رؤية – إيران إقليميا بعد الاتفاق النووي
لن تتحقق مواجهة فاعلة لمشروع الهيمنة الإيراني المدعوم غربيا في الفترة المقبلة، دون أن يكون القسط الأكبر منها معتمدا على المسار الثوري الشعبي التغييري
أكثر الأطراف الإقليمية استفادة من الاتفاق النووي يعلن رسميا أنه خطأ تاريخي خطير كما ورد على لسان نيتانياهو، وأكثر الأطراف الإقليمية تضررا يعلن الترحيب بالاتفاق وتأييده حسب المواقف المبدئية السعودية والتركية.
هذا الاتفاق ذو شقين، أولهما ما يتعلق بالسلاح النووي، وفيه ما يؤكد إما استحالة القدرة عليه في المستقبل المنظور أو تأخير قابلية صناعته سنوات عديدة، وهنا تتحقق الفائدة الأكبر لمن يملك السلاح النووي إقليميا ولا يريد أن توجد قوة تردعه، والشق الثاني هو ما يرسخ موقع إيران كقوة إقليمية تعتمد على السلاح التقليدي والقدرات الاقتصادية والمالية من وراء مشروع الهيمنة، وهنا يلحق الضرر الأكبر بقوى إقليمية أخرى تعتمد على السلاح التقليدي والقدرات الاقتصادية والمالية والتأثير على السياسات والتطورات الإقليمية.
المشهد الإقليمي قبل الاتفاق
كان واضحا من مجرى المفاوضات في مرحلتها الأخيرة، أن الاتفاق أمريكي-إيراني أولا، فإذا رجعنا إلى الوراء قليلا، نجد أن سنوات عديدة من المفاوضات مع المجموعة السداسية الدولية لم تحقق نتيجة تذكر، وكان الإلحاح كبيرا على محادثات مباشرة بين طهران وواشنطون لكسر الجليد، وفي عام ٢٠١٢م فقط تراجعت واشنطون عن رفضها لهذه المحادثات، فبدأت المرحلة الأخيرة التي أفضت إلى الاتفاق في نهاية المطاف، والسؤال:ما الذي طرأ على الوضع الإقليمي عام ٢٠١٢م فدفع واشنطون إلى تلك الخطوة؟
إن الحدث التغييري الأكبر هو اندلاع الثورات الشعبية العربية عام ٢٠١١م وتوجّه السياسة التركية بوضوح نحو احتضان ما سمي "الربيع العربي"، فلا ريب أن التوجه الأمريكي نحو التوافق مع إيران كان جزءا من "الرد الاستراتيجي" الأمريكي على معالم تحول استراتيجي وضعت بذوره الأولى الثورات الشعبية وقد ظهر أنها تستهدف تحرير إرادة الشعوب إقليميا، أي ظهر أنها خطوة أولى نحو إسقاط معادلة الهيمنة الأجنبية والتبعية الاستبدادية المحلية.
أما معالم الرد الاستراتيجي الأمريكي بإيجاز شديد، فتتلخص في تحرك السياسات الأمريكية على خلفية الظروف المتباينة بين كل بلد عربي ثائر وآخر، وكان بعض هذه السياسات يعتمد على دول عربية مرتبطة بواشنطون منذ سنين، وهو ما أفضى إلى الانقلاب في مصر، وتجميد مسار ثورة اليمن حتى وقع الانقلاب الحوثي، وزرع فتنة الانقلابيين في ليبيا، بينما اختير أسلوب "القوة الناعمة" لإجهاض الثورة في تونس تبعا لظروفها الخاصة، أما في سورية فأطلقت يد الميليشيات المرتبطة بإيران إلى أبعد الحدود، إلى جانب تمكين داعش من تنمية قوتها الذاتية بغض النظر عن حقيقة نشأتها، حتى أصبحت خطرا إرهابيا ظاهرا للعيان، ويكفي لتبرير توجيه الضربات للثورات بذريعة مكافحة الإرهاب.
في الوقت نفسه استخدمت حصيلة وضع التمييز الطائفي بخلفيته الإيرانية الطاغية في العراق لمنع امتداد لهيب الثورات الشعبية إليه ولاستخدامه في الوقت نفسه ورقة مساومات مع إيران عبر ذراع ما سمي التحالف الدولي ضد داعش بزعامته الأمريكية، كما أن تركيا شهدت مرحلة جديدة من العداء الأمريكي عبر سلسلة المحاولات الفاشلة حتى الآن لزعزعة مسيرة تطورها لقوة إقليمية تعتمد على القوة العسكرية والاقتصادية معا، ولا يغيب عن الأنظار التوجه بمسار ما كان يطرح دعائيا تحت عنوان "حل الدولتين" في فلسطين إلى طريق مسدودة، إلى أن عاد التعامل مع المقاومة الفلسطينية في غزة الآن بمشاركة الانقلابيين في مصر إلى أسوأ مما كان عليه في فترة التسلط الاستبدادي عبر نظام مبارك.
مشهد جديد للصراع
دور "شرطي الخليج" الذي يكثر الحديث حوله لتشبيه حصيلة المحور الأمريكي – الإيراني الحالي بما كان عليه في عهد الشاه، يختلف عما كان عليه آنذاك بجوهره وما يمكن أن يترتب عليه.
كان دورا للهيمنة الإقليمية بمفهومها التقليدي، ويضاف إليه الآن المضمون العقدي الطائفي بأقصى درجات التجييش وما يمكن أن يصنعه من صدامات دموية كما تشهد بداياته منذ سنين.
كان دورا مقتصرا على منطقة الخليج وعنصر الطاقة النفطية في الدرجة الأولى، ويضاف إليه الآن الامتداد الجغرافي والطائفيمن سورية ولبنان شمالا إلى اليمن وربما الشمال الإفريقي لاحقا.
كان ميدانه رقعة جغرافية محددة على خارطة الصراع القديم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي في حقبة الحرب الباردة، وهو الآن المركز الجغرافي الرئيسي لصراع آخر أعلن عنه الأمريكيون فور نهاية الحرب الباردة عبر شعار "الإسلام عدو بديل"، وهو ما انعكس في وثائق "مهام" حلف شمال الأطلسي وخططه وفيما يسمى "الكتاب الأبيض" لوزارات الدفاع في أكثر من دولة.
وكان دورا متميزا بالعمل على ترويض الحكومات الإقليمية المستهدفة وتطويعها، وهو الآن في مواجهة مباشرة مع الشعوب وثوراتها.
بالمقابل.. كانت معادلة الهيمنة والتبعية تمثل المحور الوحيد للعلاقات بين قوى دولية وقوى ضعيفة إقليمية، جميعها وليدة حقبة سايكس بيكو، بينما يتضمن المشهد الحالي بذور تمرد أولي على تلك المعادلة، يحاول تثبيت أقدامه لا سيما في السعودية وتركيا، بعد أن أثبتت السياسات الأمريكية، ومنها الاتفاق النووي مع إيران، أنها سياسات تقرر وتنفذ على حساب المصالح الحيوية الأساسية حتى للدول التي ارتبطت بواشنطون من قبل ارتباطا وثيقا.
بالمقابل أيضا.. كان تغييب الإرادة الشعبية والدعم المطلق للأنظمة الاستبدادية نقطة ضعف ذاتية حاسمة تمنع من تحقيق أي تقدم، اقتصاديا أو عسكريا أو سياسيا أو تقنيا وعلميا، ولم يتبدل هذا العنصر بالذات إلا في تركيا رغم ارتباطها العضوي من قبل بالغرب، بينما أظهرت ثورات الربيع العربي أن مسار التغيير قد بدأ -مع كل ما يعنيه من صراع تحرري طويل الأمد- يبدل الموازين والمعادلات المفروضة في المنطقة.
معادلات الصراع مستقبلا
لا تتبدل "سياسات الدول" إلا ببطء شديد أو عبر تغيير ثوري جارف.. فهي سياسات قائمة على "شبكات علاقات" معقدة، تجعل أي تغيير فيها سلاحا ذا حدين، ويتطلب تخطيطا وصبرا وحنكة سياسية بالغة، بينما تقوم الثورات على هدم الموجود بعجره وبجره وإقامة بناء جديد بديل، وهو ما يعني ارتفاع فاتورتها، مما يوثقه التاريخ في حجم التضحيات والدمار في الدرجة الأولى.
وسياسات الأنظمة قائمة على الحلول الوسطية والمساومات إضافة إلى "أولوية كرسي السلطة" على ما عداه، أما التغيير الثوري فيتحرك دوما على الحد الفاصل بين النصر أو الإخفاق بانتظار جولة تالية.
المشهد الجديد بجميع أبعاده يؤكد أنه لن تتحقق مواجهة فاعلة لمشروع الهيمنة الإيراني المدعوم غربيا في الفترة المقبلة، دون أن يكون القسط الأكبر منها معتمدا على المسار الثوري الشعبي التغييري.. ولكن:
هل يمكن أن تشهد المنطقة في الفترة المقبلة نوعا من التكامل بين تحرك سياسي رسمي على محور التقارب السعودي-التركي- القطري، وبين التحرك الثوري الشعبي الذي لا تزال جذوته الرئيسية ملتهبة في سورية تحديدا؟..
مثل هذا التكامل مستحيل دون أن يقوم على رؤى استراتيجية متكاملة، ولئن وجدت نقاط ضعف في المسارات السياسية الرسمية سبق التنويه لبعضها، فإن نقطة الضعف الحاسمة في المسار الثوري الشعبي هو غياب رؤية استراتيجية بعيدة المدى توظف المعطيات الحالية لتحقيق الإنجازات المرحلية وتوظيفها لإنجازات تالية.
والاستراتيجية المطلوبة بإلحاح، هي:
١- "استراتيجية علنية".. تضع في حساباتها اطّلاع العدو والصديق وردود الأفعال.
٢- "استراتيجية مرنة".. بمضمونها، مع وجود فريق يتابع المتغيرات ويضع التعديلات.
٣- "استراتيجية هادفة".. لا تعتمد أساليب النشر المعتادة، بل شبكة تواصل من ذوي التأثير ميدانيا.
٤- "استراتيجية مبسطة".. يفهمها المتخصصون، وكذلك كل صاحب علاقة بتنفيذها.
٥- "استراتيجية شعبية".. وليست "فوقية" أو "إملائية".. وهذا ما يستدعي عمق التواصل أثناء وضعها.
٦- "استراتيجية شاملة".. تشمل قواعد وضوابط للتعامل مع المخططات المرحلية والأهداف البعيدة المدى.
٧- "استراتيجية منفتحة".. تركز على العدو الأساسي، وتراعي هدف "التحييد" وكسب التأييد.
نبيل شبيب