رأي – لا حصانة للمستبدين
لا حصانة لمستبدّين سقطوا ولا حصانة لمستبدّين على حافة السقوط
كل ثورة شعبية وصلت في مرحلة ما من مسارها إلى "عقدة" مطروحة علنا أو سرا بشأن مصير المستبدين، وسيان ما يعقد من اتفاقات بهذا الصدد فهي لا تكتسب صفة المشروعية طالما استبعدت أصحاب الشأن، أي الشعوب، فإيقاع العقوبة حق مباشر لمن أصابه الاستبداد بظلم، وهو حقّ لا يسقط بالتقادم ولا العفو ولا الحصانة المصطنعة ولا المساومات السياسية، ولئن قضى فريق من المستبدين نحبه، فلن يجد يوم الحساب مهربا، كذاك المهرب الذي تحاول صنعَه له تسويات ومبادرات ووساطات ومراوغات سياسية.
إن أيدي الإجرام الاستبدادي لا تُكفّ ولا تتطهر بمصافحتها.. ومن العار أن يدور أصلا الجدل حول تمكين شعب ثائر من مقاضاة المستبدين أو عدم تمكينه، حول مقاضاة من ارتكب الجرائم أو عدم مقاضاته. من العار أن يوجد ابتداءً من يتحدّث عن مثل تلك الصفقات، أو يسوّغها، أو يروّج لِمَن يعملون على تمريرها، لا سيما وأن هذا الحديث يتزامن مع مزيد من الفتك والتنكيل، أي مع إضافة المزيد من موجبات العقاب.
ولا حجّة لِمن يقول -دون أن يملك حق القول وتمثيل الشعوب الثائرة المعنية بما يقول- إنّ هذا يستهدف حقن الدماء.. فمن أراد حقا "كفّ أيدي" المستبدين، الذين يواصلون ارتكاب جرائمهم بحق الشعوب الآن، فالطريق إلى ذلك معروفة وممكنة.. وواجبة، وهي طريق تقديم الدعم الفعّال المباشر والكافي للشعوب الثائرة، على حسب احتياجاتها في ثورتها على الاستبداد، والوقوف الصريح العلني إلى جانبها دون تمويه، والرفض الرسمي المطلق للتعامل بأيّ شكل من الأشكال مع المستبدّين، والإعلان المسبق الحازم عن عدم الاستعداد لإيوائهم عند هروبهم أو سقوطهم.
كم يوجد من الأرامل والثكالى والأيامى والأيتام؟
كم يوجد من الشهداء والجرحى والمشوّهين والمعتقلين والمحرومين والمشرّدين؟
كم يوجد من عيون وقلوب تدمع، وألسنة وحناجر تصرخ: حاكموه!
إنّ مَن يساعد مستبدا مجرما على الإفلات من العقاب يشارك في حمل المسؤولية عمّا ارتكب من جرائم.
ولا مجال أثناء الثورات تحديدا أن يدور الحديث حول عدالة انتقالية وعن تسامح وعفو وإحسان، فالحديث عن ذلك قبل انتصار الثورة يدفع المجرم إلى وهم الإفلات من العقوبة وبالتالي إلى التمادي في إجرامه، وليس الإجرام مقتصرا على "فترة الثورة" بل كان هو سبب اندلاعها بعد ارتكاب الجرائم الاستبدادية باستمرار لعشرات السنين.
كلّ من يسعى للحيلولة دون مقاضاة المستبدين، تحت أيّ عنوان وبأيّ ذريعة، ودون الرجوع إلى أصحاب الحقّ الأصيل من الضحايا، إنّما يعبث بمثل ما اعتاد المستبدّون على العبث به، من معايير وقيم.
كلا.. لا حصانة لمستبد، لا حصانة لمرتكب جرائم جنائية، ولا جرائم سياسية، ولا جرائم ضدّ الإنسانية، مهما بلغ شأن منصب اعتلاه، ولو كان ذلك بالحق.. فكيف بأولئك الذين اغتصبوا التسلّط على الشعوب اغتصابا!
لا حصانة له.. ولا لأعوانه.. وعلى أعوان المستبدّين الذين لم يسقطوا بعد، أن يضعوا ذلك الآن نصب أعينهم، وألاّ يواصلوا تماديهم في تمكين المستبدّ من ممارسة ما يمارس ومشاركته في جرائمه.
ولا ينبغي للثوار الأحرار في أي بلد أن يساوموا على ما لا يملكونه من حقوق أصلا، فالشعب هو الأصل وهم مهما بلغت مكانتهم، مقيدون بإرادة الشعب وسيادته عل قراره.
ولا ينبغي لأي حكومة من الحكومات -بغض النظر عمّا تمارسه حتى الآن داخل حدود البلد الذي تحكم فيه- أن تقبل لنفسها بالتوسّط دفاعا عن السجّان ضدّ السجين، والقاتل ضدّ القتيل، والمجرم ضدّ الضحية، والفاسد ضد المحروم. وعلى أعوان تلك الحكومات، من أصحاب الاقلام وسواهم، ممّن يروّجون لِما تصنع، أن يقفوا وقفة صدق مع أنفسهم.. فلن تغني الحكومات عنهم شيئا، إذا وقفوا قريبا بين أيدي الشعوب الثائرة، أو يوم يقفون بين يدي الديّان.
لا حصانة لمستبدّين سقطوا.. ولا حصانة لمستبدّين على وشك السقوط.. فإن أفلت مستبدّ في هذه الحياة الدنيا من العقاب، فسلطته الاستبدادية ستكون عليه وبالا يوم القيامة.
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴿٤٢﴾ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴿٤٩﴾ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴿٥٠﴾ لِيَجْزِيَ اللَّـهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴿٥١﴾ هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
-سورة إبراهيم-
نبيل شبيب