رأي – مخاطر إعادة إنتاج الاستبداد باسم الثورة
نرفض إعادة إنتاج نظام استبدادي يتهاوى، ونرفض أيضا فرض أي وصاية على الإرادة الشعبية، وإن كانت باسم الثورة أو الإسلام
جوهر اندلاع الثورة الشعبية في سورية هو التخلص من الوصاية الاستبدادية على الإرادة الشعبية، فباستثناء سنوات معدودة لم ينقطع منذ عشرات السنين حديث كل متسلط يصل إلى السلطة بقوة السلاح، أنه يعبر عن الشعب ويحكم باسمه، ويطلق على كل من يعارضه وصف “عدو الشعب” ليتخلص منه.ومنذ اندلاع الثورة لم ينقطع ظهور أفراد أو تجمعات تقول حول “مستقبل السلطة” إن الشعب يريد كذا وكذا، ويرفض كذا وكذا، فانشغلت بذلك وتحولت في ساحات المواجهة الدامية وصنع البطولات الثورية.. إلى “ثورات صغيرة متعددة متباينة” وجميع ذلك قبل الوصول إلى هدف تمكين الشعب من أن يقول ما يريد بنفسه بشأن السلطة القادمة المنبثقة عن ثورته، المعبرة عن إرادته.
. . .
لا حق لأي طرف مهما كان شأنه، وأيا كان اتجاهه، أن يمارس مثل هذه الوصاية على الشعب الثائر، وبقدر ما نقول برفض أي حل سياسي أجنبي ينطوي على “إعادة إنتاج” النظام بعد احتراقه واهتراء بقايا قوة تسلّطه، بقدر ما يجب أن نرفض أيضا “إعادة إنتاج” جوهر الاستبداد الذي كانت “الوصاية” تجسده، أي أن نكرر ما صنعه الاستبداد بفرض وصاية على الإرادة الشعبية.الثائر الذي يتحرك من قلب صفوف الشعب الثائر، ويرتبط به أولا، ويلتزم بما يريد ثانيا، ويخضع لإرادته ثالثا.. هو الثائر الذي يمكن أن يساهم مع سواه من أمثاله في إعداد الطريق لتحقيق التغيير المطلوب عبر الثورة وما كان فيها من تضحيات وبطولات وما شهدته من معاناة وإنجازات.وكل من يتخذ موقفا يزعم فيه الآن المعرفة مسبقا، وكأنه يعلم الغيب، بما يريده الشعب بعد انتصار الثورة، وينصب نفسه في موقع الوكيل عن الشعب في رسم معالم مستقبله، لا يتصرف -إلا نادرا- دون وجود تأثير خارجي عليه، سواء عبر التمويل أو التسليح أو الفكر والتوجيه، فهو لا يحقق بذلك أهداف الثورة “الشعبية” بل أهدافه الذاتية أو أهداف من يتلاقى معهم من قوى خارجية تؤثر عليه.
. . .
إن تحقيق “انتصارات” في المواجهة المسلحة، أو انتصارات في المواجهة غير المسلحة، لا يعطي من يحقق تلك الانتصارات حق التقرير مسبقا بمصير شعب سورية الثائر، فالثائر لا يخوض المواجهة باسمه الشخصي، أو باسم اتجاه يتبناه شخصيا، وهو لا يملك الثورة ومسارها، إنما يحظى في هذه الحياة الدنيا بمكانة متميزة، ويستحق التأييد والمديح والتقدير، لأنه على استعداد لبذل ما يستطيع من أجل تنفيذ إرادة الشعب الثائر على الاستبداد والفساد والطغيان. ولكن يبقى الشعب الثائر هو مصدر هذا التوكيل، وهو صاحب الكلمة النهائية من قبل ومن بعد في تقرير مصيره، ومن ذلك اختيار من يتولى السلطة في بلده، وكيف يتولاها بعد انتصار ثورته.ومن الخطورة بمكان أن يقول بعضنا إن في يده مثل هذا التوكيل لأنه يتبنى توجها إسلاميا، أو لديه معرفة فقهية، أو وصل إلى مرتبة الاجتهاد.. فجميع ذلك يتناقض مع الإسلام الذي أغلق الأبواب من البداية في وجه من يتحرك على طريق شبيهة بطريق ما عرف بالإملاءات العقدية في حقبة استبداد كنسي سابقة.إن الانتساب إلى الإسلام عقيدة، أو علما وفقها، أو دعوة وإرشادا، أو عملا وجهادا.. جميع ذلك مشروط بشروط الإسلام نفسه، وليس بشروط اجتهاد أي طرف من الأطراف بما يتناقض مع أصوله ومقاصده، ولا يوجد في الإسلام ما يبيح لأحد أن يمارس الظلم، ومن أخطر أشكال الظلم أن أنصب نفسي وصيا على إرادتك التي ميزك الله بها عن سائر المخلوقات، أو أن أزعم لنفسي مكانة أتجاوز فيها ما تقتضيه الكلمة المعبرة للإمام مالك: كل يؤخذ منه ويترك إلا صاحب هذا القبر، أو أن أعتبر اجتهادي الشخصي هو الإسلام، بدلا من اعتباره “أحد” الاجتهادات، القابلة للخطأ والصواب، ناهيك عن أن أدعي لنفسي الحق في أن “أرغمك” على أمر من الأمور وكأنني لم أقرأ قوله تعالى {لا إكراه في الدين} و{أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} و{ما على الرسول إلا البلاغ المبين} و{فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
. . .
لقد بلغ مسار الثورة الشعبية في سورية مرحلة حاسمة، وكثير من الدلائل يشير إلى أن تحقيق هدفها “الأول” وهو سقوط بقايا النظام لم يعد بعيدا، ولا يجوز لأحد يعمل في صفوف الثورة، أن يساهم في تعطيل بلوغ هدفها الشعبي الثوري التالي، عبر محاولة فرض أي تصور مسبق على الشعب، صاحب الحق الأول والأصيل في أن يختار ما يريد، لا سيما إذا جمع بين هذا الوجه من وجوه ممارسة الظلم، ووجه آخر أشد خطورة وهو توظيف ما قد يملك من “قوة مسلحة أو قوة سياسية أو قوة علاقات خارجية” لفرض ما يريد على سواه، فهو يزرع آنذاك بذور استبداد جديد، وبذور ثورة شعبية تالية على استبداده.
نبيل شبيب