رأي – شعرة معاوية بين واشنطون وأنقرة

التراجع الاستراتيجي مستحيل حاليا.. والتراجع التكتيكي يتكرر منذ فترة ويمكن أن يقع حاليا

42

 

إن تصعيد النزاع التركي/ الأمريكي حاليا لا يعدو أن يكون "حلقة تكتيكية" يمكن ربطها بانتخابات نيابية أمريكية قريبة، أو بممارسة الضغوط على خلفية صفقة تسلح صاروخية، أما النزاع الأكبر فهو أعمق من ذلك تاريخيا ومستقبلا، فلا يصح كثير من المقارنات الجارية على نطاق واسع مع أزمات سابقة بين الجانبين أو بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى، وبالتالي المقارنة بين طرق التعامل معها.

 

لقد تبدلت تركيا نفسها وتبدلت الولايات المتحدة الأمريكية وتبدلت نوعيات العلاقات الثنائية الدولية ومسرحها العالمي.. فلم تعد حاليا ولن تكون مستقبلا كما عرفت في عقود ماضية.

١- عام ١٩٦٤م اندلعت الجولة الأولى من النزاع اليوناني التركي في قبرص وهددت تركيا بالتدخل العسكري وهددت موسكو بالتدخل، فانحاز الرئيس الأمريكي جونسون آنذاك إلى جانب اليونان وأعرب في رسالة له للمسؤولين الأتراك عن عدم الوقوف أطلسيا من وراء تركيا إذا تعرضت إلى هجوم عسكري سوفييتي.

٢- عام ١٩٧٤م عندما نفذت تركيا تهديدها بالدفاع عسكريا عن أتراك قبرص، وأرسلت قواتها إلى الجزيرة، حظرت واشنطون تصدير السلاح إلى "الحليف التركي" لمدة أربع سنوات.

٣- أما الربط الحصري لمسار الخلافات التركية الأمريكية الحديثة بوصول حزب العدالة والتنمية للسلطة بزعامة إردوجان، فلا يصح دون شيء من التفصيل والتحديد، كما تشهد الأمثلة السابقة.

 

تاريخيا.. كانت تركيا ولا تزال دولة "مسلمة" بسكانها قبل سياساتها وأحزابها، أما التعامل الغربي المتميز معها "أطلسيا" خلال سيطرة العلمانية المتشددة على السلطة عسكريا، فيعود إلى أنها التجربة الأولى لعملية تغريب شاملة (من نوعية حروف الكتابة.. حتى العلاقات الاجتماعية اليومية) في بلد من البلدان الإسلامية.. وهنا يرصد الغربيون في هذه الأثناء أن التجربة أخفقت ابتداء من ظهور مندريس عام ١٩٥٠م وصولا إلى إردوجان وحزبه عام ٢٠٠١/ ٢٠٠٢م

ومستقبلا.. لن تكون الحاجة الأطلسية لتركيا شبيهة بما كانت عليه في حقبة الحرب الباردة، لا عسكريا ولا سياسيا ولا اقتصاديا، كذلك لم يعد يتردد الحديث عن دور تركيا "كجسر ثقافي/ حضاري" بين عالم غربي وعالم إسلامي، فالمتغيرات كثيرة على كل صعيد، ومن ذلك عسكريا كما يشهد تطور أساليب الصدام عبر الطائرات دون طيار وهجمات الاختراق الشبكية وغيرها.

 

إن المحاكمة التركية لقس أمريكي بتهمة التجسس ودعم "الإرهاب" يتحدى تعامل واشنطون مع الدول الأخرى بمنطق "حصانة الأمريكيين دوما.. مهما صنعوا في البلدان المضيفة".. وهو منطق معوج.

كذلك الرفض الأمريكي تسليم تركي متهم بتدبير عملية انقلاب فتسليمه يعني عدم اطمئنان عملاء واشنطون إلى حمايتهم إذا ما كُشف أمرهم بالدليل والبرهان.. وهو منطق استعلائي.

كذلك اتخاذ إجراءات ضغوط أمريكية تصنّف بأنها "عقوبات" (وهذه تسمية منكرة مسيئة تذكّر بأساتذة وتلاميذ من عصور متخلفة).. وهذا منطق الغاب.

وأخيرا.. سائر المظاهر الأخرى لتصعيد لهجة المواجهات السياسية والإعلام..

جميع ذلك لم يعد يمثل جوهر العلاقات الثنائية أو الجماعية بين الدول، وبهذا الصدد بقيت الولايات المتحدة الأمريكية "شاذة" عالميا أو هي مما يستحق وصف "دولة مارقة".

 

على هذه الخلفية.. لا يستبعد في "السياسات التكتيكية" أن تتراجع أنقرة حاليا (أي بعد فترة تميزت بالحذر من تراجع يمكن تفسيره بصورة تسيء إلى معركة الانتخابات في تركيا مؤخرا) فيراعي هذا التراجع مصلحة السلطة الأمريكية حاليا (أي قبل انتخابات وشيكة يراد تجييش "الإنجيليين" في غمارها)..

هذا جانب تكتيكي فحسب..

ولكن سواء تم تجاوز الأزمة الحالية (دون إراقة ماء وجه أحد الطرفين) أم لا، لن يتغير جوهر التطور السلبي المتواصل بمنظور تاريخي على صعيد العلاقات الثنائية.. وهو ماضٍ في اتجاه يتناقض مع مصالح البلدين، فقد أصبحت هذه المصالح بين شفرتي مقص في وضع الانفتاح، ويمكن القضاء عليها نتيجة أي حركة غير مدروسة، ولكنّ تكرار فترات التوتر وازديادها طولا، يجعل "المصالح" تتضاءل تدريجيا لتصبح في منزلة بقية باقية من "شعرة معاوية".

لا يرتبط هذا التطور بخطوات سياسية "تكتيكية" بل باهتراء تدريجي عالمي المستوى لعوامل قوة الهيمنة الأمريكية (وهي ليست عوامل عسكرية فقط).. وهذا مقابل ازدياد تدريجي للقوة الذاتية للدولة التركية الناهضة، وإن لم تصل إلى مستوى قوة دولية، ولكنها لم تعد دولة نامية.. ويشمل صعودها العلوم والصناعة والتجارة والعلاقات الخارجية مع الاعتماد على قواسم مشتركة للتلاقي السياسي الداخلي حتى مع المعارضة كما يشهد التفاعل مع الأزمة الحالية مع واشنطون، فضلا عن الاعتماد على الحاضنة الشعبية كما تشهد سلسلة الانتخابات والاستفتاءات الماضية.

إن صناع القرار بصدد العلاقات الأمريكية (بل الغربية) الخارجية غير معتادين على التعامل مع دولة "صديقة" على مستوى "ندّي"..

بالمقابل لم تعد تركيا -لأسباب عديدة.. وواحد منها: توجهات حزب العدالة والتنمية- في وضع عتيق كان قد نجم عن نتائج الحرب العالمية الأولى.

هنا يكمن جوهر أسباب النزاع، وهو ما يجعل أي تراجع جوهري (استراتيجي) من أي طرف مستحيلا، وهذا على النقيض من حالات عديدة لتراجعات جزئية تكتيكية (كما صنعت واشنطون مؤخرا في قضية تأشيرات السفر.. وما يمكن أن تصنع أنقرة حاليا في أزمة القس الأمريكي) وهذا منعا لانقطاع شعرة معاوية فهي ما يمثل بقية "مصالح" متوارثة من عهد سابق.

نبيل شبيب