ذاكرة مغترب – اغتيال اللغة

من الحضانة إلى الجامعة

من ضعف الثقة بالنفس وجود من يقول في بلادنا إن من لا تكون الإنجليزية الأمريكية هي بمكانة لغته الأمّ لا مستقبل له

0 57
التغريب اللغوي من المهد إلى اللحد

في حياة المغترب ما يكفي لتبرير زعمه أنه يرى في موضوع اللغة الأم واللغة الأجنبية ما لا يراه المقيم في وطنه، كما يرى مواطن الخطورة بصورة مباشرة، وهو يتابع ما يتعرّض له أطفال كثير من المدارس في عدد من دول الخليج ودول عربية أخرى، مما يجسد معالم جريمة بحق ارتباط أهل البلاد بماضيهم وحضارتهم وثقافتهم وهويتهم ناهيك عن دينهم وعروبتهم، وكذلك بحق مستقبل البلاد ومستقبل الجيل الذي يحمل أمانة بناء المستقبل أيضا.

وإذ يعيش كاتب هذه السطور في المغترب منذ عقود، فليسمح القارئ الكريم بحديثٍ موجز عن درسين اثنين من بين دروس عديدة، تساعد على بيان ما يعنيه تعبير الجريمة في هذا السياق.

عايشت ما أسميه الدرس الأول مع جيل الوافدين للدراسة في المغترب في الستينات من القرن الميلادي العشرين، مع نهاية حقبة شهدت في بلادنا حملات العلمانية الأصولية والتغريب الثقافي والفكري جنبا إلى جنب مع صعود دعوات القومية العربية، وهذا ما أوجد تناقضا كبيرا، أوصل مع مرور الزمن إلى انفصام تدريجي بين الشعارات النارية والواقع التطبيقي، فأدرك بعضنا معنى ما كان يُصنع وخطورته، بعد سلسلة من التجارب التي مزقت العرب بدلا من أن توحدهم، وأضعفتهم بدلا من تعزيز قوتهم. وقد دارت رحى تلك الجولة في بلد بعد بلد، لا سيما في فلسطين وسورية ولبنان والعراق ومصر والشمال العربي الإفريقي؛ وكان المغتربون يتابعون ما يجري في بلادهم، وما إن استقر بكثير منهم المقام لأسباب مختلفة، وأصبح لهم أسر يرعونها، وأطفال ينشؤون بين أيديهم، حتى أدركوا ما يعنيه الارتباط باللغة الأم للحفاظ على الهوية الذاتية من الذوبان، ولاكتساب القدرة على التعامل مع الحضارة الغربية تعاملا قويما، قائما على الأخذ والعطاء بين طرفين مختلفين، وليس على التلقي والانصياع من جانب الطرف الأضعف من حيث ظروفه ووسائله وإمكاناته، ونرصد في هذه الأثناء أن من حافظ على لغته وهويته آنذاك، استطاع أن يساهم في نجاة أولاده وأحفاده من الضياع، وعلى وجه الدقة من الانسياق في أوضاع يشكو أهل الغرب من نتائجها، ولا يرون سبيلا لنجاة أبنائهم وبناتهم من أمراضها الاجتماعية الوخيمة.

إن ألم المغترب مضاعف أضعافا كثيرة عندما يرى حملة تذويب هوية أبنائنا وبناتنا في مواطنهم الأصلية، ويرى أمركة ألسنتهم وصدورهم، وهم في سن الطفولة والنشأة الأولى.

أما الدرس الثاني فقد عايشته مع الجيل الأول من أهل البلاد الأصليين في المغترب في ألمانيا، وكانت ألمانيا في الخمسينات من القرن الميلادي العشرين بلادا مدمرة، مجزأة، مستعمرة، مصانعها مفككة، وأدمغتها مهجرة، وليس لنقدها قيمة، وليس فيها ثروة طبيعية، وجميع مدنها أكوام من الأحجار، حتى أن الدولة الوليدة بعد الحرب لم تجد عاصمة لنفسها سوى بون، التي كانت بحجم قرية صغيرة، ولكن تميزت بنجاتها من دمار الحرب. ثم عايشت كيف تحولت ألمانيا خلال جيلين بعد الحرب العالمية الثانية  إلى دولة لا يُستغنى عنها في المحافل الدولية وإن لم تكن لها عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، ولا يستهان بقدرتها الصناعية والمالية والتجارية، ولا بمشاركتها العسكرية عالميا، ولكن النهوض من تحت الأنقاض إلى قمة التقدم التقني والعلمي والصناعي، كان باللغة الألمانية الوطنية وليس باغتيالها، وكان بجعلها لغة العلم والتقنية والتقدم والأدب والفن والإعلام والتدريس من الحضانة إلى الجامعات وليس بسجنها وخنقها، فلم يكن النهوض يحتاج إلى الأخذ بلغة دولة الاحتلال الأمريكية، بمشاركة فرنسية وبريطانية وروسية، فلم تتحول المحاضرات في الجامعات إلى لغة أجنبية، ولم توضع المناهج وفق إملاءات خبراء أمريكيين، ولم تتحول اللغة الألمانية الأم إلى لغة أجنبية داخل ألمانيا واللغة الأمريكية إلى لغة التدريس، تدريس الأطفال، كما يجري الآن في بعض بلادنا، إلى جانب تغريب حياة رجال المال والأعمال، وتغريب الدعايات التجارية، وتغريب أسماء المتاجر، وتغريب الفضائيات، وتغريب ألعاب الحاسوب وغيرها.

إن ما يجري من تغريب لغوي في بلادنا بدرجات متفاوتة، لا يمكن تسويغه بحال من الأحوال بأن طلب النهوض يفرضه، ولا أن سطوة الزعامة الحضارية الأمريكية الحالية تفرضه، ولا أن الطفل الذي لا تصبح الإنجليزية الأمريكية بمكانة لغته الأم لا مستقبل له.

* * *

وكنت أرصد ولا زلت أن ما يجري لا يجري اعتباطا، فمن يجعل من شروط التوظيف أن يتقن طالب العمل الإنجليزية وإن لم يتقن العربية، لا تصدر أوامره جهلا بما يعنيه ذلك من تأثير وتوجيه.

ومن يجعل دروس الدين واللغة العربية مقتصرة على بضع ساعات أسبوعية، وغالب الدروس الأخرى بالإنجليزية، لا يصنع ذلك عن غير قصد.

وإن توظيف خبراء أمريكيين، وصرف الملايين أجورا ومرتبات لهم، لتكون لهم الكلمة الأخيرة في المدارس من دون مدرائها وأساتذتها من أهل البلاد الأصليين، يدمّر هوية الأطفال والأساتذة والبلد معا.

إنّ القضية التي تتحدّث عنها هذه السطور ليست قضية تعلّم لغة أجنبية فهذا أمر مفروغ منه، والجدلُ حوله جدل ملغوم يلفت النظر عن حقيقة الجريمة التي تُرتكب جهارا نهارا، وبصورة منظمة موجهة، وقد كان تصعيدها بخطوات أسرع وأشمل وأعمق تأثيرا، سنة بعد سنة خلال السنوات العجاف الماضية؛ إنها جريمة كبرى بحق المستقبل وجيل المستقبل، ويشارك في حمل المسؤولية عنها، كل من يشارك في التنفيذ، فتلك من قبيل الطاعة في معصية الله، بل هي المشاركة في خيانة الله ورسوله والمؤمنين، وخيانة كتاب الله ولغة كتابه الكريم، لغة العقيدة والتفاهم والارتباط بالتاريخ، ولغة حياة الذات الفردية والجماعية، ولغة العلم والتقدم وبناء المستقبل.

كل معلم ومعلمة، وكل مدير دائرة ومديرة، وكل صحفي وصحفية، وكل أديب وأديبة، وكل مفكر ومفكرة، كل إنسان في جميع بلادنا، مسؤول عن اتخاذ موقف الرفض إزاء أمركة أدمغة أطفالنا وقلوبهم وألسنتهم، ونزع العروبة والإسلام من صدورهم وعقولهم، بأي ذريعة من الذرائع وفي أي ظرف من الظروف.

وإن الحديث عن هذه الجريمة هو حديث الخشية على بلادنا وأهلها ومستقبلها من شر كل من يريد بها وبشعوبنا شرا، سيحاسب عليه فردا، يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا تنفع أقلام وإبداعات ولا تنفع عروش وجيوش ولا تنفع دول كبرى وصغرى، ولا تنفع أعذار مزورة وذرائع واهية، إلا من أتى الله بقلب سليم.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.