رأي – بعض متطلبات المعركة السياسية

يطول الطريق نحو الأهداف ويقصر، وترتفع نسبة التضحيات فيه وتنخفض، بقدر ما نحسن أو نسيء اختيار أدوات التحرك واستخدامها

49

نرصد في مسار ثورة التغيير الشعبية في سورية مع انطلاق جولة أخرى من المفاوضات شبيه ما رصدناه عند النقلة الأولى من شهور سلمية الثورة إلى ما سمي عسكرتها، وكانت آنذاك نقلة اضطرارية نتيجة العنف القمعي الهمجي الذي واجهه أهلنا في مظاهراتهم وتجمعاتهم وهتافاتهم وراياتهم وشعاراتهم السلمية.

غالب من اعتاد على سلمية المرحلة الأولى من المسار اعتبر تلك النقلة خروجا على الثورة وأهدافها آنذاك. وغالب من اعتاد على المواجهات المسلحة في المرحلة التالية من المسار يعتبر النقلة الحالية التي يقترن فيها طريق "المفاوضات" بمتابعة العمل الميداني خروجا مشابها، والأصل أن تكون نقلة مدروسة  تضيف "عنصر المفاوضات" مع "أعداء الثورة" من خارج سورية، وليست في جوهرها "مفاوضات مع النظام" -كما يقال- فقد انتهى أمره وأصبح في مرحلة الموت السريري.

إن "المفاوضات" أداة.. مثلها من حيث الجوهر مثل أداة المظاهرة السلمية.. وأداة السلاح.. فنحن لا نغفل أن الثورة وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، وأن اختيار الأدوات يتم على أساس تقويم فائدتها لنجاح استخدام تلك الوسيلة وأدواتها من أجل تحقيق الأهداف دون أن تتبدل الأهداف نفسها، أو ما نسميه الثوابت المبدئية.

إن الطريق نحو الأهداف يطول أو يقصر، وترتفع نسبة التضحيات فيه أو تنخفض، بقدر ما نحسن أو نسيء اختيار تلك الأدوات واستخدامها.

وتتطلب المرحلة الحالية استخدام أدوات "التفاوض" و"العلاقات" و"التحالفات" و"لغة المصالح المشروعة" ولكن دون التخلي عن أدوات المواجهة المسلحة في الميادين، إلا عندما يظهر أن وقف استخدام أداة القتال لفترة زمنية معينة، جزئيا أو كليا، يخدم المسار باتجاه الأهداف الثابتة.

ومن الأهمية بمكان أن يقف عامة المخلصين موقف التأييد عبر ما ينتقدون أو يقترحون أو يصححون، كي يتمكن من يخوض المعركة السياسية مع المواجهات الميدانية من ضبط أدائه وتحسينه ورفع مستواه، ولا يتحقق ذلك قطعا عبر سلوك يجعل النقد السلبي نهجا، والتنديد التعميمي واجبا.

. . .

ليس القتال بحد ذاته هو هدف الثورة الشعبية، إنما هدفها الوصول إلى وضع الدولة المنبثقة عن الثورة، المحققة لأهداف الحرية والكرامة والعدالة والأمن والوحدة والتقدم، وهذا ما جعل "المقدمة" تتمثل في حتمية إزالة العقبة المانعة من جميع تلك الأهداف المشروعة خلال خمسين سنة مضت، ومن هنا كان شعار المرحلة السابقة "إسقاط النظام".. وينبغي أن ندرك أنه سقط فعلا، فما عاد يملك أمره، ولا عادت بقاياه صالحة لتعويمه من جديد، ولهذا أصبح الثورة أمام مهمتين متوازيتين:

١- استكمال إسقاط بقايا النظام.. وهذا ما يتطلب عدم انقطاع المواجهات الميدانية معها ومع من يمدها بأسباب متابعة عنفها الهمجي.

٢- خوض المعركة الدولية.. أي مواجهة ما كان يعنيه النظام المتهالك بالنسبة إلى قوى إقليمية ودولية عديدة، بعدد جنسيات الطائرات المقاتلة في الأجواء المستباحة من الوطن حاليا.. وهذا ما يتطلب إضافة مسار المعركة السياسية الجادة، إلى المواجهات الميدانية.

وقد أدرك قادة عدد من الفصائل المسلحة الكبرى ذلك، وظهرت الإرهاصات الأولى لذلك وبلغت عدم الاكتفاء بالمواقف السياسية عن بعد، والتي غلب عليها الاعتراض على ما يصنعه من تصدوا للجانب السياسي كما رأوه، بل اتخذ القادة الميدانيون القرار باقتحام الميدان السياسي أيضا.

وهذا ما سيجد القبول على نطاق واسع والتفاعل الإيجابي ثوريا، فتطوير المسار جزء من الثورة، وليس تغييرا لهدف الثورة.

. . .

للمعركة السياسية الإضافية جوانب عديدة يتكامل بعضها مع بعضها الآخر، منها على سبيل المثال:

١- الشفافية والتوعية بمعنى نشر المعلومات والحوار الواعي حولها من خلال "إعلام رصين هادف" وهذا واجب من يخوض المعركة السياسية من أهلنا في وطننا المشترك، تجاه البعيد عن "قاعاتها وأروقتها" من أهلنا في وطننا المشترك، وهم من يوصفون بالعناصر في الفصائل المسلحة، وكذلك الحاضنة الشعبية، كما أنهم يمثلون القريبين داخل الوطن، والمشردين خارج حدوده.

٢- الكفاءة والتخصص بمعنى الحرص إلى أقصى درجة ممكنة على عدم الخوض في قضايا دستورية وقانونية دون الرجوع إلى المخلصين من المتخصصين الحقوقيين، وعدم الدخول في جولات تفاوضية بأسلوب ارتجالي لا يسبقه التخطيط بالتعاون مع المخلصين من المتخصصين الاستراتيجيين، وعدم تمرير نصوص وعقود وتعهدات في ميادين سياسية واقتصادية وأمنية وغيرها، دون أن تكون مسبقا موضع دراسة متفحصة من جانب المخلصين المتخصصين في كل ميدان من هذه الميادين.

٣- الثبات والمرونة بمعنى التمييز الدقيق بين ما يخضع للتوافق وما يسمى "سياسة الأخذ والعطاء" وبين ما لا يمكن القبول بالمساومة عليه من الثوابت الثورية المشتركة الكبرى مثل "الثورة لكل السوريين"، وثوابت الدولة المستقبلية المطلوبة مثل "المرجعية هي الإرادة الشعبية"، وعدم المساومة لا يعني عدم الحوار مع "الآخر" بل يمكن الاستماع إلى جميع "استفزازاته" والرد عليها بتأكيد الثوابت من جديد، دون الانزلاق إلى أسلوب "المقاطعة المتسرعة" والتي تفقد مغزاها إذا تكررت مع كل "وضع مزعج مرفوض"، فهي الإجراء الأخير الذي يسري عليه "آخر الدواء الكي".

٤- التخطيط والتطوير بمعنى استدراك ما لم نصنع من قبل وحتى الآن، مثل خارطة الطريق التقنينية المطلوبة من الحقوقيين التي تبين مراحل الانتقال ومعالمه من وضع "الثورة" حاليا إلى وضع "الدولة" مستقبلا، مع عدم إغفال قابلية التعديل الإيجابي عند ظهور ضرورته، فالمخططات يمكن أن تتحول إلى قيود معيقة إذا بقيت جامدة، لا تراعي ضرورة المراجعة المستمرة والتعديل عند الحاجة، حسب ما يقع من تطورات وأحداث.

٥- التحالفات والمصالح فالساحة السياسية تجمع "أصحاب المصالح الذاتية" من قوى إقليمية ودولية، ممن لا يمكن الالتقاء الشامل مع أي منهم إطلاقا، ولكن يمكن العثور على "قواسم مشتركة" قليلة أو عديدة مع بعضهم، وهي الأساس لنشأة التحالفات ولغة المصالح المشروعة المتبادلة، وهي "السلاح الرئيسي" في أي معترك سياسي، لا سيما وأن أعداء الثورة يشكلون الكثرة الكاثرة من تلك القوى، فلا يصح الاستغناء عن التلاقي مع من يمكن التلاقي معهم على "قدر معين" من المصالح المشتركة والقواسم المشتركة، وإن تباعدت المصالح في ميادين أخرى.

. . .

وما سبق غيض من فيض.. وما نحتاج إليه كثير، وإذا كان المشاركون مباشرة في المعركة السياسية "قلة" من حيث العدد، فإنهم كثرة كاثرة عبر ما يجدون العون عليه ما داموا منفتحين بما فيه الكفاية على أهلهم المخلصين في كل مكان، لا سيما ممن يتوسمون فيهم أنهم من أصحاب المعرفة والخبرة في الميدان السياسي ومتطلباته، ومن الملتزمين بأهداف الثورة ولا يتزعزع يقينهم بانتصارها بإذن الله.

نبيل شبيب