على مواجهة تنظيمات وأفاعيلها، بل مواجهة موازين كبرى للقوى على خارطة الدول الإقليمية.

لا توجد في عصر الثورات الشعبية سوى تركيا في موقع قوة إقليمية خارج نطاق حسابات الهيمنة الدولية، القائمة على "تبعية مباشرة" أو نسيج مساومات ومقايضات.

بعد إخفاق "ضربات داخلية" للمسيرة التركية الحالية، ومع استحالة استهدافها عسكريا، لم تنقطع الضغوط مع المساومات والمقايضات، ولكن بقدر ما نجح ذلك مع إيران لم ينجح مع تركيا.

لهذا يمكن القبول بما يتردد تلميحا أو تصريحا في الأروقة السياسية التركية، أن استهداف تركيا يلجأ إلى:

(١) محاولة توريطها المباشر عسكريا على حدودها الجنوبية..

(٢) محاولة توريطها مستقبلا في مواجهة قوى إقليمية، يمكن أن تشمل "إيران" و"الأكراد" وما يمكن إنتاجه -إن استطاعوا- في شكل نظام جديد يرث النظام الأسدي المهترئ دوليا وإقليميا وداخليا.

ما الذي تنتهجه السياسة التركية مقابل ذلك؟

تحتاج محاولة الإجابة إلى حديث مستفيض آخر.

نبيل شبيب